س : الإسلام المتأمل في نصوص القرآن الكريم، سرعان ما يدرك كثافة الآيات التي تسند المسؤولية إلى الإنسان في تقرير مصيره، غير أنّ المتداول من الروايات، وتحديداً في إطار علاقة الولي بالأمة، يحصر دور الفرد، وبالتالي الجماعة، في حدود الطاعة دون أن ترتسم صورة المسؤولية التي تظهر جليةً في القرآن!.
الشطر الأول من السؤال يثير مسألة ابتعاد مؤدى النصوص القرآنية عن مؤدى بعض الروايات بما قد يوحي بالتعارض وربما بالتناقض؟
ج : عند متابعتنا الخطاب القرآني، نرى أنّ الرسالة الإسلامية بكل مفرداتها موجهة إلى الإنسان، فهي تحـثّـه في الواقع على تجسيد قيم الرسالة ومفاهيمها في مختلف الدوائر (الشخصية - العامة).
ولا نجد ثمة اختلافاً بين الخطاب العام الذي يحدد المناخ ويصنع الأجواء العامة، وبين الخطابات الخاصة، سواء تلك الواردة في عنوان «أطيعوا»، أو مختلف العناوين الأخرى التي متعلقها المسؤولية الخاصة أو العامة.
فبعض الخطابات القرآنية تتولى تحديد الترسيمة العامة، بينما تتجه الخطابات الأخرى إلى تحديد الآيات، إذا صحَّ التعبير.
ولبيان المراد، بصورة أوضح، سنتعرض لأنموذجين من الخطاب: واحد مجمل وعام ولا يتضمن صيغاً تنظيمية دقيقة، كالآيات التي تنهى عن الركون إلى الظالم، أو تأمر بالاستجابة لله وللرسول (إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال: 24]، وما إلى ذلك، وآخر مباشر يوجه الناس إلى وجوب الإطاعة كتعبير عن التزامهم بالقرآن، كالنص القرآني الذي يأمر بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر.
وولي الأمر، في هذا الإطار، يمثل العنوان القيادي الحركي الذي يتولى مهمات إدارة المفردات في الواقع.
س : ما نقصده من السؤال السابق، أنّ الروايات عند تناولها موضوع الطاعة أو دائرة الولي ومسؤولياته، تجتاح المساحة التي يخاطب القرآن بها الإنسان كمسؤول، وهذه المنطوقات تشعر وكأن الأمة مسلوبة الدور والإرادة، وهذه الدلالات قد تشي أو توحي بالتعارض بين الخطاب القرآني، المرجع الأول والحاسم، والذي يركز على مسؤولية الإنسان الفرد والجماعة، وبين بعض الروايات التي تعطي صلاحيات تامة أو شبه تامة للولي!.
ج : في هذا المقام، يحسن التمييز بين الممارسات السلوكية في الذهنية الإسلامية المعاصرة، وخصوصاً في نظرتها إلى الولي، وبين المفهوم القرآني والسنّتي؛ فهناك ذهنية تحاول أن تستغرق في شخص النبي، الإمام الولي، حتى يخيل إليك أنّ المسألة مرتبطة بشخصية أكثر مما هي مرتبطة برسالة، بمعنى أن تعطى الرسالة قيمة، لا من ذاتها، وإنما باعتبار مَن حملها، سواء كان النبي أو الإمام أو الولي، الأمر الذي يجعل الرسالة ثانوية قياساً على حاملها.
ثمة نوع من أنواع الفهم الذاتي للمسألة، قد توهم بطغيان الفرد على الرسالة، مع العلم أنّ القيمة الفعلية هي للرسالة، حتى عندما يقال: إنّ الراد على الولي كالراد على الله، لا باعتباره بات ظل الله على الأرض، كما صوّر ملوك أوروبا أنفسهم قبيل عصر النهضة، وإنما باعتبار أنّ هذا الولي إنما يحكم بشريعة الله وبحكمه، وأي انحراف عن حكم الله يفقد هذا الولي أو ذاك مصداقيته ويسقط وجوب إطاعته، ولعلّ دلالة الرواية التالية واضحة في بيان هذا المعنى: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فاجعلوه بينكم حاكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً». وهذه الرواية توافق من ناحية المضمون دلالة الآية القرآنية الكريمة التي تربط إطاعة الرسول بإطاعة الله تعالى: (مَن يطع الرسول فقد أطاعَ الله) [النساء: 80].
المشكلة التي توحي بكل التساؤلات المتداولة والمطروحة بصيغ إشكالية، هي أنّ هناك استغراقاً في ذات الولي، بحيث ينظر إليه، بحسب المصطلح، نظرة موضوعية لا طريقية، ما جعل المسألة تتحرك بعيداً عن الأمة ودورها، بل عن الرسالة ودورها، ولعل هذا النمط الثقافي هو الذي جعل الناس تستغرق في الأنبياء والأولياء أكثر من استغراقها في الرسالة وفي القرآن الكريم.
ثمة كثير من الروايات والأحاديث التي يتم تداولها في الدائرة التفاضلية وفي إطار المقابلة بين كتاب الله تعالى وبين الإمام أو الولي... إلخ، وهذا يكشف عن ميلٍ لتغليب الجانب الشخصي والذاتي، ولعل هذا المنحى في التفكير بات يستحوذ على بعض الذهنيات الإسلامية في نظرتها إلى الموقع القيادي.
