أعظم كلمة قيلت من لسان رجل عظيم معصوم أبن المعصومين (عليهم صلوات ربي أجمعين), كلمة قيلت لشخصٍ تحسس بها فاهتدى إلى الصراط القويم ليصبح زاهدا عابدا مطيعا لرب العزة والجلال.
هو أبو نصر بشر بن الحارث الحافي: أصله من مرو، وقد سكن بغداد ومات فيها، وكان كبير الشأن, من أغني أغنياء بغداد, وقد كان قمّاراً خمّاراً زمّاًرا وكان لا يتورع عن فعل المنكرات والمحرمات الكبيرة...
وحدث يوماً أن كان الإمام الكاظم (عليه السلام)، ماراً من أمام بيت بشر، وكانت أصوات اللهو والطرب تملأ المكان فصادف أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام(عليه السلام), وهي لا تعرف أن سائلها هو الإمام (عليه السلام).
قائلاً: "يا جارية..! هل صاحب هذه الدار حر أم عبد"؟!
فأجابته الجارية وهي مستغربة سؤاله هذا بشر رجل معروف بين الناس، وقالت: بل هو حر!!
فقال الإمام : "صدقتِ لو كان عبداً لخاف من مولاه". الإمام قال هذه الكلمة وانصرف.
فعادت الجارية إلى الدار وكان بشر جالساً إلى مائدة الخمر، فسألها: ما الذي أبطأك ؟
فنقلت الجارية له ما دار بينها وبين الرجل الذي سألها، وعندما سمع ما نقلته من قوله: "صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه".
اهتز هزاً عنيفاً أيقظته من غفلته، وأيقظته من نومته، نومة الغفلة عن الله.
ثم سأل بشر الجارية عن الوجهة التي توجه إليها الرجل السائل، فأخبرته فانطلق يعدو خلفه، حتى أنَّه نسي أن ينتعل حذاءه، وكان في الطريق يحدث نفسه بأن هذا الرجل هو (الإمام موسى بن جعفر) (عليه السلام)، وفعلاً ذهب إلى منزل الإمام ، فتاب على يده واعتذر وبكى ثم هوى على يدي الإمام يقبلها ...
وهو يقول: سيدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبداً ولكن عبداً لله...
لا أريد هذه الحرية المذلة التي تأسر الإنسانية فيّ، وتطلق العنان للشهوة الحيوانية, لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذنوب وأغدوا أسيراً لها. لا أريد أن تؤسر فيّ الفطرة السليمة والعقل السليم. من هذه الساعة أريد أن أصبح عبداً لله ولله وحده، حراً تجاه غيره.
وتاب بشر على يد الإمام الكاظم(عليه السلام) ومنذ تلك اللحظة هجر الذنوب ونأى عنها وأتلف كل وسائل الحرام، وأقبل على الطاعة والعبادة. بشر هذا هو مهاجر أيضاً "لأن المهاجر من هجر السيئات".
وقد يسأل البعض هل كان هذا مصادفة أن يمر الإمام (عليه السلام) من باب بشر ليقول هذه الكلمة ليتاثر بها بشر فيهتدي هذه الهداية...
الجواب أننا لا نؤمن بالصدفة بل باللطف الإلهي إيماننا ومن هنا لعل الإنسان يقوم بعمل بسيط وهو عند الله مبير مع وجود نقطة بيضاء في قلبه يوسعها الله تعالى برحمته...وكان لما قام به بشر يوما من الأيام أثر كبير في هدايته, حيث أنه أصاب في الطريق ورقة مكتوب فيها اسم الله (عز وجل) وقد وطئتها الأقدام، فأخذها وأشترى بدرهم كان معه غالية ( نوع من الطيب) فطيّب بها الورقة وجعلها في شق حائط، فرأى فيما يرى النائم كأنّ قائلا يقول: يقول لك إلهك: يا بشر طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة ....
فهذا الذي فعله من تكريم لأسم الباري جل وعلا وتعطيره له رفعه من المهالك والذنوب فالله يقبل اليسير ويعفوا عن الكثير وذلك من رحمته الواسعة ولطفه العظيم.
هذا موقف واثر من آثار سيدي موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام), وآثارهم كثيرة وكبيرة فهم الهداة وهم الدليل للمتحيرين وهم سفن النجاة وهم المصطفين...
