تشهد مجتمعاتنا منذ فترة انتشاراً لظاهرة "التّنجيم"، ولا سيَّما في وسائل الإعلام المختلفة، حتى تكاد لا تخلو محطّة تلفزيونيّة أو إذاعيّة من فقرةٍ يوميَّة أو برنامج مخصّص للتّنجيم والتنبّؤات، إضافةً إلى الصّحف والمجلات الَّتي تخصّص مساحاتٍ للأبراج ومعرفة الطّالع. وما يلفت في هذه الظّاهرة، إقبال شرائح كثيرة من المجتمع، على اختلاف معتقداتهم، وتفاوت مستوياتهم الثقافيّة، لمتابعة مثل هذه البرامج والاطّلاع عليها.

سلعة رائجة:
هذه الظّاهرة تنشط بشكلٍ أكبر عند حلول رأس السّنة الميلاديَّة، حيث شهدنا "احتلالاً" للمتنبئين والمنجمين لشاشات التلفزة، إذ تتنافس القنوات التلفزيونيّة ـ وخصوصاً اللبنانيّة ـ في إعداد البرامج الَّتي تستقبل هؤلاء على اختلاف طرائقهم، فمنهم من يدّعي امتلاك الحاسَّة السَّادسة، حيث يرى الحوادث قبل وقوعها، فيتحدَّث عن اغتيالاتٍ وحروبٍ وكوارث طبيعيَّة وغيرها، ومنهم من يرصد النّجوم والكواكب وتحرّكاتها، متناولاً انعكاساتها المستقبليّة على حياة النّاس، إضافةً إلى طرائق أخرى كثيرة...
والجدير ذكره أنَّ هذه الظاهرة ليست حديثة، بل كانت سائدة منذ مئات السّنين في العصور السّابقة بدرجاتٍ متفاوتةٍ، حيث ساهم في انتشارها سيطرة الخرافة والجهل على المجتمعات والشّعوب القديمة الّتي كانت تربط كلّ الظواهر بالغيب والماورئيات، وهو ما يؤكِّد أنَّ التّنجيم انطلق أساساً من معتقدات خرافيَّة أسطوريَّة ترتكز على أسس غير منطقيَّة وغير علميَّة.
وقد أصبح التّنجيم اليوم سلعةً تجاريّةً يروّج لها الإعلام الَّذي بات يستثمر هذه البرامج لمضاعفة عدد روّاده، غير مبالٍ بما يشيعه عند النّاس من حالات تشاؤم أو تفاؤل مزيّفة وغير واقعيّة، ودون الاهتمام بما يساهم فيه من أجواء جهل وتخلّف.
وإذا ما محّصنا قليلاً فيما يدَّعيه هؤلاء من تنبّؤاتٍ سياسيَّة أمنيَّة واجتماعيَّة، نرى أنّ أغلبها أمور بديهيّة الحصول، ولا سيَّما عند الحديث عن كوارث طبيعيَّة، حيث يشير العلماء في هذا الصَّدد إلى أنَّ الأرض متعرّضة في أيّ وقت للزّلازل والبراكين والأعاصير، وخصوصاً مع تبدّل المناخ وما إلى ذلك. أمّا التوقّعات السياسيّة والأمنيّة، من حروبٍ وتبدّلات سياسيّة وسقوط أنظمة وقيام أخرى وشهود ثورات، فهي مبنيّة على تحليلات معيّنة وقراءة للواقع واطّلاعٍ على حيثيّاته على مدى زمني معيّن، ونحن نشاهد كلّ يوم فشل معظم هذه التّوقّعات، ما يدلّ على قراءة غير متمرّسة للأحداث.