في المقابل، إذا أردنا أن ندرس المسألة من خلال الخطاب القرآني أو الأحاديث الواردة في الولاية، فإننا لا نعثر على مثل تلك المفاهيم السائدة اليوم، فالقرآن الكريم يقدِّم لنا شخصية الرسول في إطار شخصية الرسالة وليس العكس، كما نجد أن الرسول (ص) لا يتحدث ذاتياً عندما يأمر أو ينهى؛ (وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...) [هود/61]. وكذا النبي محمد (ص) عندما يتحدث عن نفسه يقول: (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد)، حتى عندما نقرأ بعض النصوص القرآنية التي تأمر بإطاعة الرسول، فإنها لا تنطلق من اعتبار الطاعة ذاتية، بل من خلال متابعتها في تفصيل تعاليم الرسالة في الواقع، فنلاحظ غياب شخصية الرسول في إطار التبليغ وبروز الرسالة (فإنهم لا يكذِّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام: 23]، فالتكذيب ليس موجهاً إلى النبي (ص)، وإنما موجه إلى الله سبحانه وتعالى.
جدلية العلامة بين القيادة والقاعدة
س : لذلك نقول، إنّ هذه الفكرة لا تتنافى مع وجود دور للأمة في هذا المجال، لأنّ القائد لا يلغي جمهوره أو قاعدته، والقرآن يدل على أنّ القيادة غير منفصلة عن القاعدة، نقرأ في كتاب الله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم) [الفتح: 29].. إلخ.
ج : نعم، هناك الرسول والذين معه، وكذا الآية الكريمة: (وشاورهم في الأمر) [آل عمران: 159]، فالقرآن لا يلغي الأمة، بل يتحدث عن الظاهرة المشتركة؛ الأمة والقائد، يتحدث عن الرسول الذي ينفتح على الأمة فيطلب مشورتها، بقطع النظر عما إذا كان في حاجة إلى هذه المشورة أو لا. من هنا، يأتي التأكيد على أن الخطاب القرآني لا يؤكد الذاتية في الوليّ، ولا ينفي الدور الذي يمكن أن تلعبه الأمة.
س : الأمة، وهي تعيش في ظروف سياسية جديدة، أي في إطار دولة إسلامية معاصرة، فهل إنّ دورها محصور في التلقي والانفعال، أم أنّ ثمة حيزاً معيناً يمكن أن تشارك فيه؟ وأنّ القائد سواء كان رسولاً أو إماماً أو فقيهاً يفترض به أن يمارس دوراً تربوياً من أجل توجيه طاقات الأمة؟ باختصار، المطلوب هو معرفة حدود السلطة التي يمكن أن تمارسها الأمة والحدود التي لا يمكن أن تمارس فيها السلطة.
ج : إنني أفهم من هذا السؤال، أنّ دور الرسول أو الإمام هل هو مجرد دور الآمر والمطاع دون أن يكون له دور في تفجير طاقات الأمة وتربيتها وتحريكها؟؟
في الواقع، إذا ابتعدنا عن فرضية الذاتية التي تتقبل بها الأمة أوامر الرسول ونواهيه، بطريقة ضبابية خاشعة دون وعي المضمون والمقاصد، فإننا قد نبقى أسرى مناخ التلقي والانفعال السلبيين، ولكن المسألة ليست كذلك. مثلاً، إذا تأملنا في آية الشورى التي تأمر النبي (ص) بمشاورة المسلمين، فإننا نستوحي منها أنّ على الرسول أن يشاور الأمة في كل ما يفكر فيه في حركة الواقع، سواء كان يستهدف أخذ الرأي، كما يذهب بعض الاتجاهات الكلامية، أو لمجرد الاطّلاع والاستئناس مع وعيه للقضايا الواقعية.
الفكرة المحورية، في هذا المقام، أنّ ثمة مبدأً قرآنياً يفرض على الرسول أن يشاور المسلمين، وتجربة النبي (ص) مليئة بالشواهد، لا سيما في الحروب، كما نقلت كتب السيرة. وقد اختلف المسلمون كثيراً حول الدوافع، وخضعت الشواهد التاريخية لعمليات تأويل، كأن يقول البعض إنّ الرسول (ص) كان يوحي للمسلمين بأنّ له رأياً ليستدرج المستشارين إلى رأي آخر، وإذا صحَّت الأحاديث أنّ المسلمين كانوا يستوضحون قبل إبداء الرأي المخالف، فيما إذا كان هذا المورد أو المسألة هو وحيٌ من السماء أو رأي ارتآه ليرجع إلى رأي المسلمين، هكذا يتبين أنّ الرسول (ص) لم يكن بعيداً عن أمته، بل يتحسس كل آلامها، ونحن عندما نقرأ الآية الكريمة: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [التوبة: 128]، فمعنى ذلك أنّ هناك حالة شعورية تنطلق في المجرى السلوكي للنبي مع الأمة، كان يترجمها احتراماً وانفتاحاً عليها.
في ضوء ما تقدم، يتضح أنّ الأمة لم تكن كمّاً مهملاً، أو كياناً ملغى من الحساب، بل كان لها حضورها.
ما نريد قوله، في هذا المقام، إنّه لا منافاة بين الأمر بالطاعة وبين حضور الأمة في الواقع العام، لأنّ مسألة الطاعة تتصل بالنظام العام، وهي مسلك عقلائي تلتزم به مختلف أنظمة العالم، وليس ثمة فرق بين انتخاب القيادة لتحكم، وبين التعيين، لأن خيار الأمة في القبول والرفض هو داخل النظام.
