البلاء في التجربة الإنسانية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
كنا نتحدث عن البلاء للإنسان في الحياة، وقلنا أن البلاء لا يمثل عقوبة إلهية للإنسان ولكنه يمثل تجربة للإنسان في ما يواجه به حياته، لأن الله تعالى عندما خلق الدنيا فإن لم يخلقها لتكون ورداً لا شوك فيه أو شوكاً لا ورد فيه، بل هي شوك يحيط بالورد، وفرح وحزن وفقر وغنى.
لذلك فالحياة تضم كل هذه الأمور، فالإنسان لا يحصل على لذة إلا ومعها ألم ولا على فرح إلا ومعه حزن ولا يستطيع أن يحصل على نجاح إلا ومعه التعب والجهد ولعل كل واحد منكم مهما كان عمره إلا وقد جرب هذه التجربة. فمن منكم ممن يدخل المدرسة إلا ويعاني من جهد في سبيل النجاح، ومن الذي يطلب الرزق فإنه يواجه الكثير من الجهود، وهكذا في القضايا العامة والقضايا السياسية وقضايا الحرية وقضايا الاستقلال وقضايا القوة للبلد فإن الإنسان يواجه الكثير من المتاعب والمشقات ولذلك فإن الله تعالى يقول للإنسان لا بد أن تعيش هذه المشاكل في حياتك إذا أردت أن ترتاح أو تنجح في حياته، لأنه ما من راحة إلا ومعها تعب وما من نجاح إلا ومعه جهد، وما من ربح إلا ومعه خسارة.
كيف تواجه أيها الإنسان ذلك؟ هل تسقط لتندب حظك ولتترك الدراسة إذا تعبت فيها أو إذا أدت بك إلى سهر الليالي هل تترك طلب الرزق إذا كلفك ذلك المزيد من المتاعب والأسفار أم أنك تصبر وتصمد لتواجه النتائج الطيبة الإيجابية في نهاية الأمر.
القرآن الكريم يؤكد على هذه المسألة وقد تحدثنا في أسبوع سابق عن الآية التي تتحدث عن البلاء باسم الفتنة يعني التي يفتتن بها الإنسان ويواجه من خلالها عملية الاهتزاز الذي يمكن أن يجعل الإنسان في حالة إمكانية السقوط وإمكانية الثبات، {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}، يعني هل يقبل الله تعالى منكم كلمة الإيمان ليحكم بإيمانكم لمجرد هذه الكلمة أو أن الله لا بد أن يجرب إيمانكم في تجربتكم، أن يمتحن إيمانكم أن يعرضكم لبعض الهزات التي يمكن أن تتحدى هذا الإيمان. يمكن أن تواجهوا بعض الشبهات، بعض التحديات، بعض الخسائر، لأن الكثيرين من الناس ربما يواجهون المجتمع المنحرف بشيء من الابتلاء.
فمثلاً ربما لا يقبل بعض التجار أو بعض أصحاب مواقع الوظائف الإنسان الملتزم لأنهم يبحثون عن إنسان غير ملتزم أو لا تقبل المرأة أو الفتاة المحجبة لأنهم يبحثون عن الفتاة أو المرأة التي تظهر مفاتنها وتمارس أجواء الإغراء مع الزبائن، هذا يمثل نوعاً من أنواع التجربة التي يمتحن الله تعالى فيها التزام الإنسان هل يثبت على إيمانه أو أنه يسقك ليفضل الحياة الدنيا على الآخرة، وليفضل خط المال على خط الالتزام.
ثم الله تعالى يقول: {ولقد فتنا الذين من قبلهم _ ابتليناهم ودفعنا بهم إلى التجربة الصعبة _ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعملن الكاذبين}، وهكذا نواجه آية أخرى تقول: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}، إن الله تعالى يحدثنا عما يحدث في الحياة الدنيا فقد تحدث لنا في حياتنا الدنيا الكثير من الهزات الأمنية التي تنشر الخوف في المجتمع بحيث ينام الإنسان ويستيقظ خائفاً من الخطر الذي يتحدى حياته نتيجة أوضاع أمنية صعبة أو نتيجة عدوٍ يحاول أن يخطط للإضرار به أو يهدد حياته وربما يواجه الإنسان حالات من الفقر بحيث يجوع فيها ولا يجد ما يكفيه في عيشه وفي طعامه. وربما أيضاً يواجه خسارات في حياته يعني نقص من الأموال والأنفس، فقد يفقد بعض أحبائه أو بعض أقربائه وإذا كان أيضاً مزارعاً أو كان صاحب مزارع فقد يبتلى بنقص الثمرات.
