التوحيد في الطاعةالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.ابتعاد الإنسان عن عقيدة الإيمان أو عن الالتزام بالرسول وبرسالته وما إلى ذلك مما يتَّصل بسلامة العقيدة، يعرّضه لغضب الله وسخطه وعقابه، وفي هذا ظلم كبير للنفس، لأنه يتصل بقضية المصير. وهكذا ربما يكون ظلم النفس بالانحراف عن الخط المستقيم، وذلك بمعصية الله سبحانه وتعالى في ما أمر به وفي ما نهى عنه، فيترك ما أمر الله به ويفعل ما نهى الله عنه.إنَّ الله تعالى يوجِّه الإنسان إلى أنَّ ظلمه لنفسه لن يكون ضريبةً أبديةً يواجه نتائجها السلبية بشكل دائم، ولكنه يمكن أن يبتعد عن ذلك كله بالتوبة إلى الله واستغفاره ومحاولة السير من جديد في الخطّ المستقيم. وهذا ما جاء في الآيات التي تتحدث عن الذين يستحقّون مغفرة الله ويستحقّون جنّته. يقول تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم}، والمسارعة إلى طلب المغفرة من قبل الله تعني أن يسارع الإنسان إلى الأعمال التي يحبها الله ويرضاها ويغفر لمن قام بها، باعتبارها تمثل التوبة، والله تعالى وعد التائبين قبول التوبة: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} (الشورى/25). وهكذا قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} (الزمر/53).{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة}، أي سارعوا إلى الجنة، بأن تسيروا في طريق الجنة، وتأخذوا بما وعد الله به عباده الصالحين من الجنة بسبب أعمالهم وعقائدهم التي تتصل بحياتهم الخاصة أو من خلال علاقتهم بالناس الآخرين، {عرضها السموات والأرض}، يقال إن المراد من عرضها السموات والأرض ليس هو العرض في مقابل الطول، ليقول بعض الناس إذا كان عرض الجنة السموات والأرض فأين يكون الطول؟ بل المقصود من كلمة العرض _ والله العالم _ السعة، أي إن سعتها سعة السموات والأرض {أعدّت للمتقين} (آل عمران/133)، فالله تعالى أعدَّ الجنة وهيَّأها في كل ما فيها من كرامة ورضوان ونعيم، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، هذه الجنة أعدَّها الله للمتقين، والمتّقون هم الذين يأخذون بأسباب التقوى، وقد حدّدت التقوى ببعض الأحاديث: بأن لا يجدك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، بل أن يجدك في مواقع أمره، أي في المواقع التي أراد لك أن تكون فيها، وأن يفقدك في مواقع نهيه، وهي المواقع التي أراد لك الابتعاد عنها وتركها.والتقوى تمثِّل حالةً نفسيةً من خلال خوف الله ومراقبته، بحيث تدفع الإنسان إلى الالتزام بما أمر الله به وبما نهى عنه. ثم يبين الله تعالى بعض صفات هؤلاء المتقين، هذه الصفات التي تمثل العمق الإنساني للمتقي، لأنَّ التقوى ليست مجرد حالة سلوكية بالعمل الذاتيّ للإنسان، كالصلاة والصوم والحج وما إلى ذلك، بل إن التقوى تتصل بالعنصر الإنساني، وهو انفتاح الإنسان على آلام الناس وحاجاتهم وضروراتهم، وانفتاح الإنسان على الحالات التي يواجه فيها السلبيات الآتية إليه من الآخرين، من غضب أو إيذاء أو ما إلى ذلك، بحيث لا يواجه الإساءة التي توجَّه إليه بردِّ الفعل، بحيث يدفع الشر بالشر، والسوء بالسوء، بل يرتفع عن ذلك إلى المستوى الذي يعيش فيه القيمة الروحية التي تتجاوز العوامل النفسية السلبية.{الذين ينفقون في السرَّاء والضرَّاء}، أي الذين يعيشون روحية العطاء، بحيث إنهم ينطلقون في دراساتهم لحاجات الناس المادية من أوضاعهم الاقتصادية، فينفقون أموالهم إذا كانوا في سعة أو إذا كانوا في ضيق، لأن طبيعتهم هي العطاء، فهم يعطون في حالة السعة كما يعطون في حالة الضيق على أساس انفعالهم بآلام الناس وبحاجاتهم.{والكاظمين الغيظ}، أي الذين إذا واجهوا الغيظ الذي يتحرَّك من خلال إيذاء الناس لهم في أية حالة وإساءتهم إليهم، فإنّهم يكظمون غيظهم. ومن الطبيعي أنَّ الإنسان إذا أُسيء إليه، فإنَّ ذلك يفجِّر غيظه ويشعره بضيق الصدر وبغيظ النفس، والنّاس على قسمين: فهناك إنسان يفجِّر غيظه، وهو الذي يردُّ السوء بالسوء والشرّ بالشرّ، سواء كان ذلك بالكلمة أو كان ذلك بالفعل أو بالموقف، وهناك إنسان يحبس غيظه فلا يطلعه في وجه من غاظه ومن أساء إليه، فالمتقون هم الذين يخافون الله ويطلبون رضاه وهم يعرفون أن الله تعالى يريد من المؤمن أن يدرأ بالحسنة السيئة، وأن لا يرد السيئة بالسيئة، طلباً لرضى الله سبحانه وتعالى وخوفاً من غضبه، لأن ردَّ الفعل عندما ينطلق مع الإنسان، فقد يتجاوز الحدَّ الذي يريد الله تعالى للإنسان أن يقف عنده، لأن الله تعالى يقول: {فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} (النحل/126)، والكثير من الناس يتجاوزون ما أراده الله لهم عندما يريدون أخذ حقهم ممّن أساء إليهم، فهناك كثير من الناس إذا شتمهم أحد يضربونه، أو إذا ضربهم يقتلونه، أو إذا قام أحد بجريمة تتعلق ببعض من يتعلقون به فإنهم يحرقون بيته ويطردونه من بلده أو ما إلى ذلك.