لا يزال الكثيرون إلى الآن يتَّخذون قراراتٍ مفصليَّةً ومصيريَّةً لحياتهم على أساس ما تنبئهم به الاستخارة وتعطيهم من حوافز نفسيَّة تدفع بهم إلى القطع والجزم بما تبيّنه، حيث يعيشون جوّها وجوابها سلباً أو إيجاباً، ويبنون عالمهم على أساس ذلك، ويتحرّكون بمشاعرهم نحوها كمحورٍ في أدقّ تفاصيل حياتهم، فالبعض في حالة المرض يلجأ إلى الاستخارة إن كان يذهب إلى هذا الطَّبيب أو ذاك، أو يتناول هذا الدَّواء أو لا، وإن كان يأكل من هذه الأكلة أو يشرب من هذا الشَّراب، أو في إقدام هذا البعض على مشروع زواجٍ أو دراسةٍ، وغير ذلك من تفاصيل، وهناك أناس يرفضون الاستخارة من أساسها ويستهزئون بكلِّ ذلك...


تعريف الاستخارة
وتفسير الاستخارة في اللّغة طلب الخير، ففي المعجم اللّغوي لإبن فارس: "الاستخارة هي أن تسأل خير الأمرين لك، وكلّ هذا من الاستخارة، وهي الاستعطاف"، وقال الرّاغب الأصفهاني: "استخار اللهَ العبدُ فخار له، أي: طلب منه الخير فأولاه"...
وفي ما ذكر ابن إدريس: "الاستخارة في كلام العرب الدّعاء"، وكان يونس بن حبيب اللّغوي يقول: إنَّ معنى قولهم: استخرت الله، استفعلت من الخير، أي: سألت الله أن يوفّق لي خير الأشياء الَّتي أقصدها...
والاستخارة في العرف الديني الإسلامي: إنَّ المعنى الرّائج في الأزمنة المتأخّرة لهذه الكلمة، هو: أن يستعين الإنسان بشيء ليستكشف خير الفعل وشرّه، كأن يفتح القرآن، أو يأخذ السبّحة أو الحصاة وما شابهها...
وفي كتب الحديث، معنى الاستخارة، أنّ العبد بعد حيرته وتردّده، يقدم على ربّه تعالى ليلهمه الصَّواب، فيقدّم بين يديه الذّكر والدّعاء، طالباً الخير من بين الأمور المتردّد بها..


الشّبهات ورأي الشّرع
وهناك شبهات أثيرت حول "الاستخارة"، منها أنّها تعطّل العقل، وتحجّم دوره، وتجعل الإنسان أسيرها، والبعض اعتبرها من أنواع طلب علم الغيب، لأنَّ المستخير يطلب الاطّلاع على الغيب وكشف الأمور المستورة، وهذا من خصائص الله تعالى، وغير ذلك من الشّبهات...
أمّا الرأي الشَّرعي لسماحة الفقيه المجدِّد السيِّد فضل الله(أعلى الله مقامه)، فيقول: إنّه تبيّن لنا في سياق البحث حول "الاستخارة" الأمور التالية:
1ـ لم ينهض لدينا أيّ دليل على صدور روايات وأدلَّة شرعيَّة معتبرة على الخيرة بأيِّ وجهٍ من الوجوه، وخصوصاً خيرة ذات الرّقاع والسَّبحة والتَّفاؤل بالقرآن الكريم، ومنشأ العمل بأكثر الاستخارات عند العلماء، هو قاعدة التَّسامح في أدلّة السّنن [هي قاعدة شرعيَّة مقصود منها عدم التَّدقيق في الأعمال المستحبَّة، بمعنى الأخذ بالرّوايات المتعلّقة بالأعمال المستحبَّة دون التَّدقيق بأسانيدها]...
ويتابع سماحته(رض): إنَّ أكثر أعمال الاستخارة لم تكن معلومة أو مشهورة عند الفقهاء المتقدّمين، وإنما اشتهرت عند المتأخّرين، وخصوصاً بعد زمن ابن طاووس، بيد أنَّ الخيرة يمكن أن يؤتى بها كتعبيرٍ عن الارتباط بالله تعالى وحسن الظنّ به في شؤون الإنسان العمليَّة والحياتيَّة، وهي من معاني الدّعاء...
ويوضح سماحته(رض) أنَّ الخيرة لا تنبئ عن الغيب أو تخبر عنه، وإنّما هي طريقة عمليَّة تخرج الإنسان من تردّده وقلقه تجاه الأمور الَّتي يقوم بها، أو ينوي القيام بها، وتجعل عمله متّصلاً بدائرة التّوكل والاستعانة بعلم الله ـ سبحانه ـ وقدرته، كما أنَّ الاستخارة لا تقع قبال العقل، بمعنى تعطيله لحساب التوكّل والاستعانة بالله تعالى، بل تكون من المعاني الَّتي تبقي الإنسان في حالة الاتّصال والارتباط بالله ـ تعالى ـ مع بقاء كافّة الإمكانات العقليَّة والنّفسيَّة والجسديَّة، إضافةً إلى إمكانات التَّواصل الاجتماعي، قيد التَّوظيف والتَّطبيق في شتّى موارد الإنسان الحياتيَّة وشؤونه..
ويضيف سماحته(رض): يجوز الإتيان بأفعال الخيرة أو الاستخارة برجاء المطلوبيَّة، لا على أساس الورود الشَّرعي المؤكّد، كما ويجوز الاستنابة في الاستخارة... [خلاصة البحث لكتاب القرعة والاستخارة لسماحته(رض)، ص:139].
ويتابع سماحة السيِّد(ره) في الإضاءة على هذا الموضوع انطلاقاً من سؤال: هل الاستخارة من قبيل الاستقسام بالأزلام [ عادة قديمة عند العرب قبل الإسلام ، باختيار عود معين من العيدان (الأزلام) من أجل تحديد الإختيار سلباً أو إيجاباً في أمر من الأمور ] ؟
اعتبر بعض المفسّرين الاستخارة في أشكالها المتعدِّدة، كالاستخارة بالسبّحة أو بالرّقاع، من قبيل الاستقسام بالأزلام. وعليه، تكون مرفوضةً بنصِّ القرآن الكريم، ولكنَّنا نسجِّل عليه:
أوّلاً: الملاحظة السّابقة، في أنَّ التّفسير بما ذكر لا يتناسب مع طبيعة الكلمة...
وثانياً: أنَّ الاستخارة ـ في طبيعتها ومدلولها ـ تمثِّل نوعاً من الرّجوع إلى الله والابتهال إليه في تحديد الخيرة للإنسان الحائر في ما تحيَّر فيه، عندما تُسَدُّ عليه أبواب المذاهب، وتغلق عنه سبل المعرفة، فهي من القضايا الّتي تدخل في الأساليب الإيمانيَّة، في معرفة الخيرة، بعد استنفاد كلِّ وسائل الفكر والمشورة، وبقاء الموضوع على حاله من الغموض والإبهام. فما المانع من أن يستجيب الله لعباده ابتهالاتهم وينقذهم من حيرتهم؟!