فيا أيها العالم تأمل واغترف من هذا العطاء ومن فكر النجباء, فهو البناة للنفوس واهل العطاء والموجهين للبشر,
عن ابراهيم بن عمر قال: سمعت موسى بن جعفر عليهما السلام يقول: (ليس منا من لم يحاسب في كل يوم نفسه ، فان عمل حسنا استزاد الله منه وحمد الله عليه، وان عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه).
فمن اراد ان يكون منهم (عليهم السلام) فليعمل بما حدّث به (عليه السلام) من المحاسبة اليومية...
كما ان الامام (عليه السلام) أرشد المسلمين إلى اهمية الصلاة بل وأهمية أداءها اول وقتها لما فيه من النفع والعطاء...
فعن سعد بن خلف قال: قال موسى بن جعفر (عليهما السلام): ( والصلوات المفروضات في أول وقتها إذا أقيمت حدودها أطيب ريحا من قضيب الآس يؤخذ من شجرة في طراوته وطيبه وريحه، فعليكم بالوقت الأول).
وأما البشارة للتائبين فدائمة على السنتهم (عليهم السلام) لأنهم النجاة والرحماء وهم المنفعة الكبرى للخلق...
فعن محمد بن أبى عمير قال: سمعت موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: ( لا يخلد الله في النار إلا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك ومن اجتنب الكباير من المؤمنين لم يسأل عن الصغاير، قال الله تبارك وتعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (النساء:31)
وقال: كفى بالندم توبة، وقال من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما والله تعالى ذكره يقول: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)(غافر: من الآية18)
فقلت له: يا ابن رسول الله كيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه ؟
فقال (عليه السلام) : يا أبا احمد ما من احد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم انه سيعاقب عليها إلا ندم على ما ارتكب ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرا والمصر لا يغفر له لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم, وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، واما قول الله تعالى ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(الانبياء: من الآية28) فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسسيئآت ، فمن ارتضى الله دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة).( مشكاة الانوار ص329- ص 339).

ثم أن الإمام (عليه السلام) أوضح مسألة مهمة عن حال السريرة والنية الني يهم بها العبد في حديث رويّ عنه عن سعد بن عبد الله عن علي الناسخ عن عبد الله بن موسى بن جعفر (عليه السلام), قال: (سألته عن الملكين يعلمان الذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو بالحسنة...؟
قال: فقال (عليه السلام): أفريح الكنيف والطيب عندك واحدة...؟
قال: قلت لا.
قال (عليه السلام): العبد إذا هم بالحسنة خرج نَفَسهُ طيِّب الريح, فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال: قف فإنه قد همّ بالحسنة, فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فيثبتها له... وإذا همّ بالسيئة خرج نَفَسهُ منتَن الريح فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين: قف فإنه قد همّ بالسيئة فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فيثبتها عليه)( صفات الشيعة ص : 39).
فما أعظمها من أسرار وحكم على اللبيب أن يتبعها
ومهما ذكرنا عن الإمام الكاظم (عليه السلام) فلا نوفي حقه لأنه العطاء الذي لا ينضب...
ولنا أن نقول على القادة اليوم الرؤساء والوزراء في كل العالم ان يتعلموا الدرس الكبير الذي خلّده الإمام (عليه السلام) في انتصاره على طاغوت عصره وزمانه والعبرة لمن اعتبر...
سائلين المولى القدير ان يكشف الغمة عن هذه الأمة... فلك سيدي جاها كبيرا عند الله وأنت الوجيه لنا في الدنيا والآخرة ...
الهي فباب الحوائج (عليه السلام) نتوجه إليك أن لا تخرجنا من هذه الدنيا إلا أن ترضى عنا
وان توفقنا لمراضيك وتجنبنا معاصيك
وان تمن على المرضى بالشفاء وعلى الغرباء بالرجوع إلى أوطانهم سالمين آمنين
وعلى الفقراء بالعطاء وعلى الرؤساء بالحلم والأناة
وعلى الشباب بالهداية وعلى النساء بالعفة والحياء
اللهم مُن علينا بظهور وليك وحجتك الكبرى ليملأها قسطا وعدلا آمين يارب العالمين.
فسلام عليك سيدي يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا

فلاح السعدي