بالأمس، أغمضت عينا الشّاعر والأديب جورج جرداق؛ عينان ثاقبتان أجالتا النظر في أشعار المتنبي وروائع الأدب، ونهلتا من معين نهج البلاغة للإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، وأبدعت يداه وفكره موسوعةً عن هذه الشخصيَّة الربانيَّة والإنسانيَّة، تحت عنوان "عليّ صوت العدالة الإنسانيّة"، تخطَّت نسخاتها الخمسة ملايين نسخة، وكان الإنسان المثقّف والغزير في نتاجه.
وددت في هذه المناسبة، أن أسجّل بعض اللّمحات الخاصّة، فقد قمت بزيارته في إحدى المرّات في منزله في الأشرفيّة، وعندما فتح لي الباب، استفزّني منظر الكتب العتيقة والكثيرة المنتشرة في الأرجاء، حيث لا مكان للجلوس، وكان الحديث معه عن شخصيّة الإمام عليّ(ع). وعندما بادرته بالسؤال عن تعريفٍ له، استنكر ذلك، والتفت وقال: "من يستطيع أن يعرّف عليّاً؛ إنّه الصيغة الكونيّة للعقل البشري!".
ولما استطرد بالحديث، أوضح لي أنّه في حصص الأدب العربي، عندما كان طالباً، كان يهرب ويتسلّق جدران المدرسة، ويجلس تحت ظلّ شجرة قريبة يقرأ في ديوان المتنبي، وفي نهج البلاغة، هو وأتراب له.
ولم يُخفِ امتعاضه من كثيرٍ من الرّجال الّذين يعتلون المنابر هنا وهناك، وقال لي: "اِعلم أني لا أستمع إلى هؤلاء، أمّا الشخصيّة التي فعلاً أستمع إليها، وأنصت لها، وأحترمها بالفعل، ومعجب بها، فهي شخصيَّة السيّد محمد حسين فضل الله".
فعلاً، عندما كنت أتابع حركة عينيه، كنت أقرأ فيهما الهمَّ الإنسانيّ والوجوديّ، والقلق المعرفي المتوخّي لاكتشاف الحقائق. لقد عاش إنساناً مشاغباً يحترم عقله ومشاعره، ومات محبّاً للإنسان والحياة، وعاشقاً لعليّ(ع).
*إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.