مراسل حربي يروي قصص بطولات خبراء المتفجرات في معركة عاشوراء




تتحرك قدماه ببطئ وتأن وهو يقترب من مفخخة زرعت على الطريق، وكأنه يعزف على اوتار من ريح وبدقة ومهارة عاليتين، عيناه عينا صقر تتلفت يمينا ويسارا، يغرس كفيه في التراب ويتنقل بين الاشجار يبحث عن صيد جديد، وبين لحظات ترقب واخرى تأمل، يصدر منه الايعاز:" ماكوشي امشو ".

هكذا يواصل "ابو زينب" ومن معه من فصيل معالجة المتفجرات في لواء علي الاكبر عليه السلام اعماله اليومية لتامين الطريق امام مجاهدي الحشد الشعبي، الذين يتشاركون في وحدة المصير وهو اما العيش بكرامة او الشهادة، في قاطع العمليات الذي يتم تامين مناطق جرف الصخر بعد معركة عاشوراء التي حققوا فيها نصرا لا يظاهى بثمن.

ابو زينب برفقته سبعة مقاتلين يتقدمون الحشد الشعبي في كل المعارك، ورغم اصاباته المتكررة ورعشة يديه يواصل تفكيك العبوات الى لحظة كتابة هذه الكلمات.

الوقفة الاولى

في منطقة "صنيديج" كانت لنا وقفة مع هذا البطل، الذي يقول:" عن اي تردد تتحدث ؟! وهل يتردد المرء في الذود عن الاسلام والعراق ؟ ".

سرنا سوية بين ادغال كانت في السابق ارض محرمة، امنها بنفسه يعرف كل خفاياها وزواياها، كانت يده اليسرى موسومة بحقنة "كانولة" ووجهه يميل الى الصفرة، وكان رفيقه فراس قد اخبرني انه خرج اليوم لتوه من المشفى، ومازال يتلقى العلاج وظهره ما زال يحمل شظايا.

وفي هذه الاثناء يطلب ابو زينب منا الابتعاد عنه، بعد ان وصلنا الى منزل قال عنه انه مفخخ، وكأنه يشم رائحة الموت من بعيد، ومرت لحظات ترقب منا، رفع بعدها يده قائلا انتهى الموضوع، كان المنزل مفخخا بمادتي الـ(C4) والـ(TNT)، في تلك اللحظات شعرت كيف يحمل هذا الرجل روحه على كفة في موقف لا ينقسم احتمال نهايته على امرين.

ابو زينب يتحدث اليكم

فترة هدنة مع القلق، استثمرتها لاسمع منه، يروي ابو زينب صفحة من سجلات بطولاته:" كنا حضيرة او فصيل عسكري مكون من سبعة افراد من خبراء المتفجرات، كنا نلمس مدى خبث العدو، ولم تكن هنالك اية حسابات للانسانية،سلاحنا الوحيد هو الايمان بالقضية، دخلنا المعركة في اليوم الاول متسللين الى المناطق المسيطر عليها من قبل عصابات داعش الارهابية، وكان واجبنا اضافة لتفكيك العبوات وتأمين الطريق، هو الهجوم على عناصر داعش، وكذلك الاستطلاع وايصال المعلومات للقيادة".

ويتابع ابو زينب:" دخلنا بهمة الابطال امام فوج مالك الاشتر بمسافة ما يقارب الـ(20 - 25)مترا، وبدأنا بتفكيك بعض العبوات، شعر بنا الاعداء، وبدأوا باطلاق النار علينا من خلال قناصة كمنوا خلف الاشجار، وسقط بيننا الشهيد الحاج محمد اتجهت اليه لحمله وهو في رمقه الاخير فقال لي (اني مابيه شي كمل طريقك)، كنت اعلم انه سيفارق الحياة لانه اصيب في مقتل ".

مواقف حرجة

وبعد لحظات من الذكريات بين الشجون والالم من فراق الاحبة،عاود ابو زينب حديثه:" لم يثنِ ذلك الاخوة معي، واصلنا المسير والتقدم والرد على الاعداء من قبل قواتنا، وهنا يأتي نداء، شعرت منه بالحرج الكبير (توجه الى الاخوة في الكتائب فقد وقعوا في حقل الغام)، سارعت الخطى نحوهم، وكانوا قرب ناحية جرف الصخر، وما أن بدات بتفكيك العبوات/ حتى جاءني نداء اخر (توجه الى امر فوج الاشتر "علي كريم" كونه جلس مصادفة على عبوة ناسفة وبشكل مباشر)، وبين حيرة بين الندائين، شعرت بقيمة الوقت للاثنين، فاخترت اقربهم، ونفذت الامر الاول وباسرع ما يمكن، ومن ثم توجهت الى امر فوج الاشتر لاجده لايقوى على الوقوف على رجليه من صعوبة الموقف وطول الانتظار دون حركة، وانتهى الامر به ان يقوم بسلام وامان ".

