جذور الفن السومري / القسم الخامس
تماثيل كوديا تحتل مكانها بين فنون العالم
حسين الهلالي

كوديا الشخصية السومرية التي تتمتع بالحكمة والحلم والإرادة الناجحة لدولة ( لكش) ، هو ثاني ملوك السلالة السومرية الثانية ( 2164 ـ 2111 ق.م ) التي حكمت ( لكش ) ، وحكمه من ( 2144 ـ 2124 ق.م ) ودام خمس عشرة سنة ، أمير ( باتسي ) هكذا كان يرغب أو هكذا أوحت له حكمته وسياسته بأن لا يغيض ( الكوتيين ) المحتلين الذين سيطروا على بلاد سومر ، حتى يظفر بنوع من الاستقلال وفعلا تركوه وشأنه شبه مستقل في دولة ( لكش ) أو هو آثر ان يتبع سيرة حكام السلالة الأولى الذين لقبوا أنفسهم بالأمير ( باتسي ) ، لقد ولد عن طريق طقس الزواج المقدس ، هذا الطقس الذي يتم بين كاهنة من الدرجة العليا تقوم فيه بتمثيل دور آلهة الخصوبة وبين كاهن يقوم بتمثيل دور إله الخصب .التفت ( كوديا ) إلى مدينة لكش وعمرها وحولها إلى مركز حضاري لا ينافس ، حيث بث فيها القصور والمعابد والمرافق ذات النفع العام ، وكل هذه الأماكن البارزة في المدينة ملئت بنتاجات فنية وعلى الأخص بتماثيله ، فالعدد المعروض الآن في أشهر متاحف العالم ( متحف اللوفر ) هي تزيد على ثلاثين تمثالا تتطاول مع فنون العالم القديم والحديث ،وهي تمثل أروع الأعمال العراقية في تلك الفترة حيث تمتلك اسلوبا متفردا يتكأ على ضفاف الواقعية في العهد السومري الحديث ، إنها تؤلف كيانا واضحا أكثر تأثيرا من أي نحت مجسم في تلك الفترة ، وكان هذا العمل الرائع بأمر شخصي من الأمير ( كوديا ) وفي مدينة ( لكش ) بالذات .إن العصر السومري الحديث يفتخر بانجازه العمارة إلى جانب منحوتات مدينة ( لكش ) التي سيطرت على المنطقة برمتها بل على القرن كله ، لذا يبقى تاريخ الفن مدين لهذا الرجل الحكيم المسالم الذي شجع الفنون والآداب ورعاها رعاية مباشرة ، كما يفتخر متحف اللوفر باحتوائه على مجموعة كوديا الجميلة التي يمتلكها ، هذه النتاجات التي انجزت بشكل جميل على حجر ( الديورايت ) وحجر ( الدولرايت ) وهما ذات صلابة غير اعتيادية ، وقد فضل كوديا هذا الحجر على ( اللازورد ) واستورد الكثير من مدينة ( مكّان ) وهذا وصف ذكرهفي كتاباته عن هذا الحجر يوضح اعجابه الكبير بنوعيته حيث قال : (( إن هذا التمثال ليس مصنوعا من معدن ثمين ولا من حجر ( اللازورد ) ولا من النحاس ولا من الزنك وليس من البرونز ، لا يستطيع أحد تثمينه ، إنه من حجر ( الديورايت ) )) ( الأمير كوديا ـ د. فوز رشيد ) . لقد واجه النحاتون السومريون صلابة هذه الأحجار التي تظهر تحديها لهم وهم لم يجربوها سابقا ، لذا أبدوا شجاعة وقوة ومهارة باخضاعها إلى أزاميلهم ومطارقهم ، يدفعهم إخلاصهم وحماسهم إلى أميرهم الذي يحمل صفات الألوهية لأنه جاء من ثمرة الزواج المقدس ، لذلك خرجت هذه التماثيل وهي تمتلك قوة روحية تعبدية ووقار ملكي ، لقد صمم هؤلاء المبدعون السومريون أن يصلوا بتماثيل كوديا إلى هذه الميزات وخاصة التعبد الروحي لقد ساعدت الفترة الاكدية بتأثيرها إلى تلطيف وترقيق صراعات الفن السومري القديم وأثرت عليه تأثيرا مباشرا ( لقد جعل كوديا يصور نفسه وهو مشبك اليدين حين يدخل إلى حضرة الإله ) ويقف بكل اجلال ووقار في هذه الحالة التعبدية ( مرتديا ملابس الرهبان البسيطة ، وهي عبارة عن جلباب يتدلى بشكل مستقيم ويدع كتفه وذراعه الأيمن عاريين وفيه طيات قليلة تحت الأبط وأخرى غيرها على الساعد الأيسر وحاشية ضيقة للجلباب ولا شيء أكثر من ذلك ) ( سومر فنونها وحضارتها ، تأليف ـ أندري يارو ) هذا الرداء الخالي من أي تزينات جمالية هو ما يرتديه كوديا وهذا يدل على ورعه ويساطته وتواضعه أمام الغله وأمام شعبه ، أما قدماه الضخمتان فهما في حالة اصطفاف وسكون وتوحيان بالثبات واليقين للحالة التعبدية التي يقوم بها اتجاه آلهته ، والطريقة التي عملت بها تشابك الاكف فهي متكررة في جميع تماثيله ، وهي طريقة حيوية غير فضة بدءا من استطالتها الرقيقة إلى نهايتها التي تنتهي بالأظافر المنحوتة بعناية فائقة ، وهذا الأسلوب مقصود