المفروض أن يكون مجتمع المسلمين معتقداً بالرسالة وبالرسول، وبالتالي ملتزماً بأوامر الرسول ونواهيه، تماماً مثل فكره وخطه، والرسول (ص) عندما ينطلق في التطبيقات لا يخرج عن الوجدان الثقافي العام للأمة، مع العلم أن الدائرة التي يتصدى لها الرسول (ص) تتناول الأحكام الشرعية الموحى بها من الله تعالى، ودائرة الأحكام التفصيلية التي هي بمثابة خطوط خاصة مستنبطة من خطوط عامة. بعبارة أخرى، هناك دائرة التشريع ودائرة التطبيق، أي بُعد الوحي وبُعد العقلاء. فالرسول (ص) في الدائرة التشريعية يعبر عن الوحي، والأمة تسلم له مقاليدها لاعتقادها برسالته وصدقه، أمّا في الدائرة العقلائية فيتفاعل مع الأمة بها، ويكون حكمه حكم الأمة، طالما أنه يتحرك من خلال المشورة، وعليه، ينبغي على الأمة أن تطيع.
هذا كله بالنسبة إلى الرسول أو الإمام، أما في ما يتعلق بالفقيه، الذي قد يحكم وفق نظرية ولاية الفقيه أو من خلال الشورى أو أي صيغة أخرى، فإنّ للأمة حق الرقابة، وبإمكانها أن تعزل الحاكم باعتبار أنها آمنت بدوره وصلاحياته في ضوء معطيات تؤهِّله لهذه القيادة، ومن الطبيعي إذا انحرف أن تبادر الأمة إلى عزله. إذاً رقابة المسلمين على الولي الفقيه أو مطلق ولي غير معصوم هي رقابة حقيقية.
س : السؤال هنا، أنّ الأمة في هذا الإطار هل هي مجرد مراقب، أي تتلقى الأوامر في مختلف الجوانب والحقول، وهي مطالبة بالالتزام إلاّ إذا تبيّن لها أنّ ثمة انحرافاً، عندها عليها الخروج على الفقيه وعزله إن لم يبادر إلى تصحيح الاعتراف أو الاعتراف بالأخطاء؟
ج : لا، المسألة هنا مبدأية، وعندما نقول إنّ الأمة هي أساس الحكم، فعندئذٍ لا مجال لنظرية ولاية الفقيه.
س : المسألة ليست في هذه الحدّة، إمّا الأمة وإمّا الفقيه، لكن يمكن الجمع، بمعنى أن ثمة دائرة علاقة الفقيه محصورة في رؤيته وفهمه للنص الشرعي، وأخرى في إطار التنظيمات والاجتماعيات، فهذه منطقة فراغ، وهي واسعة جداً قد تغطي نسبة عالية من نشاطات الإنسان قياساً بدائرة الأحكام الكلية.
ج : إننا نعتبر أنّ مسألة ولاية غير المعصوم لا تلغي دور الأمة في اختياره، لأنّ الأولياء كثيرون وقد يتساوون، وقد يفضل بعضهم بعضاً. وفي هذا المقام، البعض يسند أمر تعيين أحدهم إلى اختيار الأمة، تماماً كما يتحدث الفقهاء بمسألة تعدد المجتهدين في القضاء، واختيار المتحاكمين للقاضي هو الذي يعيّنه ويمنع القاضي الآخر من التصدي للقضية المتنازع عليها. فإذا انطلقنا من هذه الفرضية، فيمكن أن نقول: إنّ الأمة هي التي تعيِّن الولي، أي هي التي تعطي ولايته الدور الفعلي الذي يميزه من الآخر، ولكن ليس بمعنى أن تمنحه شأنية الولاية والدور، فهذه عامة وموجودة في كل فقيه على حد سواء.
فالذي نستطيع قوله هنا، إنّ النظرية الفقهية، فيما يرتبط بالولي غير المعصوم، لا تفرض إلغاء دور الأمة، سواء في مجال الاختيار والتعيين، أو العزل أو النصيحة وتقديم المقترحات والأفكار، فنحن عندما نقرأ نص الإمام علي (ع)، الذي نعتقد عصمته، في معرض حديثه عن العلاقة التي يفترض بها أن تقوم بينه وبين الأمة، يقول: «لا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه مَن استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطىء»، فإننا نتناول هذا النص لنستوحي منه حق الأمة في تنبيه الحاكم على خطئه وتوقيفه عند حدّه.
الولاية الأصيلةن
س : السؤال المطروح في المقام هو حدود الولاية والأمة، وهل تملك بالأصالة قدراً من الولاية أم لا؟ وإذا ما سمح لها بممارسة بعض ما يشعر بالحق، فإنه في الواقع ممنوح لها وهي مجرد وكيلة عمن بيده الولاية الأصيلة، وإذا كان واقع دور الأمة هو الاحتمال الثاني، أي أنّ ولايتها بالوكالة لا بالأصالة، كيف نفسر الآيات الكريمة التي تثني على المبايعين للرسول، لا بل تتحدث آيات أخرى عن المبايعة المتبادلة؟
ج : أحبُّ أولاً أن أوضح المراد من كلمة الطاعة الواردة في القرآن الكريم، والتي قد تبدو متقابلة مع مفردة البيعة، فالطاعة هي أمرٌ جارٍ على مختلف المستويات النظرية وفي الشأنين السياسي والإداري، فإذا كان ثمة قيادة، بقطع النظر عن حيثية الوصول إليها، فهي لا بد أن تطاع، فهذه نتيجة، أي الطاعة لازمة للسلطة، لكن كيف يكون هذا القائد وما هي أسس قيادته وهل الأمة تعيّنه أم الله... إلخ؟ فهذه مسألة أخرى. لذا لا نستطيع أن نستوحي من الأمر بالطاعة مفهوماً سلبياً، بل حتى إيجابياً، لأن الأمر لا يتعدى النتائج.
