قصيرة هي الحياة في مدَّتها، طويلة في عبرتها، ولا سيّما عندما نمرّ في تجاربها الحلوة والمرّة. فكيف ونحن نتكلّم عن تجربتنا في مبرّتنا العزيزة*، التابعة لجمعيّة المبرّات الخيريّة...
فمنذ ما يقارب الثّلاثة عقود، كنّا مجموعةً صغيرةً، نعيش كعائلة في كنف المبرّة المتربّعة على تلّةٍ صغيرة في منطقة الدّوحة المطلّة على البحر.. تلك المنطقة الهادئة، حيث السّكون يعمّ المكان...
كنّا نعيش في محبّة ووئام، وكنّا نشعر بالقوّة والثّبات لما كان عندنا من عزيمةٍ على قهر الحياة وصعابها، وممّا زاد فينا الّثقة أكثر، ارتباطنا الوثيق بمؤسّس هذه المبرّة، أعني المرجع المقدّس السيّد محمد حسين فضل الله، الّذي كان الوالد الحنون، الرّاعي المحبّ، حيث لم يكن يمرّ يوم من الأيّام إلا ويتفقّدنا ويطمئنّ علينا.
وأحبّ أن أسرد بعض هذه المواقف الكريمة:
إذ كان يدخل إلى المطبخ ليطعم الأيتام ويردّد: (لا تتباخلوا على الأيتام)..
كان يدخل إلى الأسرّة ويجلس معنا ويأكل معنا...
وفي إحدى اللّيالي، أتى فجأةً في اللّيل ليتفقَّد الأيتام وهم نيام، فقالوا له: نحن نرعاهم، فردَّ عليهم: (أريد أن أتأكّد من نوعيّة الغطاء). وكان يأتي فجأةً إلى الصّفوف والمطعم، رغم الظّروف الأمنيّة الصّعبة آنذاك.. ورغم الخطر الّذي كان محدقاً به، إلا أنّه كان يرى أنَّ الأيتام هم مسؤوليّته الشرعيّة.. وإن شاء الله نكمل المسيرة بعده..
ولم تكن مسيرة المبرّات لتستمرّ لولا هذه الرّعاية الّتي كانت مزيجاً من الرّعاية الإلهيّة ومصداقيّة المؤسَّسة. لم يأل سماحته جهداً أو وقتاً إلا وتابع الأيتام واهتمّ بهم، في مدارسهم وحتّى في جامعاتهم.. وبقينا نتواصل معه من خلال زياراتنا المتكرّرة إليه، فكان الوالد والمرشد والنّاصح الأمين، وفتح أمامنا الآفاق الواسعة، وعلّمنا كيف نختار دروبنا في الحياة وسط متشعّب المسالك...
أراد لنا أن نكون المتفوّقين في جامعاتنا وأعمالنا، حتّى نكون الأقوياء الأعزّاء، لا نسقط في المواقع الصّعبة، ولا نتشتّت في المتاهات، بل أن نكون دائماً متّكلين على الله، لأنّ مسيرة الأيتام هي مسؤوليّتنا أمام الله، كما كانت مسؤوليّته، وكما كان الملاذ الّذي تلجأ إليه قلوب الأيتام ليعطيها من عطفه وحنانه وحبّه، لأنّه ارتفع بسموّ خلقه إلى رحاب الله الواسع، لذلك أعطى كلّ ذاك العطاء، لأنّه كان يرى في الخير طاعةً لله، وفي العمل قربةً لله، ولذلك لم يستسلم يوماً للرّاحة، بل كانت كلّ أيّامه تعباً، كلّ ذلك لتستمرّ هذه المسيرة، وتُحفَظ كرامة الأيتام، ويكونوا أفراداً منتجين صالحين في المجتمع...
*مبرة الخوئي ـ الدوحة
أمين قعيق
نائب رئيس جمعية متخرّجي المبرات