مفهوم الحريَّة في الإسلام بين المفكّر محمد أبو القاسم حاج حمد
وسماحة المرجع السيّد فضل الله(رض)
هو المفكِّر السودانيّ والإنسانيّ، محمد أبو القاسم حاج حمد، المولود في الخرطوم عام 1941، والمتوفّى عام 2004، والّذي قدّمت طروحاته إسهامات مميّزة وغنيّة في الفكر الإسلامي المعاصر، والدراسات القرآنية على وجه الخصوص، في دراسته الفريدة "العالميّة الإسلاميّة الثانية: جدل الغيب والإنسان والطبيعة".
كان مستشاراً "لأسياس أفورقي" الرّئيس الأرتيري، حيث كان يعتبر أنّ حاج حمد السياسيّ هو امتداد لحاج حمد الدّيني، كما عمل مستشاراً علميّاً لـ"المعهد العالمي للفكر الإسلامي" في واشنطن. أسّس في قبرص داراً لإعداد موسوعة القرآن المنهجيّة والمعرفيّة...
صدر مؤخّراً الكتاب الخامس للحاج حمد بعد رحيله، وهو بعنوان "حريّة الإنسان في الإسلام" ـ دار الساقي، مراجعة وتعليق محمد العاتي، 2012 ـ يطرح الحاج حمد فكرة كتابه الّذي يتمحور حول مركزيّة الداعي وسيادته لنفسه، وأن ذلك لا يتعارض مع الحريّة في الإسلام، ويعتمد في كلّ ذلك الرؤية القرآنية لمفهوم الحريّة، معتبراً أنّ القرآن الكريم شرّع أبواب الحريّة، وأعطى للمفهوم بعداً حضاريّاً وإنسانيّاً...
فالمعنى الرّوحيّ للحريّة لا يقتصر على حريّة الفرد، بل يشمل المعرفة الكونيّة القائمة على وعي المسلم لذاته وهمومه ودوره ومسؤوليّاته والكون المحيط به، هنا تأخذ الحريّة بعداً آخر غير تقليديّ، عندما تسعى لتعطي من حريّتها وتجربتها وإبداعها للتّجربة الإنسانيّة الكونيّة، فيبقى الإنسان بذلك في حركيّة وحيويّة مستمرّة لا تعرف الخمول والكسل، انطلاقاً من معركة العقل الحرّ المنفتح على الآخر.. وينتقد المؤلّف بعض المدارس والاتجاهات الفكريّة الغربيّة التي تنفي حريّة الإنسان في الإسلام، ويعتبر ذلك نتيجة تصوّر خاطئ للغرب...
إذاً، يعيد المفكّر الحريّة إلى جذورها القرآنيّة الّتي تتميّز عن الفهم الرأسماليّ والاشتراكيّ لها...
كما يتناول في كتابه انفتاح دين الإسلام على غيره، وعدم وجود تنظيمات إسلاميّة، كهيئات الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وأنَّه ليس في الإسلام تنظيمات سياسيَّة لها قيادة متميّزة عن المسلمين، كما ويطالب بتخطّي المصادرة الفقهيّة ـ إن صحّ التّعبير ـ لمقاصد النصّ القرآني، لأنّ هذه المصادرة أدّت دوراً سلبياً، سلب البُعد الحضاريّ والإنسانيّ لمفهوم الحريّة في القرآن، أو حجر عليه ولم يبادر إلى مواكبته والاستفادة من جليل معانيه...
ولكن يبقى السّؤال الأساس الّذي لم يتطرّق إليه المفكّر في كتابه، وهو مطروح: هل الحريّة في الإسلام القرآني أكثر رحابةً من الإسلام الفقهيّ؟
كتاب لا غنى للقارئ والباحث عن مطالعته، حيث شكّل علامةً فارقةً في أفكاره وطروحاته الّتي خرجت عن المألوف...
وقد تناول الكثير من المفكّرين الإسلاميّين قديماً وحديثاً مفهوم "الحريّة" وما يتعلّق به، ولعلّ من أبرزهم، سماحة الفقيه المجدّد السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، حيث انطلق في تقريبه للموضوعات الفكريَّة وغيرها من أسسٍ قرآنيّةٍ واضحةٍ، ومن منهجٍ قرآنيّ صريحٍ حاكمٍ على المفاهيم، ومبينّاً لها وموجّهاً لحقيقتها وآثارها، ولم يكن بذلك الفقيه التقليديّ الّذي لا يستنطق النّصوص القرآنيّة بكلّيتها، أو القاصر في استيعاب الثّقافة القرآنيّة الكافية، لتشكّل لديه القاعدة الفكريّة الّتي تؤهّله النظر في المفاهيم وتوجيهها الوجهة الصّحيحة...
فسماحته(رض) يعتبر أنّ الحريّة تولد مع الإنسان، فالإنسان حرّ بالفطرة، والحريّة أصل في الإنسان بمستوياتها كافّة، وقد نصّ الإسلام على حريّة الإنسان، وضمن له هذه الحريّة، وحماها من كلّ أشكال الاستغلال والاستعباد، ولهذا لم يعمل الإسلام ـ كتشريع ـ على كمّ الأفواه وإسكات الأنفاس وقتل روح الإبداع.. ولهذا رأينا في تاريخنا الإسلاميّ الكثير من المبدعين على مستوى الأدب والفن والموسيقى...
