يقول علماء الإجتماع والإدارة أن النظام يولد من الفوضى. ومن يدري ما ستتمخض عنه هذه الفوضى التي تتحكم في العراق وعلى كافة الأصعدة. هل سيولد حقاَ نظام يتلافى أخطاء الماضي ويحقق نوعاَ من الرفاهية للعراقيين جميعاَ دون تمييز أو تهميش أو إضطهاد. ربما ستكشف لنا الأيام ما كنا نجهل، ويأتينا بالأخبار مالم ننبئ-مع الإعتذار للشاعر الجاهلي-.

الذي يتابع أوضاع الواقع الشيعي العراقي سيصاب بكل تأكيد بالإحباط بسبب تعدد وتكاثر مراكز صناعة الفشل فيه. واقصد بالواقع الشيعي هو هذا التكوين، أو المجتمع الشيعي بمؤسساته الإجتماعية، وتنظيماته السياسية، وشخصياته المتنفذة، ومرجعياته الدينية والقبلية. إضافة إلى مكونات مايسمى بالمجتمع المدني كالنقابات والمشاريع الخيرية وما شابه. وينقسم المتابعون لهذا الواقع في تسمية أو تعريف الشيعي. فقسم يستبعد العلمانيين، والغير ملتزمين من قواعد هذا الواقع الشيعي،ويجعل الشيعي هو الملتزم دينياَ بتطبيق الأحكام الدينية. بينما يتوسع آخرون في هذا التعريف، ليضموا له كل من ولد من أبوين شيعيين، أو أحياناَ أخرى من أب شيعي، بغض النظر عن مدى إلتزام أو درجة "إسلامية" هذا الفرد أو ذاك. وبالتالي يلحق هذا التعريف بالشيعة العلماني واليساري والليبرالي والشيوعي أيضاَ.

وإن كنت في هذه الظروف أميل إلى التعريف الثاني، نظراَ لظروف العراق الغير طبيعية والتي أدت إلى فرز طائفي، مارسته السلطات الحاكمة ولمدة زمنية طويلة. وهي ظروف جعلت المجتمع العراقي يعيش موجات إرتدادية كبرى على إثر عمليات هندسة إجتماعية ذات منحى راديكالي في مقاطع متعددة سواء على مستوى الوطن الأم أو الهجرات المختلفة. هذه الموجات الإرتدادية لم تكن تظهر بوضوح خلال الحقبة السابقة نظراَ للتعتيم السائد، مع أساليب الدفن المتعمد.إلا أن الآثار المدمرة بدأت تبرز إلى الوجود شيئاَ فشيئاَ بعد سقوط النظام وخاصة على البنية الإجتماعية والنفسية للإنسان العراقي، والتي يبدو أنها تركت شروخاَ ليس من السهل محو آثارها.

في وسط هذه الأزمة تبدو الحاجة ضرورية جداَ كي نبدأ عملية تقييم شاملة لواقعنا الشيعي العراقي بشكل خاص، والواقع الشيعي بشكله الأعم، حتى تتبلور لدى بعضنا على الأقل أفكار ورؤى تنقل هذا الواقع، أو بالأحرى تحاول إنتشاله من الوضع المزري الذي ينوء تحته.

سأحاول هنا إستشراف آفاق المستقبل للواقع الشيعي العراقي-من شقه الإسلامي بالطبع- على ضوء الأحداث والظروف المحيطة بالعراق وبهذا الواقع الذي يعتبر جزءً لا يتجزء من العراق. وسأعتمد في تحليلي على مفهوم "التخطيط الإستراتيجي"، والذي يستخدم كأداة فعالة في صناعة القرار. ويعتمد التخطيط الإستراتيجي على تحليل الواقع المحيط بالمؤسسة أو التنظيم أو الجهاز أو "واقعنا الشيعي" –ربما- ومحاولة طرح حلول أومقترحات لتطوير وضع المؤسسة وتمكينها من مواجهة تحديات المستقبل، وذلك من خلال تقديم إستقراء مستقبلي إستباقي للأحداث، خاصة إذا ما وجدت هذه المؤسسة في ظروف متغيرة وغير مستقرة وفي بيئات ديناميكة دائمة الحركة. ويهدف التخطيط الإستراتيجي فيما يهدف إليه إلى بلورة مفهوم تفكير إستراتيجي لدى قيادات المؤسسة أو الجهاز يتكمن من خلالها القائد أو القيادة من إتخاذ القرار السليم في كافة الظروف. كما يهدف التخطيط الإستراتيجي إلى تكوين تعريف لمهمة ووظيفة هذه المؤسسة أو ذاك الجهاز أو تلك الجماعة أو التنظيم. ويعتبر تكوين تعريف دقيق لوظيفة المؤسسة في عمقها المرحلي والمستقبلي من أهم الشروط التي تضمن إستمرارها. كما ويحاول هذا النوع من التخطيط خلق إستراتيجيات عمل في المحيط الذي تعمل فيه المؤسسة، تتمكن المؤسسة من خلالها من تنفيذ الوظيفة أو التصور أو الأهداف التي تحملها. أما الهدف الأخير فيحمل مضمون إنشاء بنية مؤسساتية أوتشكيل تنظيمي يتناسب مع الأهداف واساليب العمل والظروف المحيطة.

