بسم الله الرحمن الرحيم
في أحوال الدنيا
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
يتحدَّث الله تعالى في القرآن الكريم، وفي أكثر من آية، عن أحوال الدنيا في طبيعة أوضاعها ولذّاتها وشهواتها وعلاقاتها، ممّا قد يجعل الإنسان يفتتن بها، فتجذبه إليها، وتجعله مستغرقاً فيها، بحيث يسقط أمامها، فينسى ربه وينسى مبادئه ليستسلم من خلال ذلك كلّه لإغراءاتها ولتحدّياتها.
ولذلك، فإنَّ على الإنسان المؤمن دائماً أن يكون حذراً واعياً لكلِّ ما يمكن أن يجذبه خارج الصّراط المستقيم، وقد تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن الأموال والأولاد بأنها فتنة، بمعنى أنها تفتن الإنسان وتجذبه إليها وتشغله عن نفسه وعن ربه، كنتيجة لما يمثِّله المال للإنسان من ملهاة أو من علاقات وأوضاع تجعله يستسلم لإغراءاته، بحيث يعيش همّه، فلا يميِّز بين حلاله وحرامه، لأنه إذا استغرق في المال، فإنه يشعر بالحاجة إلى أن يجمعه من أي طريق كان. وهكذا عندما يعيش الإنسان في علاقته بأولاده، فإنه من الممكن أن يفتنن بهم ويستسلم لما يرتاحون إليه، وقد يرتاحون لما لا يرضي الله، وقد يضغطون على عاطفته وعلى غرائزه، ولا سيّما أن الإنسان عندما يحيط به المال والبنون، فإنهم يشغلونه عن كل شيء، ليحافظ على هذا وذاك، وليستزيد من هذا وذاك.
وقد تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن المال والبنين بأنهما زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}، لأنَّ الإنسان يشعر عندما يملك المال، وعندما يكثر أبناؤه، بأنّ الحياة تزهو له، وأنه يستمتع بها، لأن الإنسان غالباً ما يتطلّب المال ليستطيع أن يكسب منه شهواته وحاجاته أو ليصل به إلى مطامحه، لأن المال قد يكون وسيلةً من وسائل الحصول على الجاه أو الحصول على السلطة وما إلى ذلك.
وهكذا، عندما يحيط به أولاده، فإنه يشعر بالقوّة والاستمتاع بالحياة من خلالهم، وقد يفتتن بذلك، فيبتعد عن الخطِّ المستقيم. ولذلك جعل الله في مقابل ذلك الباقيات الصّالحات: {والباقيات الصّالحات خيرٌّ عند ربّك ثواباً وخير أملاً}، فالمال يزول كما تزول الزّينة التي يتزيَّن بها الإنسان، وأيضاً البنون يفارقونه أو يفارقهم، ولكن الأعمال الصالحة هي الباقية، وهي التي يتقبّلها الله سبحانه وتعالى وتقرب موقع الإنسان عند الله تعالى، فهي التي تبقى له وتخلد له، لأنه عندما يترك هذه الدنيا، فإنه لا يحصل إلا على الكفن وعلى متر من الأرض تضيق به أحجاره وما إلى ذلك.
المال والبنون فتنة
لذلك، يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن المصير الذي يواجهه الإنسان يوم القيامة فيقول: {ولقد جئمتونا فرادى كما خلقناكم أوَّل مرة وتركتم ما خوّلناكم _ ما أعطيناكم _ وراء ظهوركم}(الأنعام/94). وهكذا نجد في قوله تعالى: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} وفي مقابله {وأن الله عنده أجر عظيم}(الأنفال/28) أي لا تستسلموا لأموالكم ولأولادكم، لأنّ الله يحمّلكم مسؤولية المال من أين تأخذونه وكيف تصرفونه، ومسؤولية الأولاد كيف توجّهونهم إلى الخطّ المستقيم.
وقد جاء في قوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}(طه/132) وجاء أيضاً: {يا أيّها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}(التّحريم/6). وهكذا، على الإنسان أن ينتبه إلى ذلك، وأن يدقِّق في كل ما أعطاه إيّاه الله من مال وأولاد وجاه وسلطة وشهوة ولذّة، ليحقّق الانضباط فيها، فيقف عند حدود الله تعالى التي أراد الله له أن يقف عندها.
وقد تحدَّث الله تعالى في آياته عن المؤمنين الذين يبدأون حياتهم بالإيمان بفعل تربية أو بفعل تفكير وتأمل وقراءة، بأن ذلك لا يكفي، لأن على المؤمن أن يكون مستعداً لأن يواجه الأوضاع الطارئة التي تطرأ عليه، فقد يُبتلى بفقر أو بمرض، أو ببعض التحدّيات من هنا وهناك، فتهزّ إيمانه وتسقطه في بعض الحالات.
