التقديس ... لماذا ؟

يبدو ان اسهل الطرق وايسرها للتهرب من الفشل لدى الانسان هو طريق التقديس ؛ فنجد ان الفاشل يسعى للبحث عن شيء ما ليقدسه وهذا الشيء اما ان يكون انسان اخر او مكان ما او ربما مجرد افكار وتخيلات غيبيه .

والانسان قادر في الاصل على الحكم على ادائه كونه اداءا حسنا او اداءا سيئا ,الان ان حالة الكبر التي تعتري الانسان تمنعه من الاعتراف بسوء ادائه او فشله فيه سواء كان هذا الاعتراف امام الناس او حتى مع نفسه هو مما يؤدي الى العمل على ايجاد الاعذار لهذا الفشل بدلا عن اداء الجهد المطلوب لتحقيق النجاح او تصويب الاداء , على اعتبار ان هناك في المحيط من قد بلغ اهدافا هي بالنسبة الاول الفاشل احلام يمنعها الخمول من التحقق نجد ان الفاشل يصور لنفسه وللاخرين ان ذلك النجاح انما هو نتيجة التميز الاصلي في ذلك الناجح وان هذا التميز هو حالة في اصل التكوين لا يمكن اكتسابها على اعتبار انه ملكة.

الى ان الخطير في هذا الامر اعتبار ان كل فعل يقوم به هذا المقدس ! المفترض هو فعل مقدس كامل الصواب , وهي مرحلة خطرة جدا لما تنطوي عليه من التعطيل الذاتي للعقل تصل بصاحبها الى تفويض المقدس التصرف الكامل بالمقدس ( بكسر الدال) ,لذا فأن التقديس يشكل عقبة كبيرة امام الحقيقة , ذلك ان التقديس يضع جدرا ذاتيه صلدة امام التفكير الحر الذي من المفترض ان يؤدي الى معرفة الحقائق عندما يكون منطلقا من حب المعرفة ومتجها صوب الحقيقة التي هي واحدة في كل زمان ومكان.

ان افتراض ان هذا الشخص مقدس الى حد اعتبار ان كل افعاله مقدسة يؤدي بلا شك استحسان الافعال القبيحة الصادرة عنه وقبولها بدل الرفض على اعتبار قاعدة ( كل ما يفعل خسرو فهو جميل ) الامر الذي يؤدي ومع مرور الوقت الى تشويه صورة الجمال الاصلية .

اننا ننظر الى مثل هكذا فعل على انه نوع من التقهقر الذي يمارسه الانسان ضد نفسه الى الدرجة التي يصبح فيها الانسان متنازلا عن اساس اس وجوده وهي الحرية التي لن يكون لها معنى بدون توفر عناصر الاختيار التي تعتمد الرأي الذي انما هو نتيجة التفكير و هو نشاط يؤديه العقل من خلال ربط المعلومات والخبرات المكتسبة من المحيط والتي لا يمكن ان تكون صائبة اذا لم تكن تحت رقابة ما نصطلح عليه (الحسن الفطري والقبح الفطري ) والتي تشكل القواعد الاساسية في قبول او رفض فكرة معينة .

ان هناك على ارض الواقع معضلات حقيقية تحول دون امكانية الركون الى المعلومات التي يستقبلها العقل من محيطه اذ ان هناك تغيير وعكس لكثير من الحقائق الأمر الذي تسبب في رفض ماهو جميل حقا وقبول ماهو قبيح بدعوى ان المجتمع يحكم على الاشياء بما يتناسب مع العقل الجمعي والذي يعد التهديد الاكبر للثبات المفاهيمي فنجد واقعا ان العقل الجمعي قد خرب كثيرا من المفاهيم الاصيلة واحل محلها مفاهيم خربة ؛ خذ مثلا ان الناس اصبحت تعتبر من لايسرق انسانا مميزا وان من لايكذب انسان مميزا ؛ والحقيقة ان عدم السرقة او عدم الكذب لاتشكلان ميزة مضافة للانسان اذ انها اسس لايمكن افتراض خلافها اصلا ؛ لكن وفي نفس الوقت فان من يسرق او يكذب انما هو خارج عن هذه الاسس ينبغي الاشارة اليه .

ان السبب في هكذا نتيجة انما هو غياب المحاكمة الجريئة للفعل المعين على اعتبار ان هكذا عمل يعد نوعا من الجرأة على المقدس المؤطر بالالقاب والعناوين المضخمه كمثل ( اية الله وحجة الله والقائد والسيد والامبراطور والقس ... وغيرها ) من الالقاب وكل أمة بحسب ثقافتها والمنتفعين من استعبادها ؛ هذا على صعيد الاشخاص وهو ليس الاسلوب الوحيد لمصادرة الآخر اذ ان هناك من يستخدم الاماكن والمواقع بنفس الاسلوب بعناوين ليست بعيدة عما يستخدم مع الاشخاص من امثال ( المقدسة والشريفة والمنورة او ارض المعاد ... وغيرها ) وهو امر ينطبق ايضا على الافكار والتي تصلنا عن طريق النصوص وبنفس الاساليب والالفاظ .

