الأمـانــةالاستقامة تمثّل نقطة التوافق والانسجام بين القاعدة التي يلتزمها الإنسان كمبدأ، وبين الهدف الذي يسعى إليه، ومن بين خطوط الاستقامة التفصيلية، الأمانة التي تمثل التوافق بين الالتزام والعمل، والذي يجسّد الثقة بين صاحب الأمانة والمؤتمن، فالإنسان الذي يأتمن إنساناً على شيء ـ ولعلّ المظهر العام هو المال ـ ويقبل الشخص الآخر هذا الائتمان، فإنه عندما يقبل بالأمانة، فهو بذلك يعطي الإنسان الآخر الثقة من نفسه بأن يحفظ له أمانته وأن يلتزمها ويسلّمها إليه كاملة غير منقوصة، فهذه مسألة تتصل بالالتزام الأخلاقي الذي يحترم فيه الإنسان نفسه، لأن احترام الإنسان لنفسه يتمثل في احترامه لالتزاماته ولعهده، لأن الأمانة هي نوع من المعاهدة بين المؤتمن وبين صاحب الأمانة.والإنسان الذي يحترم نفسه هو الذي يحترم كلمته ويحترم التزامه ويحترم عهده، أما الذي لا يحترم كلمته ولا التزامه، فهو يحتقر نفسه قبل أن يحتقره الآخرون، لأنه لم يلتزم بما عقد عليه عقله وقلبه وكلمته. وقد ورد الحديث عن هذه الأمانة في عدّة آيات قرآنية: "فإن أمِنَ بعضكم بعضاً فليؤدِّ الذي اؤتُمِنَ أمانته وليتقِّ الله ربه} [البقرة:283] {إن الله كان سميعاً بصيراً} [النساء:58]، لأنّ الله يسمع ما يتعاقدان عليه ويبصر كيف يدفع المؤتمن هذه الأمانة.فالمسألة إذاً ترتبط بالأمر الإلهي من خلال التزام الشخص على نفسه بذلك، كما أنها ترتبط بالتقوى، لأن بعض الناس ربما يأتمن الآخر من دون ورقة، باعتبار الثقة الموجودة بينهما، فيدفع للآخر ماله من دون أي كتابة، فقد يأتي الشيطان لهذا الشخص ليقول له إنه ليس عليك أية وثيقة، فبإمكانك أن تأخذ هذا المال ولا يملك ذاك الشخص عليك أية حجة، لأنه لا يملك أية وثيقة، هنا تأتي التقوى {وليتقِّ الله ربه}، لأنه إذا لم تكن هناك وثيقة تحفظ حق هذا الإنسان، فإنّ الوثيقة الكبرى هي عند الله الذي ربما يفضح هذه الخيانة في الدنيا قبل الآخرة، ويحاسب على ذلك في الآخرة، عندما يقوم الناس لربِّ العالمين.فالقضية أيضاً ترتبط بالتقوى، من خلال أن الله يسمع ما يتعاقد عليه الطرفان ويرى ما يجري بينهما في مجال الأمانة. وإذا كان المتعارف عند الناس في الأمانة، أمانة المال الشخصي الذي يودعه شخص عند شخص آخر، فهناك أنواع من الأمانة، كما في الشخص الذي يوظف عاملاً عنده في محله التجاري أو في أي موقع من مواقع حركة المال، فيعتبر هذا الموظف أو هذا العامل أميناً على هذا المال، وهنا تأتي مسألة الأمانة، فإذا كنت عاملاً أو موظفاً، فإن عليك أن تعرف أن هذا المال هو مال الذي وظّفك، ومال صاحب العمل والمحل، فليس لك أن تتجاوز تعليماته في كل ما يريده منك.مثلاً الآن هناك بعض الموظفين يأتون إلى البضاعة المسعّرة بسعر معين، وبحسب شطارتهم يبيعون هذه البضاعة بسعر أكبر، فيأخذ الزائد له ويعطي لصاحب المحل الحد المسعّر مثلاً، فهذا العمل يعتبر نوعاً من أنواع خيانة الأمانة، لأن هذا المال ليس ماله، لنفرض أنه باع البضاعة بـ15 وكانت مسعرة بـ10، فمن المفروض أن يقول لصاحب المحل. وهناك نوعٌ آخر من أنواع الخيانة، كأن يكون شخصٌ ما موظفاً في جمعية أو حزب أو محل أو في أي موقع مالي، أو كالذي يشتري قطع السيارات، ويذهب إلى الشخص الذي يبيع هذه الأشياء، فيقول له: هذه القطعة ثمنها 10، يقول لصاحب المحل أكتب لي في الفاتورة 15، حتى إنه في بعض الحالات يطلب صاحب المحل من شخصٍ أن يكتب الفاتورة بسعر أكبر، أو أن يطلب شخص من صاحب المحل ذلك، حتى يذهب إلى الشخص الذي وكّله بالشراء ليقول له دفعت 15، فهذه خيانة أيضاً.كل ذلك حرام، لأن الوكيل أساساً لا بد أن يكون أميناً. فأنت عندما تكون وكيلاً في شراء بضاعة، فإنّ عليك أن تخلص لموكلك، فتكون وكأنه هو الذي يشتري بنفسه، ولا بد أن تبذل كل جهدك في أن تأخذ له أحسن سعر، كما يأخذ هو لنفسه، أو كما تأخذ أنت لنفسك لو أردت أن تشتري لنفسك. مثلاً، السيارات، تذهب أنت لإصلاح سيارتك، فمرة يذهب هو ويشتري البضاعة لحسابه، فتتفق معه على التصليح، فيقول لك سأصلح السيارة مقابل مبلغ إجمالي هو كذا، وهذا اتفاق حر، فهو حر بماله وأنت حر بمالك.