أمّا مسألة البيعة التي وردت في قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) [الفتح: 10]، فقد وردت في بيعة النساء، أو وردت في آيات أخرى، فتنقلنا إلى دائرة أخرى، وفي هذا الإطار، وهناك نظرية تقول إنّ البيعة تعطي الشرعية للحكم، وإنّها منشأٌ لالتزام الناس بالحاكم، فإذا بايع الناس كان النبي حاكماً وإلاّ فلا.
وبعبارة أخرى، فللنبي صفتان؛ صفة الرسول وصفة الحاكم، أمّا الأولى فهي مما لا دخل للناس فيها، سواء بايعوا أو لا، كفروا أو آمنوا، أمّا صفة الحاكمية فإنها خاضعة لالتزام الناس.
ونحن لا نلتزم بهذه النظرية ولا نوافق عليها، لأننا حينما ندرس ظروف بيعة الشجرة، فإننا لا نجد أنّ ثمة حديثاً عن الحاكمية، فقد كان الحديث عن النصرة وعن مورد محدد.
س : ليست المسألة المطروحة هي الحاكمية، لكن نفس طلب الرسول البيعة من المؤمنين، مشعر بالحاجة إلى الموافقة على أمر، وهذا يوحي بحق الأمة بالاختيار والموافقة، وإلاّ ما معنى ذلك؟ مع العلم أن المناسبة هي الاستعداد لقتال المشركين الذين حالوا دون أداء الرسول والمسلمين معه العمرة عند الحديبية.
ج : أريد أن أكمل الإجابة عن السؤال السابق، ولا أزال في معرض الحديث عن النظرية الثانية، فنحن نفهم دليل الحاكمية ونستوحيه من قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) [الأحزاب: 6]، فهو (ص) يملك من المؤمنين ما لا يملكونه من أنفسهم، تماماً كما أي نظام، فهو يملك من المواطنين ما لا يملكونه من أنفسهم في نطاق القانون. لذا نقول، إن هذه الولاية ليست ذاتية نابعة من الرسول نفسه، وإنما هي تشريع إلهي، فالله تعالى هو الذي جعله حاكماً.
في المقابل، لا يلتزم أحد من المسلمين بالقول: إنه لو لم يبايع النبيَّ أحدٌ فإنّ النبي (ص) لا يملك شرعية الحكم.
س : نحن نتساءل عن سبب طلب البيعة؟
ج : لا أقول لو فرضنا أنّ النبي (ص) كان موجوداً بيننا لكان عليه أن يحكم بالقوة، ولكان له أن يحكم دون الرجوع إلى أحد.
س : هذا على المستوى النظري، لكن على الصعيد العملي والآنيّ ما هو الرأي؟
ج : سأوضح الأمر لاحقاً، لكن لا بُدّ من بلورة مسألة البيعة، فالمطلوب منها مجرد التعبير عن الالتزام، وليس إعطاء الشرعية، فكلمة البيعة في ذلك الوقت، تختزن التزام الإنسان في صورة يشعر فيها بأنه لا يملك أن يتراجع.
وإذا صحَّت الأحاديث أنّ الزهراء (ع) خاطبت بعض الصحابة من الأنصار في مسألة نصرة الإمام علي (ع)، فقالوا، حينذاك، لو كان علي عهد ذلك قبل أن نبايع لأمكننا ذلك (مضمون الحديث)، لذلك اعتبر أن مسألة البيعة هي مسألة تأكيد التزام الأمة بالقيادة، وليس أخذ القيادة الشرعية من الأمة.
دائرة ولاية أولي الأمر
س : إذا كان متعلق خطاب «أطيعوا» محصوراًأأطي بإطار الأحكام الشرعية - أي الثابتة - كيف نفسر الأمر بإطاعة «أولي الأمر» في طول وجوب إطاعة الله والرسول (ص)، مع العلم أنّ الطاعة في حياة الرسول (ص) محصورة به. برأيكم، ألا يوحي هذا الخطاب أنه شامل للدائرتين التشريعية والسياسية؟
ج : بالطبع، بالنسبة إلى الشقِّ الأوَّل من الآية الكريمة «أطيعوا الله»، فليس هناك مجال للطاعة بالمعنى الحركي، فالله عزَّ وجل يشرّع، لكن الرسول (ص) ينقل ويطـبِّق، والملاحظ في المقام، أنّ سياق الآية عام، خصوصاً أنّ علة أطيعوا شملت الرسول وأولي الأمر، فلم تقل الآية وأطيعوا أولي الأمر منكم، أي لم يفصل فعل الأمر «أطيعوا» بين الرسول وأولي الأمر كما حدث في الشق الأول من الآية (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، إذاً الدائرة التي تستهدفها صيغة أطيعوا بالنسبة إلى الرسول وإلى أولي الأمر واحدة، وبما أنّ أولي الأمر في عهد الرسول انحصر دورهم في تدبير شؤون الناس، فهذا يعني أنّ المسألة ليست محصورة بالأحكام الشرعية، وإنما تتعداها إلى عملية الحكم بلحاظ أولي الأمر.
س : لكن الآية، أيضاً، قد تفهم في إطار الأحكام التشريعية فقط، باعتبار أن أولي الأمر قد يكونون فقهاء.
ج : لا، دور ولي الأمر ليس أن يعطي الحكم، فمصطلح ولي الأمر يعني ولي أمور الناس، وهناك فرق بين ما اصطلح عليه الناس بمرجعهم في الأحكام، وبين ولي الأمر أو أولياء الأمور، فكلمة ولي الأمر تختزن في داخلها هذا المعنى.
س : الملاحظ أنّ القرآن الكريم لم يستخدم صيغة ولي الأمر بالمفرد، وإنما بالجمع «أولي الأمر».