وهكذا رأينا كيف أنّ الكثير من الناس بدأوا مؤمنين وانتهوا كافرين أو ضالّين، بفعل الأوضاع السلبيّة التي واجهتهم، والشواهد كثيرة، ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يواجه الفتنة، وهي الأوضاع التي يفتتن بها ويبتلى بها مما قد يهزُّ إيمانه ويسقطه وينحرف به عن الصّراط المستقيم، وذلك قوله تعالى: {ألم* أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}(العنكبوت/1-2) يعني ربما يستسلم الإنسان لإيمانه في البداية ليقول إني مؤمن، لأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقيم الصلاة، وأوتي الزكاة، ولكنّه لا يحاول أن يُنمِّي إيمانه ويقوّيه ويبيّن ما يمكن أن ينحرف به، خصوصاً أن الإنسان قد ينتقل من موقع إلى موقع، فقد يعيش الإنسان في بيئة مسلمة مؤمنة، ثم تأتي الظروف لتنقله إلى بيئة كافرة.
فمن النّساء مثلاً مَنْ قد تبدأ مؤمنةً، ولكنّها تتزوَّج إنساناً غير مؤمن، فيضغط عليها وينحرف بها إلى غير الصراط المستقيم. وهكذا ربما نجد بعض أبنائنا الذين قد يبدأون مؤمنين، ولكنّهم قد يدخلون إلى بعض المدارس أو الجامعات، أو قد ينتمون إلى بعض الأحزاب أو بعض المنظمات، فينقلبون رأساً على عقب في هذا المجال، فالله تعالى يحذِّر من هذا الأمر، فعلى المؤمن أن يكون واعياً لإيمانه، تماماً كما يكون واعياً لجسده، فالإنسان يكون صحيح البدن، ثم تفرض عليه الظروف أن يعيش في منطقة تمتلئ بالميكروبات أو تكثر فيها الأمراض التي تجعل الإنسان يعيش تحت تأثير العدوى، فيكون صحيح البدن، ثم عندما يستسلم لما حوله ولا يحصِّن نفسه بالأمور التي تضادّ الميكروبات الموجودة أو تضادّ العدوى أو ما إلى ذلك، يتحوّل إلى إنسان مريض. وهكذا، لأن الأمراض الروحية والإيمانية هي كالأمراض الجسدية، فعلى الإنسان أن يحترس من كلِّ ما يؤدي إلى مرض العقل ومرض القلب ومرض العلاقات وما إلى ذلك.
{أ لم* أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون}، فالله تعالى يريد أن يختبر الإنسان في إيمانه؛ هل يثبت على هذا الإيمان إذا واجهته الفتنة، والفتنة تعني الابتلاء الذي قد يهز إيمانه: {ولقد فتنّا الذين من قبلهم} فهناك كثير من الناس من الأجيال السابقة بدأوا مؤمنين، وأعلنوا إيمانهم، ولكن الله تعالى ابتلاهم من خلال مجريات الواقع الذي عاشوه، فسقط قوم وثبت قوم آخرون، {فليعلمنّ الله الذين صدقوا _ في إيمانهم وثبتوا _ فيه وليعلمنّ الكاذبين}(العنكبوت/3).

والله تعالى يحدّثنا في القرآن عن بعض الناس الذين بلغوا من العلم ومن المعرفة بالله وبآياته حجماً كبيراً، لكنَّهم سقطوا بعد ذلك، يقول تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين* ولو شئنا لرفعناه بها}، يعني أنَّ الله سبحانه وتعالى لو شاء، فإنّه يمكن أن يعطيه من لطفه ومن تثبيته بما يرتفع به إلى المقام الأعلى في القرب من الله، ولكنَّه اختار غير ذلك، يعني أن الله تعالى كان يمكن أن يرفعه بها، لو أنه هو انفتح عليها وفكَّر فيها وثبت عليها، {ولكنه أخلد إلى الأرض} أي استغرق فيها وفي شهواتها ولذّاتها {واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث}(الأعراف/175-176).
بعض الناس يكون بهذا الشكل، ولذلك ينبغي للإنسان أن يحرس إيمانه كما يحرس ماله وجسده ومن حوله في هذا، وأن يلتفت إلى كلِّ الأمور التي تطرأ عليه ليدرسها ويناقشها، حتى لا تسقطه من السَّماء إلى الأرض {قل إنّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}(الزمر/15).
والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..