بغداد/المسلة:يتهيّأ الشاب أمير فائز العتبي (20 عاماً) من محافظة بابل (100 كم جنوب بغداد) كلّ عام للمشاركة في احتفاليّة الأربعينيّة الدينيّة، ليعرض خدماته على حجّاج مدينة كربلاء المقدّسة من المسلمين الشيعة في العالم، الذين يقطعون عشرات الكيلومترات من المدن المختلفة سيراً على الأقدام.
ولأنّ العتبي يقطن في منطقة بابل التي تمثّل محطّة وسطيّة مهمّة للمشاركين في مراسم الأربعينيّة، من مختلف مناطق العراق، فإنّه يتعامل مع المئات من الزائرين، الذي يمرّون أمام سرادق ومواكب العزاء التي أقامها ابناء المحافظات المجاورة لمدينة بابل.
ومنذ الصباح الباكر، يستيقظ فائز ليقدّم أكواب الشاي إلى المسافرين، وقد أشار لـ"المونيتور" في بابل في 2 كانون الأوّل/ديسمبر، إلى أنّ "الغالبيّة العظمى من شباب المدينة يتفرّغون في هذا الشهر من كلّ عام، لإكمال الاستعدادات لنصب السرادق والمواكب التي توفّر المبيت والطعام والشراب والخدمات الطبيّة للزائرين".
والسردق أو الموكب، هو محلّ إقامة وسكن موقّت، مصمّم لكي يركّب بسرعة كبيرة، وفي نهاية الاحتفال تفكّك أجزاؤه، ويحتفظ بها للعام المقبل، وتتيح مساحته المناسبة، تناول الطعام والشراب والحصول على المساعدات الضروريّة، من قبل الراجلين في طريقهم إلى مدينة كربلاء المقدّسة حيث يقطعون عشرات الكيلومترات".
وافترش الأرض إلى جانب الموكب الذي تطوّع فيه العتبي للخدمة، أبو علي ( 86 سنة)، قطع مسافة 30 كيلومتراً في طريقه إلى مدينة كربلاء، وقد أكّد لـ"المونيتور" في بابل في 2 كانون الاوّل/ديسمبر، أنّه "دأب على هذه المسيرة الدينيّة السنويّة منذ عشرات السنين".
وجرت العادة أنّ أهالي العراق يتهيّأون كلّ عام قبل نحو الشهر من المناسبة، لإكمال كلّ ما من شأنه إنجاح هذه الاحتفاليّة الأربعينيّة التي تخلّد ذكرى مرور أربعين يوماً على مقتل سبط النبيّ محمّد، الحسين بن علي.
وهي تقليد دينيّ دأب عليه المسلمون الشيعة الذي يستذكرون الميت ويزورون قبره بعد مرور 40 يوماً على وفاته.
وأشار المتطوّع في الخدمة الدينيّة فلاح الخفاجي لـ"المونيتور" في بابل في 2 كانون الأوّل/ديسمبر، إلى أنّ "المناسبات الدينيّة تجاوزت كونها ظاهرة دينيّة لأغراض العبادة والتعبير عن احترام الرموز المقدّسة، إلى تقليد اجتماعيّ يمتزج فيه المقدّس بالتراث الشعبيّ".
وتابع قائلاً: "تتسابق الأسر والعشائر على إبراز اسمها في المواكب الدينيّة، وامتزجت الأسماء الدينيّة بأسماء العشائر، وتبرز كلّ عشيرة اسمها في شكل يافطات وأعلام".
ويبرز الأكاديميّ والمدير السابق لفضائيّة النجف علي المؤمن في حديثه لـ"المونيتور" في النجف في 2 كانون الأوّل/ديسمبر، هذا البعد الاجتماعيّ للمناسبة الدينيّة، فيقول إنّ هذه "الفعاليّة الدينيّة تعدّ أكبر مسيرة راجلة يعرفها العالم، إذ أنّ عدد المشاركين فيها يتجاوز الـ15 مليون شخص، بما يقارب ثلث سكّان العراق".
