بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وال محمد

الثالث من ربيع الثاني - لنستذكر شهادة الصحابي الزاهد والعالم الرباني ابا ذر الغفاري

أبو ذر هو جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل بن صعير بن حرام بن غِفار، وامه رملة بنت الوقيعة من بني غفار أيضاً وغفار من قبائل العرب المعروفة ، وقد اوذي ابا ذر عند اسلامه، فبعثه رسول الله الى قومه يدعوهم للاسلام، وقد سجل لنا التاريخ ذلك حين خاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر قائلاً له : «إني قد وُجِّهت الى أرضٍ ذات نخل ولا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلِّغ عنّي قومك عسى الله أن ينفعهم بك بأجرك فيهم»
وقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في طريق هجرته من مكة الى المدينة بقبيلة غفار، ودعا من لم يؤمن من غفار الى الاسلام «فتهافتوا عليه يبايعونه: رجالاً، ونساءا،ً وغلماناً، حتى لم يبق منهم أحد»
حتى قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «غفار غفر الله لها...»
وكانت لأبي ذر منزلة سامية عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يبتدئُ أبا ذر اذا حضر، ويتفقده اذا غاب، ويدنيه دون بقية الأصحاب ، كما إن الرسول الكريم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا،ً ويسرّ إليه حين لا يُسرّ إلى أحد

وكان ابا ذر من جهابذة العلم المحمدي فقد سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن أبي ذر فأجاب عليه السلام : «وعى علماً عجز الناس عنه ، ثم أوكى عليه فلم يُخرج منه شيئاً»
وكان رضوان الله عليه يحدث عن نفسه فيقول : «والله لو تعلمون ما أعلم ما انبسطتم الى نسائكم ولا تقاررتم على فرشكم...»
ومن مظاهر هذا العلم الفذ الذي انتهله أبو ذر رضوان الله عليه، انه صار فيما بعد موضع أسئلة الصحابة والتابعين ومحل استفتاءاتهم في امور الدين، بالرغم من معارضة السلطة الحاكمة آنذاك لهذا الأمر ؛ إذ إن أبا ذرٍّ صوت حق لا يروق للكثيرين سماعه (وأكثرهم للحق كارهون) ، فقد نقل لنا الأوزاعي عن أبي كثير عن أبيه قال : (أتيت أبا ذرًّ وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا ؟ فرفع رأسه ثم قال : أرقيب أنت عليّ ! لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار بيده إلى قفاه ـ ثم ظننت إنّي أّنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها)

لعلَّ أهم ما تميزت به شخصية هذا الصحابي الجليل، هو تنمره في ذات الله وعدم مبالاته في ذلك لومة اللائمين، محتذياً في ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان «.. لا يغضب للدنيا ، فاذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له)
و من ابرز ملامح هذه الثورة التي تعتمل في داخله هو تبيان مفاسد السلطة الحاكمة من جهة ، وسوء اختيار المسلمين من جهة اخرى بحرف الخلافة عن مسارها الصحيح، وانهم لو اختاروا ما وصاهم به الرسول لساروا على المحجة البيضاء، ومضى هذا الصحابي الكريم في هذا الطريق الوعر طريق الحق الذي قلّ سالكوه وندُر قاصدوه ، يمضي ليفضح كل انحراف عن نهج الرسول وأهل بيته الأطيبين. ولعل الأحداث بلغت أوجها وقمتها عندما منح جهاز الحكم آنذاك مروان بن الحكم ـ والذي كان طريد رسول الله ـ بيوت الأموال ، واختص زيد بن ثابت بجزء منها، وتحكم بنو أمية فأصبحوا أمراء البلاد والعباد، فجعل أبو ذر رضوان الله عليه يمشي في الأسواق والطرقات رافعاً صوته يتلو قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)، فانتهى ذلك الفعل الى مسامع السلطة الحاكمة ، فنهوه وهددوه بأن يقلع عن هذا الفعل ، وشُدد عليه الحصار الاجتماعي، حتى نقل لنا أحمد بن حنبل في مسنده صورة عن ذلك الحصار الاجتماعي الذي شُنَّ على هذا الصحابي لقوله الحق وصدعه به ، فقال : «حدثنا الأحنف بن قيس قال : كنت بالمدينة فاذا أنا برجل يفرُّ الناس منه حين يرونه ، قال قلت : من أنت ؟ قال : أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال ، قلت : ما يفر الناس؟ قال : إني أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ثم ان الخليفة الثالث حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه فمكث كذلك أياماً ثم أمر أن يُؤتى به فجاءوا به «فقال له عثمان: وارِ عنّي وجهك، فقال: أسير الى مكة، قال: لا والله ، قال: فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت قال: أي والله ، قال : فالى الشام ، قال : لا والله، قال: البصرة، قال: لاوالله، فاختر غير هذه البلدان ، قال : لا والله ما اختار غير ما ذكرت لك، ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئاً من البلدان، فسيِّرني حيث شئت من البلاد، قال: فاني مسيرك الى الربذة ، قال : الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرني بكل ما أنا لاقٍ ، قال عثمان : وما قال لك؟ قال: أخبرني بأني اُمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة، ويتولى مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز..»