والغريب اليوم، أنَّه على الرّغم من أنّ العصر الّذي نعيشه هو عصر ثورة المعلومات والتقدّم العلميّ والتّكنولوجيّ بامتياز، إلا أنَّ هذه الظّاهرة ما تزال تلقى رواجاً كبيراً حتّى عند الفئات الّتي يفترض أن تتصدّى لها وتواجهها، وهي فئة المثقّفين والمتعلّمين.
السياسيّون والتّنجيم:
هذا الأمر لا يقتصر على مكان في العالم دون آخر، إذ يتساوى في ذلك العالم العربيّ والعالم الغربيّ والأوروبيّ، وكلّ دول العالم، فقد أشارت صحيفة "الإكسبرس" البريطانيَّة إلى أنَّ عدداً كبيراً من كبار القادة في العالم يستشيرون المنجّمين قبل اتخاذ أيّ قرارٍ سياسيّ.
كما ذكرت الصّحيفة أيضاً، أنَّ برنامج عمل الرئيس الروسي بوريس يلتسن ـ أول رؤساء روسيا بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي ـ كانت تحدّده الأبراج السماويَّة، الأمر الَّذي يفسّر بعض أسباب تصرّفات يلتسن غير المفهومة أحياناً، مثل إلغاء رحلته إلى الخارج، وتبديل موعد عمليته الجراحية.. كما تناولت الصحيفة الفضيحة الَّتي أثيرت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1988، حين كشف الأمين العام للبيت الأبيض عن تعيين رونالد ريغان، عقب انتخابه رئيساً للولايات المتّحدة الأمريكيّة، ثلاثة منجمين كمستشارين رسميين له، إذ إنه لم يتّخذ أي قرار هام دون الرجوع إليهم، حتى إنَّ اختيار جورج بوش نائب الرئيس، تمّ على أساس توافق برجه مع برج ريغان.
وفي فرنسا، أصدرت العرافة الفرنسية إليزابيث تيسيه كتاباً تحت عنوان "السّياسيون والتنجيم"، تحدَّثت فيه عن علاقتها بالرّئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، معلنةً أنها كانت "المستشارة الروحيّة" له، وأنَّها لعبت دوراً على الصّعيد الاجتماعيّ والسياسيّ في حياته.
وعن سبب انتشار هذه الظاهرة بشكلٍ كبيرٍ في العالم، يشير علماء النّفس والاجتماع إلى أنَّ الاضطرابات واللااستقرار الَّذي يعيشه الإنسان، والضّغوط الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي يعانيها، تدفعه إلى اللّجوء إلى التّنجيم والاعتقاد بالخرافات والأساطير الشّعبيّة الوهميَّة، هروباً من الواقع، ومحاولة للتغلّب عليه، ورغبةً بمعرفة الأقدار وخفايا المستقبل والفراغ الثّقافيّ والرّوحيّ الّذي يعيشونه، وغياب الوازع الدّينيّ. يضاف إلى ذلك، أنَّ الإعلام تخلَّى عن دوره الحقيقيّ في توجيه النّاس وتثقيفهم، واتَّخذ طابعاً تجاريّاً غير هادف في التَّرويج للتَّنجيم، مستخفّاً بعقول النّاس ومستهزئاً بهم.

