خواطر عن مناســك الحج
بقلم
أ.د. عبدالرزاق محمد جعفر

نشرت مقالة عن مناسك الحج ,..فردتني بعض الردود من الزملاء بضرورة عدم التذمر من ذلك " فالأجر على قدر المشقة ",..أنني أؤيد ذلك عندما يكون الأنسان تحت ظروف لا يمكن التغلب عليها البته,..ولكنها متأصلة في بلد من أغنى الدول الأسلامية ومفعم بالعمالة من كافة الأقطار الآسوية,.. أضافة الى العدد الكبير من الخبراء الأوربيون والعرب ,..فهل من المعقول أن نرى أهمال منقطع النظير بالنظافة في دولة مثل المملكة السعودية التي حباها الله بأمكانيات بشرية ومادية لا مثيل لها غير قادرة على ذلك؟!
***
ان من أهم قواعد التقدم العلمي, التي أدت الى أزدهار الحضارة الحديثة هي ما يعرف بـ improvment
أي (التطوير), الذي يعتمد وجوب التفكير بتحسين الطريقة التي نتبعها في ايبحث علمي , او التفتيش عن طريقة جديدة!,.. ولذا لا اريد تبرئة المسؤلين عن عملية الحج من اي خلل في تلك العملية,.. بسبب خبرتهم الطويلة, وبسبب ما لدى المملكة من المال الوفير الذي تتقاضاه من الحجاج , و بما وهبها الله من نعمة البترول, ولذا فأن اي خلل في مسيرة الحج ممكن معالجتها من قبل ذوي الخبرة السعوديين, او الأستعانة بشركات اجنبية تأخذ على عاتقها التخطيط لتقديم كل الخدمات الضرورية لحجاج بيت الله .
***
نفذ صبرنا لعدم اطلالة أي مسؤل ليعلمنا عن سبب هذا التأخير,..ثم سرحت واخذتني سِنة
من النوم,..واذا بصوت نسائي يقرع بأذني, فنبهتني زوجتي,.. والتفت ,.واذا بأمرأة وسـيمة
ومحجبة بحجاب انيق, توجه سـؤالها لزوجتي ولي وتقول:
(هل انتما عراقيان ؟ ),.... وفوراً هززت رأسي ورحبت بها , واعادت السؤال, وعلمت من لهجتها انها مغربية, واجبتها بلهجتي العراقية: ( نعم,..نعم,..من انتي ؟!.)... فقالت انني من ضمن حملة السلام للحج , ..وان مسؤل الحملة (الحاج.......) اتصل بنا عدة مرات يطلب منا البحث عنكما! .. حمدت الله وشكرت المرأة ,.. وقلت لزوجتي: (الحمد لله فرجت),.. فمعنا الآن حجاج من نفس مجموعتنا,.. وهكذا دب الأمل فينا,..وبعد اقل من ساعة عادت تلك المرأة المغربية الفاضلة (السـيدة .......) و زوجها ( السيد........), ..يصحبان مسؤل سعودي وبيده جوازات سفر ركاب الحافلة سلم الجوازات الى سائق السيارة,.. ثم غادر.



سـارت الحافلة وعين الله ترعاها,.. وصرنا نتطلع الى الجبال والسهول,.. وبدأنا نقترب من مشارف المدينة المنورة,ودخلت الحافلة في ازقتها موزعة الركاب على فنادق اقامتهم,.. وكنا ستة افراد من مجموعة حملة السلام للعمرة والحج,.. اقامتنا في فندق ( دلًه طيبه),.. وهكذا انعم الله علينا بسلامة الوصول وهبطنا من الحافلة , وتولى امر نقل العفش وادخالها عمال الفندق,..وما ان حللنا في بهو الفندق حتى وجدنا رئيس بعثة السلام يرحب بنا بشدة, فقد كان قلقا على سلامتنا,.. وطلب منا تغيير ملابسنا والذهاب الى المسجد النبوي للسلام و لتأدية صلاة المغرب,..ومن ثم العودة لتناول وجبة العشاء.