ج : هذا الأمر طبيعي، فهناك رسول واحد، لكن ولاة الأمور كثيرون في العدد ومتفاوتون حتى في التكريم، وليس ضرورياً أن يكون ولي الأمر بالمطلق، وإنما قد يكون ولياً من الدرجة الثانية، أو في موقع دون آخر.
س : البعض يرى أنّ ولاة الأمر هم أهل الخبرة.
ج : نحن، في المقام، نريد أن نستنطق القرآن الكريم بحسب المفهوم العرفي أو اللغوي فيما توحي به الكلمة، فما هو المراد بالأمر؟ الأمر أو أمور الناس يعني شؤون الناس، وأولو الأمر هم مَن يتولّون شؤون الناس وقضاياهم.
عندما تطلق العبارة في السياق القيادي والحاكمي، تتميز عن مسألة الخبرة، فالخبير ليس من أولي الأمر، وعَالَمه عالم استنسابي، حتى عَالَم المرجع استنسابي، فالرسول (ص) يأمر وينهى بما هو رسول، بينما أولو الأمر بما هم أولياء لشؤون الناس. لذلك نقول إن كلمة ولاية الأمر تحمل إيحاءات تنفيذية أكثر من الدلالات المفهومية المجردة.
الآية الكريمة: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلِّموا تسليماً) [النساء: 65] برأيي، لا تختصّ بالقضاء فقط، وإنما تشمل التحكيم في القضايا المختلفة، إذاً معنى الإطاعة ليس مربوطاً بالتشريع ودائرته فحسب، وإنما في القضاء وغيره أيضاً، بدليل قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) [الأحزاب: 36]، ويقال إن هذه الآية نزلت بعد معركة الأحزاب، أي في مورد تنظيميٍّ وليس في موضوع تشريعي. من هنا، نستفيد من مختلف النصوص والقرآن، أنّ مسألة الإطاعة هي شاملة.
بين طاعة الحاكم وحركة الشورى
س : إذاً، كيف نوفّق بين ما خلصتم إليه، ودلالة الآية الكريمة ?وأمرهم شورى بينهم? [الشورى: 38].
ج : وأنا أقول «وأمرهم شورى بينهم»، لكن، كنا نعلق على مسألة القيادة. فالله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل والرسالات لتتحوَّل إلى واقع، وهذا واضح من صريح الآية القرآنية الكريمة: ?لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط? [الحديد: 25]، فحركة الرسالات هي حركة واقع، حركة عدل. فالإطاعة التي فرضت للرسول (ص) من خلال الرسالة هي إطاعة تطبيقية عملية وليست إطاعة ذهنية مجردة. من هنا، نحن نفهم أن عالم الطاعة هو شامل للجانبين التشريعي والتنفيذي.
غير أنّ الطاعة، التي هي متفرعة من أصل ثبوت الولاية، قد تثير سؤالاً عن كيفية ثبوت ولاية الأمر، وهل هي باختيار الأمة أم بتعيين الله، وينبغي إفراد أبحاث أخرى لها في غير هذا المقام.
س : ما تقدم، ينقلنا إلى آلية إنتاج الحكم، كيف يتحصل لولي الأمر الحكم أو الموقف؟
ج : الآيات القرآنية التي تأمر بوجوب إطاعة الرسول وأولي الأمر لا تدل على السلب أو على الإيجاب، إنما هي في معرض البيان من جهة الطاعة، لكنها ليست في صدد البيان من جهة شروط الوالي وكيفية تعيينه ومن أين يأخذ شرعيته، وفي المقام، إذا قلنا بنظرية الشورى، مثلاً، فالأمة هي التي تختار الشخص حتى يصبح ولي الأمر، باعتبار أنّ الأمة قد اختارته.
س : ما رأيكم أنتم؟
ج : نحن، الآن، نعالج القضية في الدائرة الفكرية، لكن إذا أردنا استنطاق النصوص في مسألة ولاية الأمة أو حدود ولايتها، وخصوصاً في الخطابات العامة، أي ?يا أيها الناس?، ?يا أيها الذين آمنوا?، ?ولا تركنوا إلى الذين ظلموا? [هود: 113]، ?ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل? [البقرة: 188]... إلخ، هذه الخطابات القرآنية قد توحي بأنّ الله تعالى قد جعل الأمة مسؤولة عن تحقيق العدل والحق والمساواة بنفسها؛ ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم? [النساء: 135]،، ?وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى? [الأنعام: 152]،.
الخطاب المباشر للأمة، كما هو واضح مما سبق، وفي نصوص قرآنية أخرى، يدل على أن الله تعالى حمّل الأمة مسؤولية تحقيق هذه الأمور التي وردت في الآيات، وقد يكون ذلك موحياً بأنها هي المسؤولة عن صناعة الحكم، وبالتالي مطالبة بإدارة الأمور أو مراقبتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك لكي تعذر الأمة أمام الله تعالى يوم القيامة، وربما يؤيد هذا المعنى بآية الشورى ?وأمرهم شورى بينهم?، باعتبار أن كلمة الأمر تشمل كل شؤون الناس، ومن بينها مسألة تعيين الحاكم وصيغة الحكم. وقد ترد الآيات التي تتحدث عن البيعة أو تجربة المسلمين الأوائل في اختيار الحاكم، فإنها كانت تتم بالبيعة، كما حصل مع الإمام علي (ع)، قد ترد هذه كمؤيدة لاتجاه تصدي الأمة وتولّيها المسؤولية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ولكن، عندما نناقش المسألة بعقلٍ بارد، نجد أنّ الخطابات القرآنية ليست في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي واردة في مقام توجيه الناس لأخذ هذه المفردات، سواء كانت عبادية أو معاملتية أو سياسية، من دون الحديث عن الآلية في هذا المجال، فنحن لا نجد أي دليل على تحديد الآلية، أو كيفية قيامهم بالمسؤولية أو تدبر أمورهم، فالآيات لا تتعرض للشق الآلي والتدبيري.