ويقول: "الملفت في هذا الحشد الإنسانيّ، أنّ كلّ فئات المجتمع تشارك فيه، وعلى الرغم من طابعه الدينيّ، إلّا أنّ غير المتديّنين يشاركون فيه أيضاً، كما يستقطب الأميّين، وأصحاب المستوى الأكاديميّ الرفيع على حدّ سواء، مثلما يشارك فيه الناس البسطاء وزعماء البلاد".
وفي خلال المسير مع أفواج الزائرين، يعترض مسيرك القائمون على هذه المواكب، الذين يسمّون أنفسهم بـ"خدّام الحسين"، يعرضون عليك خدماتهم المجانيّة، من طعام وشراب ومبيت.
ويقول سعيد عبد الحسين (50 عاماً) للمونيتور الذي قطع مسافة 200 كيلومتر من مدينة السماوة (270 كم جنوب بغداد)، حتّى وصوله إلى أطراف مدينة الحلّة مركز محافظة بابل، إنّه "لم يشعر طيلة المسير الذي استمرّ أيّام عدّة بأيّ تعب أو حاجة، بسبب احتشاد المواكب التي تقدّم الخدمات على طول الطريق".
وأبرز كريم علابي وهو عضو مجلس بلديّ في مدينة الحمزة الغربيّ (20 كم جنوب بابل)، وصاحب مأتم حسيني، وهو الاسم الآخر للموكب الدينيّ، يحمل اسم "غريب طوس"، صور شهداء من الجيش العراقيّ، في الموكب الذي شيّده على الطريق إلى مدينة كربلاء، ممّا يشير إلى تأثيرات هذه الحرب على المناسبة الدينيّة.
ويقول الحاج أمين حسن في حديثه إلى "المونيتور" في 2 كانون الأوّل/ديسمبر في بابل، وهو راعي لموكب دينيّ أيضاً، إنّ هزيمة تنظيم "الدولة الإسلاميّة" في منطقة جرف الصخر لم تحدث لولا "بركات" الإمام الحسين. وأضاف: "هذه هي كرامات الإمام".
وإحدى تلك الكرامات أو المعجزات التي يتحدّث عنها حسن هي أنّ "رجلاً كان يعاني من التهاب المفاصل زار موكبه العام الماضي، وهذا العام شفي تماماً بعدما زاره طيف في الليل ومسح على جسده".
كما أنّ من العراقيّين من يحرص على إبراز هذه المعجزات، عبر وسائل الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعيّ. فقد نشر أبو محمّد العامري في ردّه على المشكّكين بكرامات الإمام مقطع فيديو لأحد الراجلين إلى كربلاء، غير القادرين على النطق، لكنّه أثناء مسيره، انحلّت عقدة لسانه حين شعر بشيء غريب يخرج من زلعومه، كان يمنعه من الكلام، فيما شرع أخاه الأكبر في البكاء والدعاء، وشكر الإمام الحسين على ذلك.
وأكّد العامري في اتّصال لـ"المونيتور" معه عبر حسابه على "فايسبوك" في 2 كانون الأوّل/ ديسمبر أنّه "التقط مقطع الفيديو بنفسه لكي يبرهن للتكفيريّين كرامة من كرامات الحسين، وقد رآها بعينيه".
وقال الكاتب والرئيس السابق لمجلس أمناء شبكة الإعلام العراقيّ حسن السيّد سلمان لـ"المونيتور" في 2 كانون الأوّل/ديسمبر في بغداد إنّ "زيارة الأربعين لها عمق تاريخيّ ووجدانيّ ودينيّ، خصوصاً عند الشيعة، كما أصبح لها بعدّ سياسيّ واضح".
وأضاف: "يشارك حتّى في هذه الظاهرة الإنسانيّة المرضى والمعوقون، أملاً بالشفاء وتحدّياً للألم، وترجيّاً للتقرّب من الله، مصحوبة بقصص وأحداث تشجّع الناس عليها بقوّة".
ومهما كانت المواقف المتناقضة حول هذه الاحتفاليّة الناجمة عن اختلاف العقائد الدينيّة، فإنّ الجميع يتّفق على أنّها مظاهرة جماهيريّة كبرى يندفع الناس فيها بقوّة روحيّة هائلة، لمساعدة بعضهم البعض، والشعور بالإيمان الجماعيّ، الذي يشعرهم بالقوّة والأمان.