وربما له دلالاته الخاصة ، أما العينين المحدقتين وفمه الملموم يوحيان بحالات الاصرار بان تطاع أوامره ، وقد جسدها في تماثيله ومسلته التي وجدت مبعثرة ، وفي الرقم الطينية المنتشرة هنا وهناك في لكش وفي مراسلاته ، هنالك تمثال اختلف في وضعه عن بقية التماثيل وبدلا ان يظهر مشبك اليدين نشاهده وهو يضم الى صدره إناء يتدفق منه ماء الخصب والذي يعتقد العراقيون القدامى بانه مصدر المياه الجوفية ومن هذا الاناء ينبع النهران دجلة والفرات ، انه بوقفته هذه يريد ان يذكر شعبه بالخيرات والمنافع التي جلبها لبلاده من خلال توسطه لدى الآلهة والتي كان يناشدها دوما ان تمن على شعب لكش بالخيرات ، بازدهار الحقول وكثرة الماشية والصيد الوفير ، وخاصة الإله ( ننكرسو ) إله المدينة ، ( وننكيزدا ) إلهه الحامي ، ويجزم الآثاريون بأن تماثيل كوديا هي جاءت من أصل شخصيته وقد صور نفسه هكذا (( فهو قصير ومكتنز الجسم يغرق رأسه عميقا بين كتفيه ورقبته قصيرة وغليظة )) ( سومر وحضارتها وفنونها ـ اندري بارو)
ويقول بارو : (( لقد استطاع كوديا الإداري الحكيم الذي نذر نفسه لقضية السلام أن يجعل مطامحه ضمن حدود ، فقد كان قبل كل شيء راعي الفنون والآداب التي تطلع ليخلد ذكراه ، وبفضله وفضل النزعة الطبيعية التي كانت لديه بالنسبة إلى التصوير استطعنا أن لم إلماما جيدا بالنحت السومري الحديث المجسم )) . ولم يقتصر عمل النحاتين على نحت الملوك الذين يطلبون مثل هذه التماثيل بل هناك تماثيل إلى ناس عاديين نحتت تماثيلا لهم ، وهي تحمل نفس سمات النحت السومري في فترة لكش بل قريبة جدا من تماثيل كوديا وخاصة تماثيله الحاسرة الرأس ، وهذه التماثيل هي لشباب حليق اللحى ، وأحد هذه التماثيل نحيف الوجه والآخر حليق اللحية مكتنز الوجه وهي تعد من روائع الواقعية في ذلك العصر والذي يحتفظ متحف اللوفر بها وغيرها مستمدة من الحياة بكل جلاء . أما المرأة فقد سنّة قوانين لحمايتها وهيأت لها مكانا بارزا وأعطتها مكانة مرموقة في المجتمع السومري في مدينة لكش ، فمنهن كاهنات ومنهن استلمن مناصب إدارية وتجارية ودينية ، وهو كسلفه المصلح الاجتماعي ( اوركجينا ) الذي برز مكانة المرأة ، وخير مثال زوجته ( شاشا ) (( التي تشرف على مراكز تجارية ودينية وهي التي أقامت مراسيم دفن عظيمة ( إيرنيتمار ) زوجة الحاكم السابق ( لوكالاندا ) حضرها عدد كبير من النساء والرجال مما يشير إلى سموها وعظمة مركزها الاجتماعي )) ( المرأة دورها ومكانتها في حضارة وادي الرافدين ـ ثلماستيان عقراوي ) لكننا لا نجد تماثيل النساء بشكلها الطبيعي والخصائص المتبعة آنذاك فهي قليلة جدا إذا استثنينا تمثال المرأة المتعبدة والتي شبكت يديها ، إنه تمثال يصل إلى درجة الكمال من حيث النسب والتكوين الرقيق الذي يتناسب مع هذه المرأة المتعبدة بكل وقارها وارستقراطية ملابسها ووضع القلادة في جيدها المتكونة من عدة حلقات واحدة فوق الأخرى ، أما تسريحة شعرها فقد شدّت بمنديل ينتهي بشريط رأس ضيّق و الملابس المنسابه على جسدها المكتنز ذات الطيات المنتهيه باشرطه مطرزه بوحداتزخرفيه شائعه في ذلك العصر، أن الابتسامه الخفيفه على شفتيها هي ابتسامه غامضه تشكل مع العينين المفتوحتين كثير من العلامات وتخفي اسرارآ وكثير من الادعيه والتمنيات لآهل لكش وزوجها كوديا و الذي تم تشخيصها من قبل الآثاريين ( بشكل جدير بالتصديق ولكن دون تثبيت حقيقي) .ولآول مره ظهرت الثيران في وجوه بشريه في مدينة لكش ، وهذا الظهور بهذا الشكل والتي تحملسمات واقعيه منحوته في ظهورها فجوات فارغة ولا يعرف فحوى استعمالها ،والمهم بالامر انها نحتت بجهد كبير قامه به الفنانون وهي تأسيس لفتره لاحقه حيث ظهر بعد قرون الثور الهائل المجنحالواقف على اربع ارجل في الفتره الاشورية ،ان هذه الفتره الطويله تاؤرخ للفن العراقي وتظهر تقدمهومركزه المرموق بين فنون العالم ،كذلك تظهر جدارة الفنانين الكبار الذين تطاولوا مع فناني العالم وثبتوا فنآ عراقيآ ذات سمات عريقة بعيدآ عن كل التآثيرات الخارجية الاخرى