هاني عبدالله
"ولو قد فقدتموني، ونزلت بكم كرائه الأمور، وحوازب الخطوب، لأطرق كثير من السائلين، وفشل كثير من المسؤولين".. الإمام علي(ع).
رحيلُ الكبار يُثقل الأمم أو يثكلها، وخصوصاً إذا كان الكبيرُ رمزاً يحمل صفات الشمولية، في الفقه والفكر والسياسة والأدب والاجتماع وما إلى ذلك. وأيضاً عندما لا تُنتج الأمة من الرموز إلا القلَّة، أو الذين يتكررون ربما على مستوى القرن وما هو أبعد من ذلك.
الخسارة البيضاء في الزمن الأسود:
بيد أن المأساة تغدو أخطر وأكثر إيلاماً عندما يكون هذا الرحيل في "الزمن الصعب" وفي المرحلة الأشد صعوبةً وتعقيداً، عندها يكون للخسارة البيضاء في الزمن الأسود ملامح اليتم، حيث يغدو رحيل "آخر العمالقة" إيذاناً بالفوضى والتخبّط وحتى الضياع، ليس على مستوى الحركة السياسية اليوميَّة، بل حتى على مستوى المفاهيم، لتدخل الأمة في المتاهة عند المنعطف الصَّعب، فيكون الخيار صعباً حتى فيما اعتاد الناس على استسهاله، فكيف إذا حدث العكس.
المأساة تغدو أكثر إيلاماً عندما يكون الرحيل في "الزمن الصعب" وفي المرحلة الأشد خطورةً وتعقيداً

عندما وقف رئيس الوزراء العراقي قبل ثلاث سنوات على ضريح سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) مؤبّناً، قال كلمته الشَّهيرة: "رحل آخر العمالقة".. عندها لم تكن الأمة العربيَّة والإسلاميَّة قد دخلت في الدوامة المذهبيَّة القاتلة إلى المستوى الذي نشهده اليوم، ولكنَّ الخوف كان سائداً من أن رحيل الرمز الأكبر للوحدة الإسلامية، والجسر الذي كان يربط بين قطبي الأمة، سوف يكون له تداعياته عندما تبدأ العواصف تضرب القواصف.
قارئ في كتاب الغد:
ويبدو أن الجميع في هذه الأيام يتلمّسون الخطر في مشاهد الخلاف والاختلاف، التي يصحبها خطابٌ مذهبي متعصب ومتشنج لم تسمع بمثله أجيالنا، ولم يكن الكثيرون يتصورون أن الأمور يمكن أن تصل إلى حيث وصلت، ولا أدري إذا كان لدى الجميع شجاعة العودة بالأمور إلى الوراء قليلاً، كما هي الشجاعة التي تعتريهم في هذه الأيام عندما يقومون بتوصيف المشهد الملتهب، ليتحدثوا عن الأسباب والمناشئ والوقائع التي جعلت كل شيء يتسم بالتعقيد، وخصوصاً عند الحديث عن الساحة الإسلامية، وما آلت إليه الأمور بين المسلمين من السنة والشيعة.
كان السيِّد(رض) يقرأ في القرآن الكريم ومقاصد الشَّريعة، كما كان يقرأ في كتاب الغد لأمَّة تقاتلت على التاريخ، وأمعنت في هدم المستقبل. كان يضرب المثل في الرموز التاريخيَّة التي نتقاتل عليها ونتصارع باسمها، وندخل في عملية سباب هنا وشتائم هناك، وحن نحسب أننا ننتصر للتاريخ الذي يمثّلها، ويخاطب الجميع بلسان القرآن الكريم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].. ثم يقول: "إذا كان من في التاريخ قد اتفقوا على حماية الإسلام، وكان رائد الوحدة الإسلامية علي بن أبي طالب قد قال: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين".. فلماذا لا نسلك السبيل نفسه، ونحفظ إسلامنا، ونصون مستقبل الأمة في أجيالها وتراثها؟!".
الله الله في الإسلام:
لقد أحرقت فئةٌ من هنا وفئةٌ من هناك مرحلة بكاملها، وخصوصاً أولئك الذين صبّوا الزيت على النار ورموا رمز الوحدة الإسلامية الأكبر بالتقصير في حقٍ افترضوه هنا، أو منقبةٍ زعموا أنه أسقطها من الحساب، وأوغلوا في الذهاب بعيداً بأساليب التّهويش والتّهويل، وما خافوا الله في ذلك كله، وفي الأمة الغضّة الطرية التي تُقاتل احتلالاً غاشماً من جهة، وتواجه استكباراً عالمياً يعمل لنهب ثرواتها ومصادرة قراراتها من جهةٍ ثانية، ولا فكّروا في الهجمة القاتلة على الإسلام نفسه وعلى الرسول الأكرم(ص).
ولطالما ردد السيّد: "واإسلاماه"، فأصرّوا على كلمة واحدة: "وامذهباه"، وليتهم فهموا المذهب على حقيقته فقدّموه كما قدمه السابقون، ورفضوا الاستماع إلى ما كان يردده السيد(رض) من كلمات علي(ع) لأهل مصر: "..حتى إذ رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي أيامٌ قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في هذه الأحداث وتلك حتى زال الباطل وزهق الحق، واطمأن الدين وتنهنه..".
أراد السيّد(رض) للدين أن يتنهنه، وأرادوا للأهواء أن تأخذ مداها فتخبط خبط عشواء لتثير غباراً هنا ورماداً هناك، وليعود صوت الفتنة هدّاراً، بدلاً من أن يرتفع صوت الوحدة ويعلو صوت الحق.
لطالما ردد السيّد: "واإسلاماه"، فأصرّوا على كلمة واحدة: "وامذهباه"، وليتهم فهموا المذهب على حقيقته فقدّموه كما قدمه السابقون