لكن لو فرضنا أنه جاء وكتب لك فاتورة، مثلاً القطعة الفلانية سعرها كذا والثانية سعرها كذا، وهو قد اشتراها بسعر أقل، فهذا أيضاً يسمى خيانة، لأنه كان باستطاعته منذ البداية أن يتّفق معك على سعر تصليحها، لا أن يشتري البضاعة بسعر ويبيعها لك بسعر أكبر. أيضاً عندما تذهب إلى محطة بنـزين، والسعر فيها معروف، فيقول لك وضعت 10 ليترات، بينما يكون قد وضع 9 ليترات، فهذا أيضاً يعتبر خيانة، وبذلك يقول تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم}، وفي آية أخرى يقول: {ويلٌ للمطففين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون* ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين:1-5]. أنت الآن سرقت وأخذت، فكيف ستقف غداً أمام الله؟ومما يدخل في باب الأمانة، الأمانة الزوجية، فالعقد الذي يتمّ بين الزوجين هو أن يكون كل واحد منهما أمانة عند الآخر، نحن دائماً عندما نعقد القِران بين الزوجين، نقول للزوج: هذه أمانة الله عندك وأنت أمانة الله عندها، لأن الزواج هو التزام، أي أن يلتزم كل واحد منهما بما للآخر عليه من حقوق، وفي الزواج ليس هناك أحدٌ أكبر من الآخر، هناك عقد، كما هو الأمر عندما تبيع وتشتري، فهل يوجد فضل للبائع على المشتري أو للمشتري على البائع؟ البائع يسلمك البضاعة، وأنت تسلمه المال، هذا الأمر التزامي، فهو التزام بين طرفين.لذلك عندما يحصل الزواج، فتكون الزوجة أمانة الله عند الزوج، والزوج أمانة الله عند الزوجة، لذلك عليهما أن يحفظا الأمانة من خلال علاقتهما ببعضهما البعض، وفي أن يؤدي كل واحد منهما حقه للآخر. والأمانة أيضاً، أن لا تحصل خيانة زوجية من الطرفين.ومن الأمانات أيضاً السر، كأن يأتي شخص ويودعك سرّاً ويطلب منك أن تحتفظ به لأنك صديقه وأخوه وهو يثق بك، وهناك كثير من الناس يحب أن يودع سره عند صديقه كما يودع ماله عند صديقه. وأمانة السر أخطر من أمانة المال، لأن السر ربما يؤدي إلى الخطر على الحياة إذا كُشف، هنا يجب أن تحفظ سر صاحبك عندما يأتمنك عليه، وليس لأحد الحق في أن يحدِّث بأمر يكتمه صاحبه، نحن ماذا نفعل، نقول السر لشخص ونقول له لا تبح به لأحد، فيأتي هذا الآخر ويقول السر لشخص آخر ويطلب منه أن لا يبوح به لأحد، وهكذا ينشر أمر السر حتى يعرفه ألف شخص، فهذا لا يجوز، لأنّ السر أمانة، وعلى الإنسان أن يحتفظ بهذه الأمانة، {فإن أمِن بعضكم بعضاً فليؤدِّ الذي اؤتُمِن أمانته وليتقِ الله ربه}.وهذا أيها الأحبة، هو الذي يحفظ للمجتمع سلامته وتوازنه واستقامته، فالمجتمع يقوم على أساس الثقة؛ الثقة بين الأب وأبنائه، بين الزوج وزوجته، بين الجار وجاره، بين الناس في تعاملهم مع بعضهم بعضاً في العلاقات المالية والاجتماعية.وأيضاً هناك شيء أساسي أنتم مقبلون عليه وهو صوتكم وورقتكم، هذه أمانة الله عندكم، ما هو معنى الصوت؟ معناه أنك تتحمل مسؤولية من تصوّت له، لأنه قد ينجح بصوتك، فهذا الشخص الذي من الممكن أن ينجح بصوتك ويمكن أن يخسر بصوتك، لا بد لك من أن تعرف داخله وخارجه، لأن ما أصبح متعارفاً عندنا، هو أنهم يأتون لك بعشرين شخصاً، لا تحفظ حتى أسماءهم، ويطلبون منك أن تُسقط الورقة كما هي، وهذا ما حدث في الانتخابات البلدية الأخيرة.إن الانتخابات تتحمّل مسؤوليتها أمام الله، والله سيسألك غداً، هل تعرف هؤلاء العشرين شخصاً، من الصادق منهم ومن الكاذب، من الأمين ومن الخائن؟ كلا، بل قالوا لنا انتخبوهم لأسباب عائلية أو حزبية أو غيرها، فهل هذه حجة شرعية؟أغلب الناس لا يعرفون هذا المعنى، وخصوصاً أن التحالفات والاتفاقات تأتي بأشخاص لا يؤمنون بالإسلام ولا بالله تعالى، {يوم تأتي كلّ نفسٍ تجادل عن نفسها} [النحل:111]. أنا قلت مراراً لكثير من الناس، نحن نريد الخير لكل الناس، ولسنا لأحد دون أحد، ولكن علينا أن نختار الصادق الأمين الكفؤ الذي يحب الناس ويخاف الله في نفسه وفي الناس، بحيث إذا سألك الله عنه تملك الجواب.ولذلك، فإن الإنسان عندما يريد أن يؤيد شخصاً أو أن يخذل شخصاً، فعليه أن يعرف مدخله ومخرجه، ومن هو، وهل تملك الدفاع عنه أمام الله؟ كل واحد عليه أن يدبِّر حاله. {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58]، والحمد لله رب العالمين.