فالآيات تعرَّضت للمبادئ التي يجب على الإنسان أن يأخذ بها دون التعرض للتفاصيل. من هنا، نحن لا نستطيع أن نفهم من هذه الخطابات أنها تتجه إلى الحديث عن طريقة معينة لإدارة الأمة، وإنما الأمر متروكٌ للصيغ العقلائية، فهي قد تتخيّر الصيغ العملية المناسبة لترجمة تلك المبادئ، وهذا ما عبّر عنه السيد الشهيد الصدر بمنطقة الفراغ، أو جزء من منطقة الفراغ.
فآلية الشورى مثلاً في التجربة الإنسانية هي غير إلزامية، وإنما استنسابية ومتحركة ليقارب الإنسان الصواب، «من شاور الرجال شاركها في عقولها»، «ومَن استبدّ برأيه هلك».
يبقى الحديث عن ولاية الأمة على نفسها، فهذه الصيغة النظرية تحتاج إلى أدلة، ربما يقال إنّ هناك قاعدة عقلائية يؤكدها الشرع، وهي أنّ الناس مسلَّطون على أنفسهم، أو أصالة لا ولاية لأحد على أحد، وعلى ضوء هذه القاعدة، لا بُدّ للحاكم، سواء كان فقيهاً أو غير فقيه، من تحصيل موافقة، بل تنازل الأمة عن بعض سلطتها على نفسها لهذا الحاكم. غير أنّ هذا لا يصلح أن يكون دليلاً، فالقاعدة العقلائية السالفة لا تثبت إلاّ الولاية للنفس وتنفيها من غير النفس، لكنها من جهة ثانية لا تثبت إمكانية التنازل، فهذا الشق أو الجانب تمّ السكوت عنه، وإن أمكن تصوره على نحو تعاقدي، فتطيع الحاكم بالمقدار الذي تتنازل به له. وساعتئذٍ يكون قوله تعالى: ?أوفوا بالعقود? [المائدة: 1]، هو أساس الشرعية في هذا المجال، لكن ترد في المقام أسئلة كثيرة تحتاج إلى بلورة وحلّ، مثلاً: ماذا لو فرضنا أن الأمة أو أن أهل الحل والعقد انتخبوا شخصاً ولم تنتخبه الأمة؟ أو أنّ الأكثرية انتخبت دون الأقلية؟ فكيف يمكن معالجة أمر إطاعة الأقلية؟ في هذا المثال لا دليل على وجوب التزام الأقلية برأي الأكثرية.
س : هذا الردّ يتناول الآلية وليس المبدأ التعاقدي نفسه.
ج : حتى لو استطعنا أن نصل إلى صيغة تعاقدية تلزم الإنسان بالخضوع لشخصٍ ما أو لجماعة في مختلف أمور السلطة والحكم، فإن ذلك يلزم الذين يدخلون في صيغة التعاقد ولا يلزم غير الداخلين، وهذا هو منطوق الدليل المقدم.
السلطة والصيغة العقائدية
س : لكن الصيغة التعاقدية، كمبدأ، لا بد أن يتعاهدها المجتمع، في الميثاق، قبل الخطوات الإجرائية، أي قبل تشكل الأكثرية والأقلية، إذ ينبغي تحصيل الموافقة من المجتمع، وفي حال اختيار السلطة أو التعاقد معها، لا بُدّ للأقلية أن تلتزم بما التزمت به في الميثاق.
ج : السؤال، هنا، مَن هو الطرف الثاني للعقد إذا ما كانت الأمة هي الطرف الأول؟ في عالم العقد، لا بُدّ من طرف آخر مَن هو؟ هل هي جماعة معنوية؟ فالمعنوية لا تعطى وليست طرفاً للتعاقد، أم هي جماعة عينية كلية أو جزئية؟ إذاً لا بد في عالم التعاقد من طرفين، فمَن هو الطرف الآخر؟
س : ما تثيرونه من إشكال على طرفية السلطة في كلا احتماليها أو صورتيها يمكن إثارته على الفقيه أيضاً.
ج : حتى الوليّ الفقيه، أنت لا تتعاقد معه بناءً على صيغة «أصالة لا ولاية لأحد على أحد»، وإنما باعتباره مجعولاً شرعياً، وكل مَن يؤمن بولاية الفقيه يؤمن بأنه مجعول من الناحية الشرعية.
س : لكن عندما تختاره الأمة، أو يحتاج هو إلى اختيارها، يعني أن ثمة صيغة تعاقدية، خصوصاً عندما تملي الأمة شروطها في المقام، ما يجعل الاختيار ذا سمة عقلائية في صورة أو أخرى!.
ج : لا، نحن نتكلم كما قلنا بعقل بارد وليس بعناوين الأمة، مَن هي الأمة؟ كل الناس أو بعضهم؟
س : لنقل كل الناس.
ج : كل الناس، ليس كل الناس هم الذين يتعاقدون مع بعضهم البعض.
س : قد تتفق الأمة كلها على شروط، كما ذكرنا، وتصبح ملزمة للجميع.