زمن الفتنة المتنقلة:
وعندما عضّت الفتنة بنابها، انبرت فئةٌ لتترحم على زمان أفل، ولتتحدَّث بأسلوب جديد لطالما يُرجم من يتحدث به بأفظع الألفاظ، وانطلقت فئة أخرى لتقول: لا مجال للخروج من هذا الواقع، وبدأت تحشد الأحاديث من هنا وهناك، ونسيت كل ما قاله الله تعالى في كتابه الكريم عن الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وتناست كل الآيات الداعية إلى الوحدة والذامة للتقاتل والتنازع: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46]، وجاءت فئة ثالثة لتقول لك: "لات حين مناص"، ولتنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما حاول أحدٌ أن يفتح الدفاتر القديمة، مع أن القضية ليست قضية بكاءٍ على الأطلال، ونكء المزيد من الجراح، بل هي قضية قراءة ما سبق وفق المنهج القرآني: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ}[يوسف: 111].
إنه زمن الفتن المتنقلة ـ يقولون لك ـ وعندما تحدّثهم عن الذين يدرأون بالحسنة السيئة، كما أراد القرآن الكريم، وعن الأسلوب الإسلامي في مواجهة الفتنة، يحدثونك عن الصوت الذي لا يمكن لصوت أن يعلو عليه.
كان السيّد(رض) يستحضر كلام علي(ع) في الفتنة: "إنَّ الفتن إذا أقبلت شبّهت، وإذا أدبرت نبّهت، ينكرن مقبلات، ويُعرفن مدبرات".. وكان يتطلع إلى أمة تعيد صياغة حاضرها ومستقبلها على أساس الأصالة؛ أمة تستفيد من تجاربها، ولا تتجمَّد أمام إخفاقاتها، ولا تقضي على نفسها بالنزوع دائماً إلى استحضار المحطات المؤلمة التي يستذكر فيها كل فريق مظالمه، وينسى الجميع همّ الإسلام ومسيرة الإسلام في العالم.
كان السيد يتطلَّع إلى أمة تعيد صياغة حاضرها ومستقبلها على أساس الأصالة؛ أمة تستفيد من تجاربها، ولا تتجمَّد أمام إخفاقاتها

ولذلك، كان قدر السيد(رض) أن يتحمل "صدمات التيار" سابقاً ولاحقاً، وقد كان يردد: "منذ أكثر من خمسين سنة وأنا أحمل خشبة الإسلام على ظهري لأجد من يصلبني عليها".
وقدره(رض) أن يبقى نهجاً "مسلطاً" على كل من سوّلت أو تسوّل له نفسه الحديث عن أن هذه الأمة هي أمة التناحر والتقاتل، ولا مجال فيها للوحدة والتناصر، وقدره أن يرجمه الكثيرون. ولكنهم عندما يحمرّ البأس، وحيث يعودون لقراءة الواقع والمستقبل بعيداً عن تعقيدات الذات، سيعودون إليه، وقد عادوا إليه في أشياء، وسيعودون فيما بقي.. "وما كان لله ينمو".