فأمر عثمان ،مروان بن الحكم ليقوم بمهمة اخراج أبي ذر من المدينة وأمرته أن يعزله عن الناس ولا يدع أحداً يشايعه أو يودعه.
وبالرغم من كل هذا التشدد غير المبرر خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن والحسين عليهم السلام ومعهم عبد الله بن جعفر الطيار وعقيل وعمار بن ياسر خرجوا ليودعوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشايعوه ويواسوه في محنته ، فلما رأى أبو ذرٍّ الامام علياً عليه السلام «قام إليه فقبّل يده ثم بكى وقال : إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر حتى أبكي، فذهب علي يكلمه، فقال مروان: إن أمير المؤمنين (ويعني عثمان) قد نهى أن يكلمه أحد، فرفع عليّ السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال: تنحَّ نحّاك الله الى النار..».
وتمضي تلك اللحظات ثقيلة ، انها لحظات فراق الحبيب لأحبته والأخ لأخوته، ويقطع جدار الصمت الذي خيّم على ذاك المكان صوت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يخاطب أبا ذر ويعظه قائلاً: «ياأبا ذر إنّما غضبت لله عزوجل فأرج من غضبت له، ان القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فأرحلوك عن الفناء ، وامتحنوك بالبلاء ، ووالله لو كانت السماوات والأرض على عبدٍ رتقاً ثم إتقى الله جعل له منها مخرجاً، فلا يؤنسك إلا الحق، ولا يوحشك إلا الباطل»
فسار اباذر مرتحلا لايلوي على شيء الا مرضاة الله ، وهو يستذكر اللحظات التي قضاها مع الرسول الكريم وخاصة تلك التي جمعته مع جماعةٍ من أصحابه، وكان احدا منهم ليتردد في داخله صوت رسول الله: «ليموتن منكم رجل بفلاة من الأرض فتشهده عصابة من المؤمنين»
لقد استشعر أبا ذر رضوان الله عليه حين دنا أجله وحانت منيته انه هو المعني بهذا الحديث لا غيره فها هي ابنته تحدثنا عن تلك الأيام القاسية فتقول: (أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً فقال لي أبي : يابنية قومي بنا الى الرمل نطب ألقت ـ وهو نبت له حب ـ فصرنا الى الرمل فلم نجد شيئاً فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينيه قد انقلبت، فبكيت ، فقلت له : ياأبه كيف أصنع بك وأنا وحيدة ؟ فقال : يابنتي لا تخافي ، فاني اذا مت، جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري فاني أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك فقال لي: «يا أبا ذر تعيش وحدك وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك أقوام من أهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك ودفنك» فإذا أنا متُّ فمدّي الكساء على وجهي، ثم اقعدي على طريق العراق ، فاذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد توفي .... ، قالت ابنته : فلما عاين سمعته يقول : مرحباً بحبيب أتى على فاقة ، لا أفلح من ندم اللهم خنّقني خناقك فو حقك انك لتعلم أني أُحب لقاءك، قالت ابنته : فلما مات ، مددت الكساء على وجهه ، ثم قعدت على طريق العراق ، فجاء نفر فقلت لهم : يا معشر المسلمين، هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد توفّي ، فنزلوا ومشوا يبكون فجاءوا فغسلوه وكفنوه ودفنوه ، وكان فيهم الأشتر ـ تعني مالك الأشتر ـ ... فقالت ابنته : فكنت اصلي بصلاته وأصوم بصيامه، فبينا أنا ذات ليلة نائمة عند قبره إذ سمعته يتهجد بالقرآن في نومي كما كان يتهجد به في حياته ، فقلت : ياابه ماذا فعل بك ربك ؟ قال : يابنتي قدمت على رب كريم رضيّ عني ورضيت عنه وأكرمني وحيّاني فاعملي ولا تغتري)

فسلام عليك يا أبا ذر يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.