ج : ما الدليل على هذا الاتفاق؟
س : مرة نتكلم على العقل المجرد، فيتحول البحث إلى عالم المعقول والفلسفة، ومرة نتكلم على الاجتماع والمجتمع العقلائي، فاتحاد الأمة على رأي واحد مستحيل تحققه، أي في الدائرة العقلائية مستحيل، فهل يعني هذا توقف المجتمع لأنه لم يحرز الإجماع، ليتم التعاقد وفق الأصول؟
ج : نحن نناقش المسألة الآن من ناحية عنوان العقد، وفي مقام تلمس دليل شرعي، لا في مقام الحديث عن نظرية اجتماعية.
س : نعم، ولكنَّ ثمة قانوناً حاكماً، هو ما عبّر عنه أمير المؤمنين (ع)، لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر، فإذا كان مستحيلاً على الأمة أن تتّفق على واحد، فكيف يمكن إيصال البر إلى الحكم؟
ج : عندنا نقطتان، إذا فرضنا أنّ قانون التعاقد يتقوّم بطرفين، وأن الأمة تتعاقد فيما بينها على أن يكون نظام حكمها كذا، فهذا تشريع وليس تعاقداً، بينما الحديث هو عن تولية فلان وهو عقد، وكما تلاحظون، إنّ هناك خلطاً بين التشريع والتعاقد.
فعندما نقول إنّ الأمة تتفق مع بعضها البعض على أن يكون نظامها كذا، بالانتخاب، فهذا تشريع، وليس تعاقداً.
س : ما تفضّلتم به مؤدّاه أنّ هناك مرتبتين، واحدة تشريعية تشرّع التعاقد، ثم مرتبة التعاقد نفسها، وفي المؤدى النهائي هناك تنازل عن الولاية لجماعة.
ج : هذا صحيح، إنما المسألة أنه عندما نتفاهم على أساس تحكيم القانون، فمعناه اتفاقنا على أن الانتخاب هو الذي يحكمنا، فهذا ليس تنازلاً عن الولاية، وإنما اتفاق على القبول بمبدأ التنازل، وفي النتيجة المسألة تدور مدار الدليل.
س : لو سلَّمنا بمبدأ لا ولاية لأحد على أحد، يكون هو المحدد والمرجع.
ج : هذا نفيٌ للولاية.
س : نحن اليوم في عصرٍ لا يوجد بيننا النبي ولا المعصوم، كيف ندير شؤوننا؟
ج : هذه نقطة نأتي لاحقاً إليها، لكن كما يمكن حفظ النظام، بناءً على ضرورة وجود أمير، بالتعاقد بين الناس، والتنازل عن الولاية، يمكن أيضاً حفظ النظام بتعيين ولي الفقيه، فالفرضية غير منحصرة. فالثابت هو وجوب حفظ النظام، لكن هذا لا يعني أنّ الأمة هي التي تختار وتبقى البدائل موجودة. فنحن هنا في مقام بيان النظرية، إذْ إنّ بعض العلماء، كالمرحوم السيد الخوئي، لم يقل بولاية الفقيه، كان يقول إذا دار الأمر بين الفقيه وغيره، فالفقيه قدر متيقن.
س : مولانا، سبق وتحدثنا عن مسؤولية الإنسان، ومسألة حق الأمة في الاختيار، وما تتحدثون عنه، أو ما أثاره السيد الخوئي، هو في إطار التشريع، أي الاستنباطات، لكن ماذا في دائرة التنظيم والهياكل والشؤون الاجتماعية العامة؟
ج : هناك نقطة أخرى، وهي: هل للولي، أيّاً كانت الأسس الشرعية لولايته، حق التشريع أم لا؟
الولي لا يملك حق التشريع في الأمور الكلية - التي تصادم دائرة الوحي - وإنما يملك حق التشريع في دائرة الفراغ - كما عبر السيد الشهيد الصدر - كتنظيم البلديات وفرض الضرائب على الناس وكل ما يتصل بحفظ النظام العام، أي بإمكان الولي بأدلة ولايته أن يلزم الناس بالكثير من القوانين التي تتصل بحفظ النظام.
س : غير أن السيد الشهيد يقول: إنّ دور الفقيه هو دور المراقب، مع غض النظر عن أصل شرعيته، يراقب حركة الأمة ويسدّد خطاها ويقوِّم انحرافاتها إذا ما انحرفت.
ج : هذا بعد تحرير السلطة من يد الظالم، يكون دور الفقيه المراقبة، بينما تقوم الأمة بإدارة أمورها.
لكن الملاحظ أنّ الفقيه هو الذي يعين القائد، ومعنى هذا أنه المرجع، حتى في تعيين القيادة للحكم، أمّا في ظرف وجود حاكم ظالم فالفقيه هو الذي يقود الأمة.
السلطة بين الولاية والأمة
س : نأتي إلى سؤال: هل الفقيه هو صاحب الولاية فيمنحها للأمة، أم أنّ الأمة هي صاحبة الولاية؟
ج : الفقيه هو الذي أعطى للأمة شرعيتها في ممارسة دورها، لكن السيد محمد باقر لم يبيّن هذا الشيء.
س : نريد رأيكم، مولانا.
ج : الذي أراه هو الجمع بين الأمرين، أنا لا أرى ثمة أدلة على الآلية في عصر الغيبة، ولكن الجمع بين الفقيه والشورى، بمعنى أن الفقيه هو الذي يشرف على الجوِّ العام للدولة ويعتمد أسلوب الشورى في كل أموره. وهنا نلاحظ، أنّ أسلوب الإمام الخميني جديد، فالناس هي التي تُستفتى بالنسبة إلى الدستور، وهي التي تنتخب مجلس الشورى والحكومة، بينما دور الولي هو المصادقة.
س : ولكن يحق له أن يردّ ويعترض.
ج : نعم، يحق له أن يردّ، ولكن لا يحق له أن يعين.
