كما الجسد الواحد في تعاضده وتكامله، كذلك المجتمع الصَّالح المتآزر في وحدة بنيه وتكاملهم وتعاونهم لما فيه خير المجتمع وصالحه العام..
مسؤوليَّة التَّعاون
وغير خفيّ أنَّ التَّعاضد الإنسانيّ هو مسؤوليَّة مشتركة وخلاّقة في جميع المجتمعات الإنسانيّة، حيث تدلّ آثار الحضارات القديمة منذ آلاف السّنين على تجارب المجتمعات من حيث التَّكامل والتَّعاضد بين طبقات المجتمع وشرائحه.. وتبيّن لنا بقايا الفسيفساء والمنحوتات الفرعونيّة والرومانيّة أو البيزنطيّة في العصور الغابرة من التّاريخ، صوراً رائعة للمدن أو القرى القديمة في مواسم جمع الغلال أو الحصاد، وكذلك في مواسم العمران أو البناء.. حيث يلتقي أبناء المجتمع بشتّى أصنافهم وطبقاتهم وشرائحهم الاجتماعية في حلقاتٍ متّصلة كخلايا النّحل ـ بالرّغم من الفرز الطبقيّ الحادّ الّذي كان سائداً آنذاك ـ وذلك في سبيل تشييد برج، أو بناء قنطرة، أو مدّ شبكات المياه بين المدن والقرى والأرياف.. وغيرها من الأعمال الجماعيّة الّتي تمثّل نموذجاً رائعاً في التكامل الإنسانيّ على طريق بناء الحضارة والعمل الجماعي المتآزر في سبيل المصلحة الإنسانيّة المشتركة..
ومع بزوغ فجر الأديان والشّريعة السّمحاء، أكّدت جميع الرّسالات السماويّة ضرورة التّكامل والتّعاضد المجتمعيّ، لما فيه مصلحة البشريّة جمعاء..
حضّ الرّسالات على التّكافل
من هنا، التقت جميع الكتب والمناهج السماويّة على ضرورة التواصل الإنساني عبر التكافل الاجتماعي، بما يؤدِّي إلى ردم الهوّة القائمة بين الأغنياء والفقراء، وكذلك إعالة المحتاجين، وسدّ حاجتهم، بما يكفل لهم حياةً كريمةً وعزيزة، تسدّ عنهم ذلّ السؤال، وتكفيهم وطأة الفاقة.
وفي الإسلام الحنيف، كانت الدّعوة إلى التّكاتف والتّكافل من المبادئ الأساسيّة الّتي نادى بها الدّين، فكان الحضّ على إيجاد التعاون بين أفراد المجتمع في كلّ أمرٍ فيه خير وصلاح للمجتمع ولبنيه، في مواجهة الظّروف الصّعبة، وتعقيداتها القاسية..
ذلك لأنَّ الخير وحده هو الّذي يؤدّي إلى استقرار المجتمع وسلامة بنائه، وبعده عن أيّ خلل اجتماعيّ يؤدّي إلى فرقة أبنائه، أو إلى شيوع مشاعر الكراهية والحقد والحسد والبغضاء..
وقد جاء الأمر صريحاً عن التّعاون الإيجابيّ، كما جاء النّهي صريحاً عن التّعاون السلبي، وذلك في قول الله عزّ وجلّ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة: 2].
وفي الأحاديث الشّريفة أحاديث كثيرة تحثّ على التّعاون المثمر المفيد، الّذي ينقذ من شدّة، ويفرج عن كربة، ويسعف من حاجة، ويغني عن عوز. وقد بيّن النبيّ(ص) أنّ إدخال السّرور على قلب المسلم يعدّ من أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ، بأن تكشف عنه غمّاً، وتغطّي عنه ديناً، أو تدفع عنه جوعاً..
دور الدّولة والمؤسّسات
إنّ الدّعوة إلى التّعاون الإيجابيّ بين أفراد المجتمع، يجب أن تأتي مصحوبةً بأدبٍ إنسانيّ يجب أن يُراعَى ويتَّبع، وهو أدب يتعلّق بالجانب النفسي عند من يُقدّم إليه العون، فليس العون مجرّد عونٍ مادّيّ يزيل الحاجة، ويكشف الغمّة.. وإنّما هو في الوقت نفسه يتّصل بالكرامة الإنسانيَّة الّتي يجب أن تُصان، وأن يظلَّ صاحبها مرفوع الرّأس بعيداً عن مشاعر الإذلال والإهانة..