الاستخارة ليست طريقاً لشلِّ الفكر
لا نريد من خلال هذا التَّفسير أن نبرِّر للإنسان الانطلاق بعيداً في هذا الأسلوب من ناحية ذاتيَّة، ليستحدث النّاس لأنفسهم ـ باسم الإيمان ـ وسائل معرفة المستقبل. فنحن لا نشجِّع ذلك ـ كمبدأ ـ لأنَّه يؤدّي بنا إلى الفوضى من جهة، وإلى الوقوع في قبضة الخرافة والدَّجل من جهةٍ أخرى. ولكنَّنا نقول: إنَّ النّصوص الدينيَّة المعتمدة إذا أقرّت مثل هذا الأسلوب، فلا يكون ذلك بعيداً عن خطِّ الإيمان والإسلام، ولا يؤدّي إلى إغلاق باب الفكر والمشورة، لتكون الاستخارة بديلاً منهما، بل يكون له مبرّراته الإيمانيَّة في حدوده المعقولة...
وفي ضوء ذلك، نثير الملاحظات على سلوك بعض النّاس الذَّين اتخذوا الاستخارة خطّاً عمليّاً في أسلوب العمل والحركة، فلم يسمحوا لأنفسهم بالتّفكير أو بالاستشارة، بل اكتفوا بالسبّحة يستنطقونها وجه الخير لما يصنعون، أو بالرّقاع، يتعرّفون من كلماتها سرّ الحقيقة في ما يمارسون. وهكذا حكموا على أفكارهم بالشَّلل، فإذا دعوت أحدهم إلى أمرٍ بسيطٍ لا يحتاج إلاَّ إلى بعض الحسابات البسيطة المحيطة بالموضوع، بادرك بالاستخارة ليقطع عليك أمر مناقشة القضيَّة من جوانبها الواقعيَّة، وإذا عرضت لأحدهم حاجة في ما يتعلَّق بشؤون حياته، أو شؤون من يتَّصل به، في قضيَّة زواج أو تجارة أو غيرهما، كانت الاستخارة هي الأساس في اتخاذ القرار، وليس الفكر الَّذي يلقي الضَّوء على طبيعة الموضوع، ما قد يترك كثيراً من الآثار السلبيَّة على حياته وحياة الآخرين...
إنَّنا نعتقد أنَّ الله قد أعطى الإنسان وسائل المعرفة في ذاته ليستعملها، ودعاه إلى الاستعانة بالطّاقات الّتي يملكها الآخرون ليستفيد منها، فإذا ترك هذه وتلك وأقبل على الاستخارة، كان متنكّراً لما وجّهه الله إليه من خلال إرادته، ولذلك لن يستقبل الله حيرته بالعناية، لأنّه ـ تعالى ـ يستجيب لنداء الحيرة الَّتي لا تملك معرفة السَّبيل إلى النّور، ولا يستجيب للحيرة الّتي تجلس بعيداً عن الحركة الإِراديَّة الواعية، لتنتظر الحلّ من السَّماء، في الوقت الَّذي تملك فيه كلّ الوسائل القريبة إلى الحلّ، وهذا ما يجب أن يثيره المؤمن في نفسه وفي حياته ليستقيم له القصد، ولتنفتح له آفاق النّور بالمعرفة الواسعة...
[من وحي القرآن، ج8، ص: 42،44].