مع أن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يقف عند الحد حتى عندما يريد أن يأخذ حقه، فإنّ له أن يأخذ حقه، ولكن ليس له أن يزيد عليه، {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة/194)، وهذا ما ضرب به المثل الأعلى أمير المؤمنين (ع)، عندما أوصى بني عبد المطلب في الجريمة التي أجرمها بحقه عبد الرحمن بن ملجم، وكانت العادة في الجاهلية أنه إذا قتل إنسان شخصية كبرى، فإن رد الفعل يكون من قبل عشيرة المقتول بأن يقتلوا أقاربه أو ما أشبه ذلك، وأن يمثلوا به، فقال (ع): «يا بني عبد المطلب، لا ألفيَّنكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين، انظروا إذا أنا مُتّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل _ أن تقطعوا يديه أو رجليه _ فإني سمعت رسول الله (ص) يقول إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور».فالطريقة التي يسمو بها الإنسان عن عقلية الثأر وعن عملية ردّ الفعل ليعيش القيمة الروحية في العفو عند المقدرة، والعفو عمن أساء إليه، ليدرأ بالحسنة السيئة، هي إحدى أهم صفات المؤمنين، كما ذكر في آيات أخرى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس}، فهم لا يكتفون بأن يحبسوا غيظهم في صدورهم، لأنّ الإنسان عندما يحبس الغيظ في صدره، تتحوَّل حالة الغيظ عنده إلى عقدة، وهذه العقدة ربما تعبِّر عن نفسها في المستقبل بطريقة سلبية تدمر الآخر، لأن الإنسان عندما يعيش عقدة في نفسه، فإن العقدة سوف تنمو بالمستوى الذي يمكن أن تتحوَّل إلى خطرٍ في سلوكه، باعتبار ما تثيره العقدة من أحاسيس وما إلى ذلك، فهؤلاء يكظمون غيظهم ويعفون عن الناس، ولا يكتفون بالعفو، بل يحسنون إلى من أساء إليهم، {والله يحب المحسنين} (آل عمران/134).وينقل في مناسبة هذه الآية، أن جارية كانت تصبُّ الماء على يد الإمام زين العابدين (ع)، فكان الإبريق الذي بيدها إبريقاً من نحاس، وعندما كانت تمسك الإبريق، أخذت تنظر من هنا وهناك، وطبعاً كانت لا تركز، فوقع الإبريق فشجّ رأس الإمام، فسال منه الدم، وهذه الجارية كانت قد تربت في بيت الإمام، فقالت: «والكاظمين الغيظ»، أنا أذيتك وأغظتك، قال: «قد كظمت غيظي»، قالت: «والعافين عن الناس»، قال: «قد عفوت عنك»، قالت «والله يحب المحسنين»، قال: «اذهبي فأنت حرة لوجه الله».ثم يُعقب على هذه الآية: {والذين إذا فعلوا فاحشة} وليس المراد بالفاحشة ما يتعلق بالانحراف الجنسي، بل هي كل شيء تجاوز الحدّ، ويقال هذا الشيء فاحش أي تجاوز الحد، {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله}، الذين إذا عاشوا الغفلة في وقت من الأوقات، وارتكبوا ما يتجاوز الحد الطبيعي في موقف الإنسان من الله سبحانه وتعالى، أو ظلموا أنفسهم بالمعصية لله سبحانه وتعالى، فإنَّ الغفلة لا تمتدُّ بهم، ولكنّهم بمجرد أن يواجهوا هذا الموقف يذكرون الله، فاستغفروا لذنوبهم، قالوا اللهم إنا أخطأنا وأذنبنا وأسأنا فاغفر لنا ذنوبنا، {ومن يغفر الذنوب إلا الله}، أي الله هو وحده الذي يغفر الذنوب كلَّها إذا استغفره الإنسان، {ولم يصرّوا على ما فعلوا} لم يصروا على هذا الذنب، {وهم يعلمون} (آل عمران/135) أن ما فعلوه يغضب الله ويسخطه ويعرضهم لعقابه.وهناك آية من هذا القبيل، وهي أن الإنسان المؤمن إذا أحاطت به ظلمة المعصية، وإذا أطبق عليه الشيطان وأوقعه في الغفلة، عندها يأتي إيمانه فيضيء له ويبصر الطريق إلى رضى الله، وهذا ما أكده قوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان}، أي إذا طاف بهم الشيطان فأبعدهم عن طاعة الله سبحانه وتعالى، {تذكّروا} وهذا ما يجعلهم يخرجون من حالة الغفلة ويتذكرون موقعهم من الله، وموقفهم من الله وحاجتهم إلى رضاه، {فإذا هم مبصرون} (الأعراف/201)، لأن الغفلة توجب نوعاً من العمى للإنسان، فالإنسان المؤمن والمتّقي هو الذي يبصر عندما يهجم عليه الشيطان، فيعمي بصره في عقله وفي قلبه، وقد أراد الله أن يؤكّد أن الذين يعملون في هذا الخط {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} (آل عمران/136)، فإن الله تعالى سوف يعطيهم الأجر العظيم، وأي أجر أعظم من أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم، ويرضى عنهم ويدخلهم في الجنة التي وعد بها المتقين.والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..