محطة أخيرة

ساطع نور الدين

خروج المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني من العراق، للمرة الاولى منذ نصف قرن، يعادل انقلابا سياسيا مدويا، برغم انه قد لا يستمر سوى بضعة اسابيع، هي الفترة الضرورية لجراحة القلب والنقاهة.. وحسم الوضع في النجف والعتبات المقدسة.
لم يكن قرار السيستاني بالسفر الى لندن للعلاج عابرا او عفويا. سبقته بالتأكيد تأملات واستخارات طويلة، لم تحتكم كلها لنتائج الفحوص الطبية، ولم تخضع للاعتبارات الصحية، التي لم يكن هناك ما يوحي بأنها طارئة او مستعجلة، ربما كان العكس هو الصحيح، بدليل التوقف في مطار بيروت، والمشي الى صالون الشرف، والاجتماع الطويل نسبيا مع رئيس مجلس النواب نبيه بري.
لم يكن ثمة ما يشير الى ان المرجع الشيعي في وضع صحي حرج او دقيق. لكنه حتما خرج من العراق لان حياته ومكانته اصبحتا في خطر شديد، لم يسبق له مثيل منذ ان غادر ايران في خمسينات القرن الماضي للدراسة والاقامة بالقرب من العتبات المقدسة، حيث عايش حقبة الانقلابات والاضطرابات والحروب العراقية الكبرى، من دون ان يغير مواقفه واراءه وفتاواه، ومن دون ان يبدل اعتراضه على ولاية الفقيه حتى عندما كانت الثورة في ايران ثم الحرب مع العراق.. ومن دون ان يتدخل في السياسة، او يجتهد في تفاصيلها العراقية او الايرانية خاصة.
لكن السيستاني وجد نفسه مضطرا الى الدخول في هذه التفاصيل اثر الغزو الاميركي للعراق، لان المرجعية كانت تعاني من فراغ. وكان الجمهور الشيعي العراقي يتوسل الفتوى في طريقة التعامل مع الغزاة لدى تقدمهم من المدن والبلدات والعتبات الشيعية. فكان حكمه الاول الشهير الذي لم يلتزم به كثيرون: اذا اضطررتم للتعامل مع المحتلين لا تبتسموا في وجوههم واسألوهم عن موعد رحيلهم عن العراق!
وبدافع الاحساس بالفراغ، تم اللجوء إليه ايضا لدى تشكيل مؤسسات الحكم وكتابة الدستور المؤقت، فكان رد المرجع الايراني الاصل، دوما الدفع في اتجاه الاحتكام الى ارادة الشعب العراقي بالانتخابات العامة، التي حدد موعدها بناء لإلحاحه وتوصيته في كانون الثاني العام المقبل.. وهي تمثل الاختبار الاهم لمشروع المحتل الاميركي ولارادة السيستاني وموقعه ونفوذه، برغم ان احدا لا يتوقع الالتزام بموعدها!
قد يكون خروج السيستاني من العراق اليوم ناجما عن هذا التقدير اساسا، كما هو ناتج عن الاحساس بتعثر التحضير للمؤتمر الوطني العراقي الذي كان يفترض ان ينعقد في نهاية الشهر الماضي وان يشكل مجلسا او برلمانا وطنيا يراقب ويحاسب الحكومة الحالية التي خلفها الاحتلال في أعقاب تخليه الصوري عن السلطة والسيادة في 28 حزيران الماضي.
ربما ساهمت الاشتباكات الحالية بين تيار مقتدى الصدر وبين الاحتلال الاميركي في تسريع رحيل السيستاني المدوي عن العراق، كتعبير مزدوج عن الاعتراض على سلوك الجانبين.. برغم انه كانت هناك بدائل كثيرة للندن، بينها بيروت بالذات!