***
لا اريد الأطناب في وصف الخدمات التي قدمها المشرف على حملة السلام, ..فكل شيئ يخص المبيت والطعام لثلاثة وجبلت بموائد احتوت ما لذ وطاب من كل اصناف الطعام والحلوى وفواكه متنوعة,.. وكلها وضعت في قاعة خاصة بنظام (البوفيه), الدخول فيها في اوقات معينة و لمدة ساعتين لكل وجبة
كان الفندق المخصص لنا في محيط المسجد النبوي ولا يبعد بأكثرمن مآت الأمتارمن الصـحن الشـريف,.. والمنطقة عامرة بمختلف المخازن ,..العمل مستمر بها و لا ينقطع الا في اوقات الصلاة فقط. وان شرح تهافت الجماهير الغفيرة لتأدية الصلاة يحتاج الى مقدرة ادبية لصياغة ما تراه العين من ظاهرة تهتز لها الأبدان,.. فالأفواج المتوجه الى الحرم النبوي تسري بصفوف متراصة وبهمة ونشاط لتصل الى المسجد قبل انتهاء الآذان,.. ومن المحال ان تخترق تلك الجموع بالأتجاه المعاكس, بل عليك السير بنفس الأتجاه, حتى تجد مكاناً تأم به صلاتك مع المصلين.
استمرت زيارتنا للمدينة المنورة خمسة ايام, بعد ذلك توجهنا الى مكة المكرمة, في حافلات خاصة, وتمتعنا بمشاهد الجبال الجرداء المحيطة بمكة المكرمة من كل الجهات.

***
أقمنا في مكة المكرمة في عمارة خاصة تقع في المنطقة الشرقية, في بقعة تعتبر ضمن الكعبة المشرفة ومتكونة من اربعة طوابق, ثلاثة منها خصصت للرجال والرابع خصص للنساء, وقاعة ارضية استخدمت كمصلى وقاعة للمحاضرات وتناول الطعام بثلاثة وجبات بطريقة (البوفيه), ومقهى زود بالشاي والقهوة والفواكهة وكل ما طاب من الحلويات والعسل والتمر, بسخاء طول النهاروالمســاء وبلا حساب!!
لا اريد الخوض في شرح المشاعر الدينية التي استوجب القيام بها منذ وصولنا الأراضي المقدسة,.. حيث كنت ضمن اعضاء وفد حملة السـلام للعمرة والحج,.. وان المشاعر الدينية كنا نؤديها وفق تعاليم المرشد الديني المرافق, والذي كان يشرح لنا الواجبات الملزمة وفق المذاهب الأربعة في اي نقطة فيها اختلاف ,.. وكان حريصاً على تلقيننا القول عند تأدية العمرة والحج , والدعاء للتقرب الى الله تعالى.


سأقتصر في حديثي عن مشاهداتي اثناء تأدية تلك المشاعر والأحاسيس الروحية التي كانت تلهبني بشكل لم اعهده من قبل!
***
فبعد ان احرمت توجهت برفقة مجموعة من اعضاء الحملة يزيد تعدادها المائة, ووقفنا على بعد امتار من الكعبة المشرفة, .. بدأ ســماحة السـيد محمد القزويني (مرشـد الحملة الديني), بألقاء النص الكامل لتأدية الفريضة, ونحن نردد خلفه, وما ان انتهينا حتى بدأت الحناجر تصدح بأعلى صوتها