الفرق بين علم الفلك والتَّنجيم:

وما يثير الدَّهشة أو ربما السّخرية، أنَّ المنجم يطلق على نفسه صفة "عالم الفلك"، ما أدّى إلى الخلط بين التَّنجيم وعلم الفلك، رغم أنَّ الفرق بينهما شاسع جداً، وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ علم الفلك ، هو علم قائم بحدّ ذاته، ويقوم على الرّصد والمسح السّماوي ودراسة قوانين حركات الأجرام السماويّة ومداراتها من أقمار وتوابع، ويعمل أيضاً على إجراء القياسات والاختبارات والحسابات المتعلّقة بها، وقد أطلق العرب عليه قديماً اسم "علم الهيئة". أمّا التّنجيم ، فلا يعتبر علماً كبقيّة العلوم، لأنَّه ينطلق من مقدّمات ظنيّة تحتاج إلى إثبات، بل يصنّف ضمن فنون الكهانة والعرافة، القائم على التماس الغيب من خلال مطالعة حركة الأجرام وادّعاء تأثيرها في الأرض، كما يعدّ "ضرباً من ضروب الشّعوذة والخرافة والدّجل"..

الموقف الإسلامي:

وعلى المستوى الشّرعي الإسلامي، يؤكِّد العلامة المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله(ره)، أنَّ " كلّ ما له علاقة بالغيب والإخبار عن المغيّبات، هو سرّ في علم الله تعالى، وأنَّ من يدّعي العلم به من خلال النّجوم ونحوها، هو من الكاذبين حتّى لو صدق في بعض الأحيان صدفةً"، مشيراً إلى أنَّ الأفلاك وحركتها أمر كوني، ولكن استكشاف الغيب من ذلك، أمر غير صحيح، فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى. وبالنّسبة إلى الموقف الفقهيّ من العمل بهذه الأمور، يرى سماحته أنَّه "يحرم الاشتغال بكلِّ ما يدخل تحت عنوان السّحر، وفعل كلّ ما يراد به إيقاع الأذى بالآخر، وقول شيء هو من المغيّبات، وذلك بأيّ أسلوب وتحت أيّ عنوان، وكائناً من كان مدّعي ذلك".
ويعرف سماحته التنجيم في رسالته العمليّة "فقه الشَّريعة" بأنه "الإخبار عن أحوال الإنسان وصفاته وعمّا يقع عليه من أحداث، اعتماداً على حركة الكواكب والنّجوم، وذلك اعتقاداً من المخبر أنَّ لهذه الحركة تأثيراً في حياة الإنسان، وهو اعتقادٌ باطلٌ لا صحّة له؛ وهذا العمل حرام، فلا يجوز فعله ولا أخذ الأجرة عليه".
كما يشير سماحته إلى "أنَّ الإسلام يرفض كلّ الأمور الَّتي لا ترتكز على العقل، وتنطلق على ضوء العاطفة أو الغريزة والانفعال"، ولذلك فهو يرفض الخرافة، كونها "لا تمثّل حقيقة ولا ترتكز على علم أو دليل، وإنما تتحرك في نطاق مصادرة العقل، ومن خلال بعض الأوهام التي ينسجها الخيال الإنساني".
أمَّا سبب انتشار الخرافة في المجتمعات، فيرى سماحته أنَّها تتفشَّى حيث ينتشر الجهل، فالمجتمع الّذي يأخذ بأسباب العلم، تهجره الخرافة، أو تعيش في مساحات ضيّقة ومحاصرة منه، "وربّما انطلقت الخرافة في واقعنا الإسلاميّ على أساس الفهم الخاطئ للغيب... ومن هنا كثر وجود المشعوذين والمتاجرين بالدّين والعرّافين وغيرهم، ممن يدّعون الصّلة بعالم آخر تمكّنهم من القيام بأمور غير اعتياديّة، الأمر الّذي أدّى إلى تخلّف الأمّة إلى حدٍّ بعيد".

سبل القضاء على الظّاهرة:

هذه الظاهرة الَّتي تغزو عقول النّاس اليوم، تستدعي التحرّك لمحاربتها والحدّ من انتشار هذه الذهنيّة الخرافيّة التي تهيمن على المجتمع، والعمل لتقوية الوازع الدّيني والعقلاني، ولذلك يدعو سماحته العلماء والطليعة الواعية في الأمّة، إلى العمل على مواجهة الخرافة الّتي تزحف إلى وسطنا الديني والاجتماعي وحتى السياسي، من خلال تنمية العقل العلميّ، والتركيز على الأسس المعرفيّة والمنهجيّة الصّحيحة في تفسير حركة التّاريخ والظواهر الكونيَّة، كما يرى أنَّ علينا "أن نعمل على محاصرة الخطاب الخرافيّ الّذي ينمو كالفطر في مواقعنا الدّينيّة والمذهبيّة، وأن نفسح في المجال أمام الخطاب العقلانيّ المنفتح على رحاب العلم وعلى الحقيقة الدّينيّة غير القابلة للتّشويه".
أما بعض النّاس الَّذين يبرّرون ويهوِّنون من خطر هذه الظّاهرة، ويعتبرون أنَّ الهدف منها هو مجرد التّسلية وتمضية الوقت، فعليهم أن يبحثوا عن السَّبيل الأفضل لخدمة مجتمعهم وتطوّره، بعيداً عن مظاهر اللّهو والتخلّف الّتي يحفل بها، حتّى لا نبقى في عداد الأمم المتخلّفة عن ركب الحضارة، ولنقوم بمسؤوليّاتنا كخير أمّة أخرجت للنّاس: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 110]..
التاريخ: 13 صفر 1433 هـ الموافق: 07/01/2012 م