خبر.. في الوقت الّذي يعزف الشباب عن الزواج بسبب النفقات الكثيرة، وترتفع نسبة الطلاق في مناطق كثيرة من العالم العربي، فإن شباب نجع "العقارية" وشابّاتها في صعيد مصر، لا يعرفون العنوسة، وحالات الطلاق هناك نادرة بفضل نظام اجتماعيّ فريد.
ظاهرة فريدة تلك الّتي يعرفها نجع " العقاريَّة"، وهو نجع صغير في مركز الطّود جنوب محافظة الأقصر بصعيد مصر، يسكنه حوالى خمسة آلاف نسمة، جميعهم ينتمون إلى قبيلة واحدة نزحت من شبه الجزيرة العربيّة، ويتميَّز أفرادها بعادات وتقاليد لم تندثر منذ مئات السّنين، هذه العادات جعلت من نجع العقاريَّة "يخلو من العوانس، ولا يوجد ما يسمَّى بالعنوسة فيه، كما أنَّ نسبة الطَّلاق بين الأزواج تكاد تكون معدومة"، كما صرَّح بذلك الشَّاعر والباحث المصريّ في شؤون التّراث محمد عبد اللّطيف الصّغير لوكالة الأنباء الألمانيَّة، مضيفاً في السّياق نفسه، أنّه "لا يوجد شابّ أو شابّة فوق 25 سنة لم يدخل عشّ الزّوجيّة، والسّبب في ذلك هو نظام اجتماعيّ فريد يتّبعه أهل النّجع في إتمام الزّواج، يتضمّن شروطاً وأحكاماً وضعها الآباء والأجداد، ويسير عليها الأبناء منذ عقود مضت وحتّى اليوم"، قائلاً إنّ السّبب في الإقبال على الزّواج، "هو تيسير شروط الزّواج، حيث إنّ المهر الّذي يقدَّم للعروس هو 60 قرشاً، وحتى وقتنا هذا لم يتغيّر، كما أنّ مأذون النّجع يحصل على مقابل ضئيل للغاية، وهو الأقلّ في قرى مصر ومدنها".
أمّا مشكلة المنزل والأثاث الّتي تؤرق أيّ شاب مقبل على الزّواج، فلا أثر لها في نجع العقاريّة، حيث لا يشترط أهل العروس وجود منزل مستقلّ أو شراء أثاث منزليّ فخم وغالي الثمن، كما أنّ أهل العريس لا يضعون أيّ شروط تعجيزيّة يمكن أن تعطّل شروط الزّفاف.
الباحث في شؤون التّراث محمد عبد اللّطيف يقول إنّ "قيمة المهر لا تتغيّر مهما علت مكانة العروس الاجتماعيّة الّتي عادةً ما تكون مرتبطةً بعريسها منذ سنّ 13 أو 14 عاماً، طبقاً لتقاليد النجع"، كما أنّ "الشبكة" هي موحّدة لجميع الفتيات، وهي تتكوّن من خاتم و"دبلة"، ويشتري العريس سبع قطع قماش للعروسة، وإذا قام بشراء قطعة زائدة يتمّ حرقها أمام الجميع، حتّى لا يتكرّر الأمر مع عريس آخر، كما أنّ أقارب العروسين يساعدونهما في نفقات الزّواج، بحيث لا يكون الإقبال على الزّواج أمراً مرهقاً.
وتطالب نجوى البارون، النّاشطة في مجال حقوق المرأة، وعضو المجلس القوميّ للمرأة في محافظة الأقصر، منظّمات المجتمع المدنيّ بدراسة هذه الظّاهرة، ومحاولة نشر النّموذج الإيجابيّ في هذه التّجربة الفريدة من نوعها، ومحاولة اكتشاف كيفيّة نجاح هذه الزّيجات واستمرارها، رغم الظّروف الماديّة الصّعبة لأهالي النّجع الّذين أسّسوا نظاماً اجتماعيّاً خاصّاً بهم، فتجربتهم في مجال تيسير الزّواج جديرة بالدّراسة.
وتعليق..
يحضّ الإسلام على الزواج المبكر، صوناً للحياة الإنسانيّة، ومراعاةً لمتطلّباتها النفسيّة والجسديّة عبر مؤسّسة الزواج الشرعيّة، كما يدعو إلى تسهيل شروط هذا الزّواج وتيسير أموره، وعدم وضع العراقيل أمامه من أمور ماديّة ومعنويّة، ففي ذلك إساءة كبيرة إلى المجتمع عموماً، فالزّواج هو رابط يجمع بين النّاس على المودّة والرّحمة والتّواصل والتّقارب، فينبغي بالتّالي دعمه بكلّ الطّرق من جانب الأهل كما المؤسّسات المدنيّة والرسميّة، تعزيزاً لأوضاع المجتمع وتقوية بنيانه، وما هذا النّموذج المصري إلا ظاهرة إيجابيّة تعبّر عن مسوؤليّة ووعي، وهو نموذج جدير بالاحترام والتّقدير والتّعميم، في زمن كثرت الضّغوطات المادّيّة على الشباب، إضافةً إلى البطالة وغيرها، ما يحتّم تعاون الجميع لإنجاح العلاقات، وأهمّها الزّواج.
وفي سياق متّصل، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
قد يشكِّل المهر عائقاً أمام زواج الكثير من الشَّباب، عندما تتضخَّم وظيفته الاجتماعيَّة في نظر أهل الفتاة، ويتحوَّل من مجرّد هديّة يفترض بالرَّجل أن يقدِّمها للمرأة في بداية الحياة الزوجيَّة، إلى ضمانٍ مادّيّ لمستقبل الفتاة يمنع الزّوج من طلاقها. لذا فإنَّ الإسلام ركّز على تخفيف المهر، وعلى عدم جعله قيمة اجتماعيّة أو حتّى قيمة نفسيّة، وقد ورد في الأحاديث: "إنَّ شؤم المرأة كثرة مهرها". فالإسلام يشجّع الشّباب والفتيات على الزّواج من أجل تحصينهم من العلاقات غير الشرعيّة ، ومن أجل إخراجهم من حالة الحرج المعقّدة الّتي يخلقها عجزهم عن إشباع حاجاتهم الجنسيّة.
لقد أراد الاسلام تسهيل الزّواج بتسهيل شروطه الاجتماعيّة، وجعل للزّوجين حرية التراضي على أيّ شيء، ومنها المهر الّذي اعتبره مسألة رمزيّة بحتة، لا مسألة قيميّة تقوّم المرأة على أساسها معنويّاً أو جسديّاً. وهو من أجل ذلك، حاول تفادي النّظر إلى المهر كمحدّد لقيمة المرأة، باعتبار ارتفاعه شؤماً عليها لا زيادةً في قيمتها، على الرّغم من كونه لم يمانع اتّفاق الرّجل والمرأة على أيّ مهر شاءا.
ولا يشكّل المهر ـ مهما كان كبيراً ـ ولا كلّ الوضع الماليّ للشّريك، عنصراً أساسيّاً في إنشاء العلاقة الزوجيَّة أو في استمرارها، لأنَّ الحياة الزوجيَّة تقوم على المودَّة والرَّحمة، وهي حالة روحيَّة تنفتح فيها روح على روح، وعقل على عقل، وحياة على حياة، ما يجعل الحياة الزوجيّة قائمةً في عمقها الإنسانيّ على أساس التّضحية بأن يبذل كلّ واحد للآخر من نفسه وماله ما يحتاجه، باعتبار أنّ هذا الآخر جزء منه..[كتاب "دنيا المرأة"، ص 276- 277].