ويشير سماحته(رض) إلى نقطة محوريّة، وهي أنّ نظام الحريّات في الإسلام يتميّز بأنّه يقوم على رؤية خاصّة للكون والحياة، ترتكز على الإيمان بالغيب وبيوم الحساب، فالإسلام لا يشجّع على مقولة "الحريّة لأجل الحريّة"، بل يرى الحريّة لا بدّ منها لحركة التطوّر والإبداع الإنسانيّين، وهذا ما لاحظناه عند المفكّر السّوداني، محمد حاج حمد، عندما تحدّث في كتابه عن "الإنسانويّة"، وأنّها باب الحريّة في الإسلام، فسماحة السيّد(رض) يرى في الإبداع الحرّ صهراً للتجارب الإنسانيّة المتراكمة في سبيل التطوّر الذي يعطي الحريّة الإنسانيّة مفاعيل عمليّة فاعلة ومؤثّرة في السّير الإنسانيّ والاجتماعيّ في التّعبير عن الشخصيّة الإنسانيّة الكونيّة الواعية والمبدعة، لا الشّخصية العابثة واللاهية، حيث تتحوَّل الحريَّة عندها إلى فعلٍ سلبيّ يدمّر هويّتها الأصيلة وموقعها في المسيرة الإنسانيّة...
ويرفض المفكّر السودانيّ، الحاج حمد، وجود تنظيماتٍ سياسيّة لها قيادة متميّزة عن المسلمين لجهة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لأنّ هذه المهمّة منوطة بكل المسلمين، ولا تأخذ أشكالاً معيّنة، أو تقسيمات سلطويّة...
وسماحة السيّد فضل الله(رض) يقول في تفسيره القيّم (من وحي القرآن)، في تفسيره للآية الكريمة: {ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}[آل عمران:104]:
"وإذا كانت الدّعوة إلى الخير هدفاً من أهداف الإسلام من أجل شمول الخير للحياة، فإنّ من اللازم أن تبرز من داخل الأمّة طليعة واعية تتبنّى خطّ الدّعوة إلى الله حسب حاجة السّاحة إليها، فقد تحتاج إلى عدد محدود قليل، وقد يزيد هذا العدد، وربما يشمل الأمّة كلّها إذا كبرت التحدّيات الشّريرة المضادّة من قوى الكفر والشر، فالدّعوة إلى الخير مسؤولية الأمّة كلّها، كما يشير سماحته(رض)...
ويتابع سماحته(رض): "إنّ الإسلام يطرح الحريّة كموقفٍ إنسانيّ طبيعيّ في مواجهته لمسائل الفكر ومواقع العقيدة، لأنّ عمليّة فرض القناعات ليست واردةً في الطبيعة التكوينيّة للإنسان، فإنّ الفكر لا يمكنه الاستسلام لضغط القوّة لتفرض عليه قناعاته، بل هو خاضع لضغط الحجّة والدّليل والبرهان، باعتبار أنها الّتي تحتوي حركته، ولكن الحريّة لا بدّ من أن تتحرّك من مواقع المسؤوليّة الّتي تثير لدى الإنسان مسألة المصير كعنصرٍ ضاغطٍ على أجواء اللامبالاة الّتي يعيشها من خلال الروحيّة اللاهية العابثة الخاضعة لحالة الاسترخاء، لتضغط عليه كي يواجه المسألة بجديّة، فيتأمّل ويفكّر ويبحث ويحاور ويحدّد قناعته في نهاية المطاف على أساس ذلك كلّه، فإنّ هناك فرقاً بين الموقف الّذي لا تشعر بالمسؤوليّة في تقريره، والموقف الّذي تشعر فيه بأنّ النّتائج قد تسيء إلى مصيرك"...
لقد تناول سماحة الفقيه المجدّد السيد فضل الله(رض) "الحريّة" من خلال رؤية قرآنيّة وإنسانيّة، وبيّن في آرائه أبعادها وحقيقتها ومهمتها كعنصر حيويّ ومؤثّر في مسيرة الإنسان في كلّ إبداعاته وعطاءاته المتنوّعة في الدّنيا، فالحريّة الإنسانيّة هي فطرة مركوزة لدى كلّ الخلق، ليستفيدوا منها في انفتاح تجاربهم على بعضها البعض، لإغناء الواقع من خلال معرفة الدّور والمسؤوليّة في إعمار الكون ككلّ، وهذا الأمر من صميم دور الإنسان الرّساليّ، وهو ما نجد ملامحه أيضاً في فكر وطرح المفكّر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد، وعلى الباحثين والدّارسين أن يعكفوا على هذه الطّروحات الجريئة والحضاريّة في إبرازها وتقديمها للموضوعات الفكريّة والحيويّة الّتي تهمّ الإنسانيّة جمعاء، وخصوصاً "الحريّة"، في ظلّ ما يشهده عالمنا اليوم من فوضى الحريّات، وعدم وضوح الرؤية والأهداف لكثيرٍ من الأفراد والمجتمعات الّتي تحمل شعاراتها...
محمد فضل الله