وعلى هذا الأساس، ضرورة قيام التَّعاون والتَّكامل بين المؤسسات الرّعائيّة والتكافليَّة، بما تمثّله من حاضنات اجتماعيّة لليتامى والمحتاجين، وبين الأفراد من أهل الخير والإحسان.
ولا بدّ من أن يقوم التّواصل والتّكافل كذلك مع الدّولة بمؤسّساتها الراعية، الّتي يجب أن تشكّل الإطار الداعم لمسيرة العمل الاجتماعي - التّكافلي، الّذي يؤطّر ويحتضن المؤسّسات الأهليّة، ويشجّعها ويدفعها إلى المزيد من العطاء والتقدّم في مسيرة الرّعاية الاجتماعيّة لذوي الاحتياجات من أبناء المجتمع..
وفيما يلي بعض الأفكار السّريعة في هذا المجال:
1ـ إيجاد أطرٍ عمليَّة للتَّنسيق بين المؤسَّسات الرّعائيَّة والأفراد والمتطوّعين، وذلك عن طريق إقامة ندواتٍ مشتركةٍ وأنشطةٍ تحفيزيّة، ولقاءات شهريّة أو فصليّة للعاملين داخل المؤسَّسات وخارجها، أو للمتطوّعين للعمل الرّعائيّ بشتَّى مناحيه.
2ـ التَّكامل لا يتمّ إلا من خلال عمليّة متّصلة - دائمة - تلتقي فيها المؤسَّسات الرّاعية مع مؤسَّسات المجتمع المدنيّ (نواد - وسائل إعلام واتّصال - بلديّات... إلخ) وذلك عن طريق نشاطات هادفة يتأكَّد فيها عنصر الانسجام والهدفيَّة والخطّة الّتي تطبع أيّ نشاط ذي بعد اجتماعيّ تعاضديّ.
3ـ الاستفادة من التّجارب الّتي عرفتها الدّول المتقدّمة في العمل الرّعائي- التّكافلي، وذلك من خلال الوفود القادمة الّتي تعمل في المجال الاجتماعيّ، ومن خلال إيفاد عاملين في هذا المجال إلى الخارج للإحاطة بالتّجارب، والاستفادة من الخبرات المتاحة..
4ـ إفساح المجال للطّاقات وللشّرائح العمريّة المختلفة، لتقديم ما تستطيعه في مجال العمل التطوّعيّ والاجتماعيّ، والعمل على إحياء روح العطاء المتجدّد لدى هذه الفئات، وكذلك لدى العاملين في المؤسَّسات الرعائيّة، من خلال زيادة تحفيزهم ومكافأتهم، ومدهم بخبراتٍ وبرامج وأنشطة تفتح لهم آفاقاً جديدة على العمل الاجتماعي وأبعاده الإنسانيّة المختلفة.
وأخيراً : لا بدّ من تنمية روح المبادرة لدى أفراد المجتمع، لأنّ روح المبادرة هي من القضايا الّتي تحتاج إلى اهتمام خاصّ، ولا سيّما في أوقات الأزمات، إذ يبحث النّاس عمن يقودهم، أو يجمعهم على عمل الخير..
لكنّ الجميع ـ إلا ما ندر ـ يتَّجهون إلى حماية المصالح الخاصَّة، والتّفكير في الهمّ الشّخصيّ.. وهنا تبرز أهميّة الإنسان الصّالح الواعي و"المشارك"، كما يبرز شعوره بالمسؤوليَّة، ووعيه بضرورة المواجهة المشتركة للأزمة. ولذا، فإنَّ من الحيويّ أن يشعر كلّ من حولنا بأنّنا نملك طاقة الرّيادة والمبادرة إلى عمل شيء يعود بالخير والنّفع العام، ويخفّف من حدّة الأزمة الجاثمة..
ولو أنَّ الواحد منَّا أعطى كلّ يوم نصف ساعة من وقته للتّفكير والعمل في مسألة من مسائل الشّأن العام، لوجد أنّه بات محوراً ورائداً لأعمال خير كبيرة، كما أنّه يشجّع كثيرين من إخوانه على أن يسلكوا المسلك نفسه، وبذلك تولد "فضيلة الاهتمام"، وتصبح ظاهرةً اجتماعيّةً ساطعة الحضور..
والحمد لله ربّ العالمين
نبيل سرور*