س : الأمة يحق لها أن تختار وهي التي تختار، ولكن الولي يحق له أن يرد ويلغي، فإذا رفض الإمضاء ماذا يحصل؟
ج : ليس له أن يرفض خيار الأمة إذا كان فيه صلاح.
س : لكن الصلاح بنظره، لا بنظر الأمة!
ج : بنظره هو، نعم.
س : يعني لم يعد هناك شورى أو معنى لها، أي لم يعد للأمة ولاية في الأصل.
ج : بعض القضايا فرضية غير واقعية، فعندما ترى أن الأمة كلها تنتخب أشخاصاً معينين وأنت تحدد لها المواصفات، فعندما تحكم من خلال الشورى، لا يجوز للولي أن يتجاوز هذه الشورى؛ لأنها تؤدي إلى الاطمئنان وتحصّل الظن الغالب، وهذا ما لا يستطيع تجاوزه، وإلاّ لحكم بغير علم.
ما أقوله ليس هناك دليل عليه، لكن الجمع بين كون الشورى هي نمط الواقع والحياة وبين الأسلوب الذي مارسه الرسول (ص) وبعض الأئمة (ع)، أي صيغة أن هناك قيادة واحدة مع وجود الشورى، هذا الجمع ربما ينفع مثل هذه الصيغة التي عرضتها.
س : حتى هذا الرأي الأخير الذي تقدمتم به، أي القول بالجمع، لا دليل شرعيّ عليه، برأيكم مسألة في هذا الحجم من الحساسية والخطورة متروكة دون تحديدات، ألا يشعر ذلك بأنّ فيها نوعاً من التسامح والإباحة للناس؟
ج : ما قلناه مبرىء للذمة، سواء قلنا بنظرية الشورى أو نظرية ولاية الفقيه، ونحن علينا إيجاد صيغة هي مزيج من هاتين النظريتين.
والصيغة، هذه المختارة، لا نقولها باعتبار أن الدليل الاجتهادي الأصولي عيّنها، بل باعتبار أنه لا بد للنظام الواجب الحفظ من أسس سليمة ومن قواعد تحفظ للناس سلامة أمورها الحيوية، وبرأيي أنّ صيغة جمع ولاية الفقيه والشورى يحفظ المجتمع؛ فالفقيه يتولّى أمور الناس بواسطة الشورى، والشورى تكون ملزمةً له، لا بلحاظ أن طبيعة الشورى تقتضي الإلزام، بل باعتبار أن الشورى تفيد الظن الغالب، ولا يستطيع الفقيه رفض مؤداها، لأنه يصبح من باب القول بغير علم.
س : إذا كان للأمة دور وسلطة محددان، وهي حسب ما قررتم إفادة رأيها وخيارها - الأمة - للظن الغالب، وضرورة إمضاء الفقيه لخيارها، حتى لا يقع في محذور القول بغير علم بناءً على ما تقدم، هل يمكن للمرأة أن تمارس دورها داخل الأجهزة التنفيذية، بل على رأس بعضها مع ملاحظة مبدأ فصل السلطات؟
ج : هنا، لا بد أن نطل على أصل فكرة ولاية المرأة. في الواقع، ليس هناك إلاّ حديث «ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»، وهو حديث موجود عند السنّة، بل يضعّفه بعض السنّة، غير أنّ هذا الحديث ينافيه المنطق القرآني في سياق الحديث عن ملكة سبأ.
نعم، هناك نص ينهى عن تولية المرأة القضاء، وقد يقال في المقام إنّ للقضاء خصوصيته، ولكن يقال أيضاً إنّ الولاية العامة للناس أخطر من القضاء، فإذا لم يجز لها أن تكون قاضية، فإنه من باب أولى ألاّ يجوز لها تولي شؤون الناس العامة.
وربما يقال: إنّ الرجال قوّامون على النساء، بناءً على أنّ القوامية هنا عامة وليست في إطار الأسرة فحسب، ولكن أنا استفدت من جو الآيات أن هذه القوامية خاصة بالحياة الزوجية، وإلاّ الولاية للولي على الرجال والنساء معاً.
غير أن ثمة مزاجاً عاماً، ربما ينطلق من البيئة الفكرية والثقافية للمجتمع، إما بسبب انعدام التجارب، أو لتدني مستوى المرأة في ذلك الزمان، فهذا المزاج العام هو المانع فقط، إذ لا دليل يعتدُّ به يمنع ولاية المرأة سوى المزاج أو الارتكاز.
في هذا المجال، إذا أردنا أن نتحفظ فنتحفظ في الولاية العامة، أمّا في الولاية التي تكون المرأة فيها جزءاً من الشورى أو رئيسة تنفيذية، كأن تكون وزيرة أو مديرة فلا إشكال.
س : ما المانع من أن تكون رئيسة سلطة تنفيذية مع وجود الفقيه؟
ج : إذا أردنا أن نتكلم من الناحية العلمية الموضوعية الهندسية - إذا صح التعبير - لا يوجد دليل ينفي هذا المعنى. لكن هناك مزاج إسلامي عام وارتكاز في رفض هذا الموضوع، وهذا المزاج في خصوص القيادة العامة العليا، أمّا فيما عدا ذلك فلا إشكال.
س : المزاج العام له علاقة بالظروف والمناخ والتربية، لكن في هذا المقام، نريد رأيكم، طالما ليس هناك دليل شرعي يمنع المرأة من أن تتسلم مواقع قيادية؟
ج : حتى نكون دقيقين في المسألة، ليس هناك ما ينفي من ناحية الأدلة الشرعية - العلمية، لكن التحفظ الذي يواجهه السلف في المقام هو من خلال المزاج الإسلامي التاريخي العام.