لبيك اللهم لبَيك, لَبَيك لا شريك لك لبَيك
ان الحمد والنًعمة لك والمُلك, لا شريك لك لبَيك.
وما ان وقعت عيني على الكعبة وصارت على بعد امتار مني,. وانا والجمع المحيط بي من رفاق الحملة, اضافة الى حشد هائل من البشر نردد,( لبيك اللهم لبيك,.. لبيك..),.. و لقد شعرت فوراً بقشـعريرة سـرت في بدني لم اعهدها من قبل,.. وها نحن تهيأنا للطوف حول البيت العتيق سـبعة أشــواط , مبتدئين بالحجر الأسود ومختتمين به,...وما ان بدأنا الطواف الأول حتى هجمت علينا موجة من البشـر من مختلف الأجناس, اندفعت بأتجاهنا ممزقة جمعنا شـذرمذر فهلعت مما حدث وامسكت بزوجتي التي كانت بجانبي وقلت لها لقد ضعنا ورب الكعبة !! .. الا انها كانت متماسـكة الأعصاب,.. وطلبت مني التريث وعدم الخروج من الطواف, فقد تشتتنا عن الجمع من اعضاء الحملة, .. وفي هذه الأثناء شـعرت بيد تمتد لي وتمسـك بذراعي, فقد كانت تلك اليد لشخص من حملتنا, قادني بجانبه ! ***
صلينا بعد الفراغ من الطواف ركعتين, خلف مقام ابراهيم عليه السلام, وتوجهنا بعد ذلك للسـعي بين الصفا والمروة سبعة أشـواط, مبتدئين بالصفا ومختتمين بالمروة. وما ان انتهينا حتى اقترب مني السـيد محمد القزويني وبيده مقص صغير, فقص شيئاً من شـعر رأسـي.
وهكذا اتممنا حج العمرة, منتظراين اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية), لنحرم للحج هذه المرة وليس للعمرة, وما ان حلً اليوم الثامن حتى لبسـنا ثوب الأحرام ثانية, ونوينا لأحرام الحج,.. ولبينا, لبيكً اللهم لبيكَ,..وتوجهنا بالسيارات عند الغروب الى عرفات, حيث يجب علينا الوقوف هناك,.. الى غروب الشمس يوم التاسع من ذي الحجة, وان ليلة عرفة مباركة, وهي ليلة مناجاة, والتوبة فيها مقبولة, والدعاء فيها مسـتجاب,.. وهكذا وقفنا بشـكل مجاميع نردد الدعاء خلف احدنا ممن يجيد قراءة الدعاء بصوت مرتفع, .. ثم أنزوى كلاً منا على حدة لمناجات الخالق ليغفر الذنوب التي اقترفها في حياته,.. طالباً التوبة,.. وعدم اقتراف اي ذنب مسـتقبلاً !
وما ان حان غروب شمس يوم التاسع , توجهنا الى (المزدلفة), وبتنا فيها ليلة العاشر من ذي الحجة, حيث يجب ان يطلع علينا فجر اليوم العاشر ونحن بالمزدلفة, وان نبقى بها الى قبيل طلوع الفجر.
تركنا المزدلفة الى منى, ومعنا الحصى اللازم لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات واحدة تلو الأخرى, وما ان انتهينا من ذلك الواجب حتى وقفنا ننتظر نتائج النحر, حيث دفع كل حاج مبلغ 400 ريال سعودي عن كل كبش ينحر بأسمه اوبأسم موكله !,
وما ان سمعنا ان النحر قد تمً, حتى توجه كل حاج ذكر ادى المناسك لأول مرة للحلاقة بالموس وهكذا, ووفق التعاليم تحللنا من كل ما حرم علينا ما عدا الأستمتاع بالنساء والطيب والصيد.

***
عدنا الى مقر سكننا في مكة, .. ومن ثم توجهنا الى الكعبة, من اجل طواف الحج, وصلينا صلاة الطواف, وسعينا بين الصفا والمروة, كما في المرة الأولى , ثم طفنا ما يسـمى بطواف النساء او( الوداع), وصلينا صلاة الطواف,وعدنا بعد ذلك الى منى,حيث وجوب المبيت فيها
ليلة الحادي عشر, حتى الى ما بعد ظهر اليوم الثاني عشر, ورمينا خلال تلك الفترة الجمرات الثلاث الأولى والوسطى و العقبة بالترتيب في اليوم الحادي عشر, ثم عدنا ورمينا ثانية الجمرات في اليوم الثاني عشر كما بالأمس, وما ان بزغ ظهراليوم الثاني عشربمنى,..حتى
صلينا فرض الظهر, وغادرناها الى محل اقامتنا, في منطقة الشرقية, ثم صلينا صلاة الظهر, وبهذاانتهينا من كل واجبات الحج!
كنت أتسائل قبل ان يمنحني الله فرصة حج بيته العتيق لماذا يهنئ الناس الذين لم يؤدوا حج بيت الله, بعضهم البعض,.وهم قابعون في بيوتهم,.. بالرغم من انهم لم يعانوا ما عاناه معظم الحجاج؟
انني مؤمن بأن الأجر على قدر المشقة, الا انني اختلف مع من لم يميز بين ظرف طارئ على الحاج تحمله, وبين اهمال سـدنة من ادعوا انهم في خدمة ضيوف الرحمان!

فمن المحال ان يرضى الرحمن بتعرض ضيوفة الى (النجاســة), في بيوت الراحة, وفي فوضى نقلهم من دون اي تخطيط او توفر ابسط قواعد الأمان عند اجتياز الحافلات بأقصى سـرعتها او توقفها لسـاعات طويلة بســبب الأختناق المجهول الأســباب, والذي حفز ملايين الحجاج على ترك الحافلات والسـير على الأقدام للوصول الى المزدلفة قبل بزوغ الفجر.
***
كان الحج بالنسبة لي, فرصة للتقرب الى الله عزَ وجًل, والتمتع بالدعاء ليل نهار. ولذا أحث كل من له قدرة جسـدية وامتلك مالاً يكفيه للحج, ان لا يتردد لحظة في تأدية الركن الخامس, فالحياة فقاعة, ..وعلى المسلم الحج ان اسـتطاع, ووفق الله الجميع لأداء الواجبات الدينية والأحسان الى بني البشر وحثهم على عمل الخير