نستوحي من قصّة يوسف(ع) أنّ للأحلام عمقاً في حركة الواقع الإنساني، ومدلولاً حقيقيّاً في ما يعنيه الرّمز الحيّ، للحاضر والمستقبل، وفي ما نفهمه من أنَّ معرفة أسرارها تحتاج إلى إلهامٍ ربّاني، يلهم الله فيه بعض عباده، ما يستطيعون به تحليل تفاصيلها، وتوضيح مبهماتها، فقد يعطي الله بعضهم سعة المعرفة في ذلك كلّه، وقد يمنح البعض القليل من ذلك، وربما لا يستطيع الإنسان الجزم دائماً بأنّ هناك قواعد ثابتةً لمعرفة طبيعة الرّمز وعلاقته بالواقع على الشّكل المطلق، فقد تختلف القضيّة حسب اختلاف الأجواء المحيطة بالرّمز ودلالته من حيث الشّخص والزّمان والمكان، في ما يتّسع فيه الأمر لأكثر من احتمال. ولكن هل معنى ذلك، أنّ للمسألة بعداً كلياً يفرض وجود حقيقة مع كلّ حُلُمٍ، أو أنّ للمسألة بُعداً جزئياً في هذا المجال؟ فقد تكون بعض الأحلام ردّ فعل لحالة نفسيّة أو غذائية أو عمليّة، أو استذكاراً لأوضاعٍ ماضية في حياته، ما يجعلها صورةً لما تختزنه النّفس من مشاعر وأفكار وانفعالات، أو لما يعيشه الجسد من حاجات. ليس لدينا ما يؤكّد الشموليّة الكلية للمسألة، بل قد نجد أنّ العكس هو الصّحيح، في ما نراه من عدم الصّدق في الكثير من الأحلام، وارتباط بعضها بالعوامل الذاتيّة الخاصّة.
أمّا حول طبيعة القاعدة العمليّة الّتي تخضع لها الرّؤيا وتصلح مقياساً لصدقها أو كذبها، فإنّنا لم نقف لها على أساس ثابت، بل ليس هناك سوى الحدس والتّخمين، أو التّعليلات المنطلقة من إخضاع الإنسان لنظريّة العامل الواحد، كما نلاحظ في التّعليل الّذي يقدّمه فرويد، والّذي يعطي الأحلام مداليل جنسيّة، تتحوّل فيها رموز الأحلام إلى رموزٍ للأعضاء التناسليّة أو الحالات الجنسيّة وما إلى ذلك. ولكنّ مثل هذه الاحتمالات أو النّظريّات لا ترتكز على أساسٍ قطعيٍّ لها، يجعلها في دائرة الحقيقة العلميّة، كما لا تنطلق من حجج علميّة مقنعة تجعلها في نطاق النظرية العلميّة المعقولة. ولهذا، فإنَّنا لا نستطيع الجزم بشيءٍ من هذا القبيل تجاه ما نشاهده أو ينقل إلينا من أحلام، إلاّ من خلال النّتائج الّتي نواجهها في المستقبل مما يتطابق مع صورة المنام، أو نجده في واقعنا الحاضر.
إنّ الأحلام لونٌ من ألوان الغيب الدّاخليّ في عالم النّفس الّذي لم نستطع أن نبلغ فيه المدى الواسع، لأنّنا لم نعرف طريقة النّفس ـ أو الرّوح ـ في إدراكها للمستقبل، مما يدخل في عالم النّبوءات من خلال الفكر أو الإلهام، أو من خلال الأحلام، وربما يكشف الله للإنسان في المستقبل بعض الوسائل الّتي تقوده إلى معرفة بعض حقائقه بطريقةٍ أو بأخرى.
ولكنَّ ذلك كلّه لا يمنع الإنسان من محاولة استيحاء رموز أحلام الآخرين ودلائلها، ولا سيّما ما يمكن أن يفتح قلبه على آفاق الإيمان، أو يدفعه إلى تصحيح خطأ من الأخطاء، أو يمنعه من السّير في طريقٍ منحرف، فإنّ ذلك يعتبر أسلوباً من أساليب التّوعية، ووسيلةً من وسائل الهداية، وهذا ما ينبغي أن يستفيد الدّعاة إلى الله منه لدى سماع ما يرويه الآخرون من أحلامهم، لأنّ الأحلام بابٌ واسعٌ من أبواب الدّعوة.

المصدر : تفسير من وحي القرآن - تفسير سورة يوسف 43-49.