الاصابة الاولى

لم تنته القصة عند هذا المشهد، اذ يقلب ابو زينب صفحات ذكرياته، ليقص علينا احداثا كانت اشد قسوة عليه، فيقول:" في اليوم الثاني بدأنا بدخول مقر ناحية جرف الصخر، ولا اخفيك كانت مدينة مفخخة بالكامل، بل ان هناك دهاء شيطاني في نصب فخاخ العبوات، منها عبوات مزدوجة، ترفع الاولى لتجد تحتها عبوة ثانية، واخرى وضعت تحت كرسي للجلوس، وثانية تحت الابواب، وتحت اعلام داعش، والابنية والشوارع كلها مفخخة ".

ويضيف:" الناحية كانت عبارة عن عبوات متناثرة، ورغم هذا لم اصب بواحدة منها لكنني اصبت بطلقة قناص في كتفي (وهنا يبتسم ابو زينب) لم يستطع الاطباء اخراجها الى الان لتبقى ذكرى، وعندما اصبت طلب مني امر اللواء قاسم مصلح العودة الى المقر، ورفضت ذلك، وواصلت القتال، بعد محاولات تضميد الجراحات التي باءت بالفشل وانا افكك سيارتين مفخختين نوع همر واخرتين نوع كيا وسيارات اخرى من نوع تويوتا لافتح الطريق امام المجاهدين، وهنا تسبب اندفاع احد الشباب في تفجير بين فصيلنا، اذ قام برفع العلم الداعشي، الذي وضعت تحته عبوة ناسفة، ما احدث انفجارا كبيرا في شعبة الزراعة، اصيب فيه زميلنا (علي عطا) الذي اوصاني (اسمع ابو زينب ما اريد شي اسمه دولة الخلافة مدري شنو)، كان يقصد الدواعش، نقلته الاسعاف وكانت جراحه بليغة، ثم واصلنا تفكيك العبوات والتي كانت باعداد كبيرة اكثر من (700) عبوة ".

اصابة ثانية

ويروي ابو زينب حادث اصابته الثانية، ويقول:" الاصابة الثانية لي عندما دخلنا الى شعبة الزراعة وفككنا عددا من العبوات فيها، هنا اصابنا الارهاق والتعب، وفي غفلة عن الفعل الشيطاني للارهابيين، جلس احد الاخوان من تعبه على احد الكراسي، وكانت تحته عبوة ناسفة، ما ادى الى انفجار شديد، ادى الى اصابتي في ظهري بشظايا عديدة وبتر ساق زميلي كرار واصيب سلام زميلنا الثالث".

كرار يعاتب ساقيه

يضف ابو زينب حال زميله كرار عندما بترت ساقيه، ويقول:" لا انسى ابدا كلام كرار وهو ينظر الى رجليه مقطوعتين ويتحدث معهن ويضرب عليهما قائلا (هسه وكتهه موكتلجن اريدج ادري موعدنه حرب " والتفت الي ليوصيني بالاستمرار، كنت حينها غارقا بالدماء، لكنني كنت مصرا على الاستمرار، فانا اعرف معنى غياب الجهد الهندسي، لكن المقاتلين نفذوا امر اخلائي من ارض المعركة، كنت متهسترا لدرجة اني صرخت بوجههم وقلت اتركوني ولا احد يقترب مني والا ارميه بمسدسي، وما هي لحظات الا واخذتني سيارة الاسعاف الى المستشفى".

انتهت استراحة المحارب

ويختم ابو زينب:" بعد ثلاثة ايام ها انا ذا اواصل عملي في تفكيك العبوات وانا فخور بمن كان معي وبمن قاتل وبالنصر وبحبي للعراق ولآل النبي صلى الله عليهم جميعا وساواصل مع من تطوع الى هذا الصنف الذي لا يقبل الخطأ مرة واحدة لتلبية نداء المرجعية".

هذه كانت احدى صفحات البطولة من المعارك التي يخوضها ابطال العراق مع عصابات داعش ولربما كانت قطرة من ماء بحر، لما يحمله هؤلاء المجاهدون من عزيمة واصرار على تحرير اراضي العراق، وحماية امنه ومقدساته بصون شعبه وعرض اهله.