ولآننا لا نخشى في المحاكمة مقولة تتحدث عن الحرية مثل مقولة ان الحرية ( لا توهب ولكن تنتزع انتزاعا ) منتقديها لما نراه من انها تضمر ادعاء امكانية استلاب الحرية والتي هي حق اساس لا يحتاج حتى التنظير له ؛ فأننا ولا شك اكثر جرئة في محاكمة الاقوال التي تتمحور حول العبودية والتقديس .

ان الافتراض الاولي لقدسية شيء ما انما يشكل عائقا حقيقيا امام محاكمة هذا الشيء كائنا من يكون ان كان اداء فرد او جماعة او حالة مكان او جمالية فكرة وانطباقها او عدم انطباقها مع معيار ( الانسان اولا ) الذي نفترض انه المعيار الاسلم للحكم على كل شيء .

اننا اذ نطرح هذا الموضوع للبحث فاننا لانلغي امكانية وجود مقدسات حقيقة ؛ تمتلك مقومات تقديسها فيها الا اننا وفي نفس الوقت نريد التنبيه الى وجود الكثير من المقدسات التي تتداولها الاقوام فيما يبدو انه اداء ضروري نتيجة للفهم المحدود لحركة الحياة في تلك المجتمعات ؛ليكون لكل مكان وزمان مقدس معين تصل درجة تقديسه لدى المعتقدين به حد التضحية من اجل تقديسه .

( واقول هنا التضحية من اجل تقديسه وليس من اجل المقدس ذاته ) اذ ان المفروض ان هذا المقدس قادر على الدفاع عن نفسه على اعتبار انه مميز اكتسب قدسيته من تميزه والحقيقة ان الاعتبار التقديسي لوحده لايكسب المقدس المعين قدسيته لان هذا اعتبار انما هو حكم ذاتي من قبل الفرد او المجتمع دائما ما يكون مقاد بفعل الحاجة ايا كانت وهو امر تدخل فيه الانا الفردية او الجمعية وكلاهما يعمل بتصوراته التي هي خارجية عن الموضوع وهي بلا شك بعيدة عن الموضوعية التي تشكل الاساس الوحيد والطريق الفريد للحكم على الاشياء كل الاشياء ان كانت تمتلك حقيقة القدسية ام لا .


انا شخصيا مثلا عندي مقدساتي التي اؤمن بها ؛ الا انني اعتقد ان تقديسي هذا نابع من كوني اشعر معها بحريتي فهي تعطيني المساحة الكبرى للتفكير انها تمنحني ذاتي كاملة وتريدني ان احتفظ بها حرة على الدوام .

ربما سيبدو هكذا طرح مغايرا لما قدمنا من ان التقديس يشكل جدرا ضد التفكير ؛ الا انني اعتقد ان مقدساتي تحثني فعلا على التفكير في كل شئ في انا وفي من حولي بل ان مقدساتي تسمح لي بالتفكر بها هي ايضا ؛ وكل هذا بشرط واحد ووحيد هو شرط ( الاخلاص ) في التعامل مع كل شئ مع الاخر ومع الذات ايضا .

ومع ذلك ومع اني اؤمن بمقدساتي الخاصة فاني لا افترض ضرورة ان تكون مقدسة عند جميع الناس بل ولا حتى ان تكون بنفس الدرجة من القدسية عند من يشاركني في تقديسها ؛ لان مقدساتي تنطلق وتدور وتتمحور حول الحرية ؛ وان واحدا من اهم دروس الحرية هو الاعتراف بحق الآخر في ان يكون له رأي الامر الذي تحدثنا فيه سابقا ؛ وهو اساس يفترض عدم محاولة الاخر اجباري على الاعتقاد بمقداسته ؛ وعندها وعندما نتحرك بهذا الاسلوب فلاشك اننا سنجد بيننا منطقة مشتركة نسميها حرية الاختيار يمكننا جميعا ان نعيش فيها سوية كل بما يعقد وكيف يريد .

وكما قلنا سابقا فليس بالضرورة ان اؤمن بمقدس الآخر الا انه وفي نفس الوقت ليس لي ان اواجهه برفض تقديسه لمقدسة على الاقل خوفا على مقدساتي انا من تعديه عليها ؛
ولكن هناك حالة واحدة تجعلنا نرفض فعل التقديس ذاته عندما يكون ذلك الفعل الى اجبار الاخرين على التخلي عن حرياتهم الشخصية واجبارهم على التقديس .

ليكون محور الحركة وفضائها الحرية وليس التقديس .