فالله تعالى يقول أن هذه الأمور قد تواجه الإنسان في الحياة، فربما يصاب بعض الناس بالجزع أوب السقوط فلا يستطيع أن يتحمل فيخرج عن طوره وتوزانه، وربما تقود هذه الأمور بعض الناس عندما يشتد بها الجزع والخوف إلى حد الانتحار، أما الانتحار الجسدي أو الانتحار الاجتماعي بحيث يختل توازن عقله أو توازنه في علاقاته.
وهنا يطرح الله تعالى على الإنسان الصبر، {وبشر الصابرين} الصبر الذي ينفتح بالإنسان على دراسة الحياة الدنيا، فالحياة الدنيا عندما يدرس تاريخها فيمن سبقه من الناس وفيما تقدمته من الأجيال، يشعر بأن هناك كثير من الناس عاشوا الخوف ولكن الأمن أعقب الخوف، وعاشوا الفقر ولكنهم حصلوا على الغنى، وعاشوا الجوع ولكنهم حصلوا على الشبع، وهكذا عندما واجهوا النقص في الأموال والأنفس والثمرات استطاعوا أن عوضوا ذلك بالكثير مما سد هذه الثغرات {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}، إنا لله تمثل الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى يملكنا، نحن لا نملك أنفسنا ولكن الله هو الذي يملكنا لأنه هو الذي خلقنا وهو الذي يرعى وجودنا ويهيىء لنا أسباب هذه الحياة.
والله تعالى خلق هذه الحياة فإنه لم يخلقها من لون واحد ولكنه خلقها من لونين يعيش الإنسان بينهما. فليس هناك حزن إلا ومعه فرح، وليس هناك خوف إلا ومعه أمن، وليس هناك من فقر إلا ومعه غنى، وهكذا تستمر الحياة. لأن هذا العالم الذي نحن فيه هو العالم المحدود الذي لا يحصل الإنسان فيه على شيء إلا ليخسر شيئاً آخر، فالإنسان الذي يريد النجاح لا بد أن يسهر الليل وهكذا يقول الشاعر: بقدر الجد تكتسب المعالي / ومن طلب العلى سهر الليالي.
كما في بيت آخر يقول: تهوى ليلى وتنام الليل _ وليلى كناية عن العلم وعن النجاح _ لعمرك ذا طلبٌ تسمِجُ، ويقول بعض الشعراء: لولا المشقة ساد الناس كلهم / الجود يفقر والأقدام ؟؟؟.
فالله تعالى يقول لك إن عليك أن تعي دائماً أنك ملك الله وأن الله هو ربك لأنه هو خالقك وهو يملك منك ما لا تملك من نفسك، وإنا إليه راجعون، وأنه ليس هناك مشكلة في الحياة خالدة فالإنسان في هذه الدنيا لا بد أن يبلغ أجله ولا بد أن يرجع إلى ربه ليقدم له حسابه. ولذلك فإن على الإنسان أن يعتبر أنه مهما طالت به المشكلة فإنه سيرجع إلى الله وسوف يمنحه الله تعالى أجر ما صبر، {الذين إذا إصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}.
ما هو جزاؤهم ما هي جائزتهم {أولئك عليهم صلوات من ربهم} يعني إن الله يصلي على الصابرين كما يصلي على النبي، والصلاة من الله ليست ركوعاً وسجوداً ولكن الصلاة من الله هي المغفرة والرحمة ورفع الدرجة. فكما أن الله يصلي وملائكته أيضاً يصلون عليكم، وأية جائزة للإنسان الصابر أعظم من أن ينال من الله ما يناله النبي(ص).
فالنبي(ص) نال من الله إن الله تعالى يصلي عليه وملائكته يصلون على النبي {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}، فالله كما يصلي على النبي يصلي على الصابرين بمعنى يرفع درجتهم جزاء على صبرهم ويغفر لهم ويرفع مستواهم {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} وأيضاً ينالون رحمة الله ورحمة الله تتناول كل وجود الإنسان، تتناول رزقه وصحته وأمنه وكل خير تصيبه.
{وأولئك هم المهتدون} لأن هذا هو طريق الهدى أن يملك الإنسان نفسه ويملك إرادته فلا يسقط أمام التحديات وأمام الاهتزازات في حياته.