تبدو ظاهرة تحديد جنس الجنين آخذةً في الانتشار في بعض المجتمعات العربيَّة، ولا سيَّما في السَّنوات العشر الأخيرة، ومنها المجتمع الأردنيّ، ويثير هذا السّلوك تخوّف الخبراء من اختلال التّوازن الجنسيّ في المجتمع، لكنَّ الأطبَّاء يقلّلون من أهميَّة المخاوف..
وتستقطب مراكز التَّخصيب الأشخاص الرَّاغبين في إنجاب الأطفال الذّكور، بدعوى أنّ ولادة الذّكر تضمن نوعاً من الأمان العائليّ، إلا أنَّ البعض يعتبر ذلك تدخّلاً إنسانيّاً بغير حقّ، وعودة إلى الجاهليَّة...
والتَّركيز من قِبَل العائلة على أن يكون المولود ذكراً، هو نتيجة الاعتقاد السَّائد في المجتمع بأنّ الأبناء الذّكور هم من يحملون اسم العائلة، أو الّذين يعتمد عليهم كمعيلٍ عند كبر السنّ، وكأنّ إنجاب الذّكور شيء متعلّق بصميم الوجدان البشريّ، ويعود إلى أسباب نفسيَّة واجتماعيَّة معقَّدة، حتَّى بلغ الأمر أنَّ استمراريَّة الأسرة متوقّفة على وجود الذّكور أو عدم وجودهم...
كما أنّ للعوامل الاقتصاديّة دخلاً كبيراً بالموضوع، فالأسرة اليوم تتمنّى أن ترزق بولد ذكر من البداية، كونها تريد أن تنجب ولدين أو ثلاثة نتيجة الظّروف الاقتصاديّة الصّعبة...
ويرى البعض أنَّ التدخّل الطبّيّ في مسألة تحديد الجنس، يعتبر تدخّلاً غير مقبول إنسانيّاً، وطالما دفع الإنسان ثمنه، ويشير إلى أنَّ الإسلام خاض معركةً كبيرةً ضدّ الأفكار الجاهليّة الّتي كانت تميِّز بلا حقّ بين "الذّكر والأنثى"، وأنّه بالعكس، هناك من يرى أنَّ إنجاب الأنثى مدعاة لاستدعاء الرّزق والتّسريع فيه...
إنَّ هذا الموضوع هو من المواضيع المهمَّة والحسَّاسة، بالنّظر إلى أثره الاجتماعيّ والنّفسيّ على الأسرة والواقع، لذا يجب دراسته بعناية ومن كلّ الجوانب الطبّية والشّرعيّة والاجتماعيّة، من قِبَل أهل الاختصاص الواعين والمسؤولين، دراسةً واقعيّةً حقيقيّة، كي يتمّ تحديد حجم هذه الظّاهرة عمليّاً في الواقع، ليتمّ تحليلها ومناقشتها والبناء على أساسها، كي لا يتمّ إعطاء التّوصيف الخاطئ وغير الدّقيق. إنّها ظاهرة موجودة، لكن ينبغي رصدها بدقّة، لمعرفة كيفيّة التّعامل معها عن دراسةٍ ووعيٍ وتخطيطٍ لا يضرّ بالصَّالح الإنسانيّ والاجتماعيّ العام...
ومن المهمّ أخذ الرّأي الشَّرعيّ في الموضوع، فمن حيث المبدأ، يرى سماحة الفقيه السيِّد فضل الله(رض)، أنَّ اختيار جنس الجنين بالوسائل العلميَّة ليس محرَّماً، لأنَّ الله جعل للإنسان علم ذلك وأسبابه، ولكن لا بدّ من مراعاة الحدود الشرعيّة في إجراء هذه الطّريقة، من عدم تعرّض المرأة لكشف الطّبيب الرّجل عليها إن استلزم لمس الجسد، أو رؤية ما يحرم رؤيته للأجنبي... [المسائل الفقهيّة، ص:466].
وحول الموضوع ذاته، سألنا سماحة السيِّد جعفر فضل الله، فأجاب:
قد يكون القائلون بالمنع من اللّجوء إلى الوسائل المخبريَّة لتحديد جنس الجنين، ناظرين إلى أنَّ كلّ من يريد اختيار جنس الجنين سيختار الذّكور، ما يؤدّي إلى ازدياد أعدادهم بشكلٍ يخلّ بتوازن المجتمع...
ولكن لا بدّ لهذه المسألة من أن تُدرس من ناحية واقعيّة لا من ناحية تجريديّة، لأنّ البعض قد يختار الإناث وإن كان بنسبة أقلّ، ولذلك نجد أنّ كثيراً ممن يلجأون إلى التّلقيح الصّناعيّ يختارون الجنسين ولا يقتصروا على جنسٍ واحد...
ثم إنّ مثل هذه الأمور ليست متوفّرة لكلّ أحد، بل قد تكون مكلفة مادّياً، ولذلك لا يلجأ إليها كلّ من يريد الإنجاب حتّى يُقال إنّ ذلك يؤدّي إلى الإخلال بالتّوازن..
أضف إلى ذلك، أنّ حفظ التّوازن إذا كان يتمّ من خلال التّدبير الإلهيّ، فما المانع من أن يتدخّل هذا التّدبير الإلهيّ في المزاج الّذي يختار الذّكور أحياناً والإناث أحياناً؟!
ثم هناك نقطة، وهي أنّ الثّقافة الشعبيّة، وربما الطبيّة، تتداول طرقاً أو أنظمة غذاء أو فترات لحصول انعقاد النّطفة وما إلى ذلك، ترجّح الذّكور في حالات، والإناث في حالات أخرى، فهل يُقال بحرمة اللّجوء إلى مثل هذه الوسائل إذا ثبتت؟!
نعم، كفرضيّة، يمكن للحاكم الشّرعيّ أن يتدخّل في المنع، أو أن يضع عقبات أمام استخدام الوسائل المخبريّة في عمليّة اختيار الجنين إذا كانت فعلاً تؤدّي إلى الإخلال بالتّوازن، ونحن نعيد التّأكيد أنّ مثل هذه المواضيع لا بدّ من أن تُعالج بواقعيّة ودقّة، والله العالم...