الذي أحاول أن أذكره من هذه الخلاصة عن مفهوم التخطيط الإستراتيجي، أن الواقع الشيعي العراقي خرج من المرحلة السابقة، ولمّا يستعد بشكل جيد للمرحلة اللاحقة. وعدم الإستعداد هذا-إن تكلمنا بحسن نية واسميناه عدم إستعداد- مؤداه فيما يبدو إلى خلل عميق في التفكير الإستراتيجي على مستوى القيادات الموجهة لهذا الواقع بمؤسساته وأجهزته ومرجعياته وشخصياته. إن التفكير الإستراتيجي يعني تقدير أو تكوين فهم للمعطيات الداخلة في صناعة القرارإستناداَ على ثلاثة أسس
وضوح الغايات والأهداف بشكل كامل لا لبس فيه
فهم واضح وجلي للظروف والبيئة المحيطة، وخاصة لتلك القوى التي تؤثر سلباَ أو إيجاباَ في تحقيق تلك الأهداف
ومن ثم تطوير إستجابة مؤثرة وفعّالة لتلك القوى.

في تصوري فقد فشلت مراكز صناعة القرار في الواقع الشيعي في تفكيرها الإستراتيجي حسب الشروط الآنفة الذكر، مما أثر على قراراتها المتعلقة بمراحل الصراع المختلفة، وأساليب إدارتها للصراع. ومن ثم دخلت في تخبطات كانت تبدو جلية للعيان في أغلب مراحل الصراع مع النظام السابق، وفي المرحلة التي تلت إسقاط هذا النظام. فعلى الرغم من أن بعض التنظيمات أو المؤسسات أو المرجعيات أو الشخصيات كانت –على ما يبدو- تمتلك في مراحل ما قبل الصراع المسلح أو الفترة الأولى من الصراع المسلح مع النظام السابق رؤىً وأهدافاَ واضحة، إلا أنها شأنها شأن أغلب أطياف الواقع الشيعي العراقي بدأت تفقد شيئاَ فشيئاَ تصورها الأولي الواضح عن طبيعة أهدافها، سواء تلك المرحلية منها أو البعيدة الأمد. وهي في فقدانها لهذا الشرط فقدت اسس إتخاذ القرارالسليم كمرحلة تالية أدى إلى عدم إجادة تعاملها مع المحيط الذي كان مهدداَ لوجودها في أغلب الأحيان مما جعلها في حالة هي أقرب إلى حالة إنعدام الوزن في التعامل مع الأحداث والتهديدات، بل والفرص السانحة أيضاَ. وكما فشلت في المحافظة على الأهداف أو تكوين أهداف جديدة، فقد فشلت أيضاَ في فهم البيئة التي كانت تعمل بها، وأصبحت سمة ردود الأفعال، والإنجرار إلى حروب جانبية، ومحاولات تسقيط من هذا الطرف أو ذاك هي السمة الغالبة على أداء مراكز القرار في الواقع الشيعي العراقي. مما أدى إلى إرباك الواقع الشيعي العراقي برمته، إضافة إلى إهدار كم كبير وهام من الموارد، على المستوى الإقتصادي، والنفسي وإنكفاء الكفاءات، ، بل وحتى على مستوى إهدار الوقت والفرص. وقد إنعكس هذا القصور على مستويات تطوير إستجابة فعالة وذات كفاءة لمواجهة التحديات، أو محاولات التآكل والتخريب. كما أدى هذا القصور إلى تضييع فرص ذهبية كان يمكن أن تتمكن من خلالها أن تطور اساليب تنهض بهذا الواقع الذي كان وما زال ينزف الكثير الكثير من موارده البشرية، والعلمية، والإجتماعية، والنفسية وغيرها. وكمثال نستطيع أن نذكر مدى إنعكاس ذلك على وضع الكثير من الأسر والعوائل والتي إرتبط معيلوها، أو أفرادها بمفاصل هذا الواقع التي تعرضت للضرب أو الإستئصال خلال فترة المواجهة مع النظام السابق. حيث نكتشف فيما بعد أن هذه المفاصل كانت بعيدة جداَ عن التواصل مع هذه العوائل التي كانت تعيش في أصعب الظروف، وتعرض الكثير من أبنائها إلى أن يكونوا حالات عوز وإنحراف. كما نلاحظ مثلاَ عدم إنفعالية المرجعية تجاه أوضاع ضعف شديدة أصابت الواقع الشيعي العراقي في مختلف قطاعاته دون أن تحاول وضع حلول معقولة تتناسب مع إمكانيات تحركها. وكما نلاحظ اليوم هذا التخبط العشوائي الذي لا يعرف إلى أين يتجه، ومع من يتحالف، وعلى أي رأي يقف، وبأي شكل يسير. ما نراه اليوم من إنعدام الهدفية، والتنسيق، والتهويل العشوائي الفوضوي. وما نراه اليوم من عدم وجود أولويات واضحة، أو قواعد عمل تنظم طريقة تعامل أحدنا مع الآخر. ولي عودة –إن شاء الله- لإكمال الموضوع.