حوار مع:الدّكتور محمد باقر فضل الله
حاوره:بتول بزي/ موقع مختار
التاريخ:٤/٧/٢٠١٥/17 رمضان 1436هـ

عندما يُقبل تمّوز من كلّ عام، يفتقد الأيتام أباهم الأوَّل الّذي انتشلهم من مآزق الحياة منذ الصِّغر، وأسكنهم بيته الّذي بناه مؤسّساتٍ رعائيّة، مثلها كمثل شجرةٍ طيِّبة أصلها ثابت وفرعها في السَّماء.
غرست يد العلامة المرجع السيِّد محمّد حسين فضل الله أولى بذور شجرة الخير في العام 1977م/ 1396هـ، في أديم وطنٍ حصدت أيادي الشرّ أرواح سكانه، وفتَّتت معالم أحجاره، فكانت جمعيَّة المبرات الخيريَّة.
بهدى فكر مؤسّسها، انطلقت مسيرة المبرّات، سعياً لتلبية حاجات المجتمع إلى الرّعاية والتربية والتَّعليم، فكانت رعاية الأيتام واحتضانهم أولويَّةً كبرى في عمل المبرّات، ومن ثمّ تطوَّرت لتشمل المهمَّشين والمسنِّين وذوي الاحتياجات الخاصَّة.
انطلاقة المسيرة
كان المرجع الرّاحل فضل الله يحمل فكراً إسلاميّاً متعدّداً في مجالات الفقه والشَّريعة والاجتماع، حيث يعتبر أنَّ الإسلام جاء لخدمة النّاس لا ليخدمه النّاس. السيّد محمد باقر فضل الله، مدير عام جمعيَّة المبرّات الخيريّة، يشير في مقابلةٍ خاصّة مع "مختار"، إلى أنَّ "المرجع فضل الله بدأ بالتَّفكير في العمل الاجتماعيّ داخل لبنان من منطقة النّبعة، الَّتي كانت أكثر المناطق استضعافاً في بيروت، فأنشأ "أسرة التآخي الخيريّة" للاهتمام بالجانب الصّحّي للنّاس".
وبعد بداية الحرب اللّبنانيَّة، رأى السيِّد الرَّاحل فضل الله ضرورة إنشاء مبرّةٍ ترعى الأيتام الَّذين أفرزتهم الحرب، فأسَّس مبرّة الإمام الخوئي في خلدة في العام 1977، حيث يؤكِّد فضل الله أنَّ "مسيرة المبرّات انطلقت لكي يعيش اليتيم حياةً كريمة، وأن يكون إنساناً تُحترم إنسانيَّته"، مشيراً إلى أنَّ المرجع فضل الله حمل آيات الله في عمله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، ولطالما كرَّر كلمات الرَّسول الأكرم(ص) والإمام عليّ(ع): "الله الله في الأيتام". واليوم، تضمّ المبرّات 9 دور للأيتام، تحتضن 4000 يتيم ويتيمة.
في الوقت عينه، وانطلاقاً من الشّعور بالمسؤوليَّة الاجتماعيَّة، نتيجةً لما سبَّبته الحرب اللّبنانيّة الأهليّة من تدنّ في المستوى التعليميّ، ينقل فضل الله "اهتمام السيِّد الرّاحل بالتّعليم، فكانت مدارس المبرّات الّتي بدأت في العام 1988، حتى توسَّعت على الكثير من الأراضي اللّبنانيَّة"، مشيراً إلى أنّها أضحت "من أكبر المدارس الإسلاميَّة الَّتي تضمّ 22 ألف طالب، يقسَّمون بين 15 مدرسة أكاديميّة و6 معاهد مهنيَّة".
حقّ المعوَّق في التعلّم
آمن المرجع الرَّاحل فضل الله بالطّفل المعوَّق، فعمل على تأهيله وتربيته، ليشعر بإنسانيَّته، وينطلق في المجتمع إنساناً فاعلاً ومتفاعلاً.
يقول السيّد محمّد باقر فضل الله إنَّه "في العام 1986، أتى إلى السيِّد الرَّاحل مجموعة من المكفوفين بعدما ضاقت بهم السّبل، ولم يعد هناك مؤسَّسات تعتني بهم في المنطقة الّتي كانت تعرف بالغربيَّة في بيروت، وكان له اهتمام خاصّ بهذه الشَّريحة، فبنيت مؤسَّسة الإمام الهادي، الّتي ضمَّت مدرسةً للإعاقة السّمعيَّة والبصريَّة، وأخرى تهتمّ باضطرابات اللّغة والتَّواصل، تحتضن 600 معوَّق"، مؤكّداً أنَّ "العلاّمة فضل الله شجَّعنا على التَّواصل مع المؤسَّسات الغربيّة الأخرى، فكان هناك تعاون مع المركز الثّقافي البريطانيّ، حتّى أضحت مؤسَّسة الهادي بشهادة بعض المنظَّمات الدّوليَّة، من المؤسَّسات الأفضل في منطقة الشَّرق الأوسط، وليس فقط في لبنان".
وبدأت تظهر في لبنان في السّنوات الأخيرة بشكلٍ واسعٍ، حالات أشخاصٍ من ذوي الصّعوبات التعلميَّة، وهم الأطفال الَّذين لا تتناسب أعمارهم مع المستوى التَّعليميّ الموجودين فيه. ويؤكِّد فضل الله أنَّ "الجمعيَّة بدأت العمل على موضوع الصّعوبات التعلّميَّة، على الرّغم من أنّه مكلف على الصّعيد المادّي، وأصبحت معظم مؤسَّساتنا تضمّ هؤلاء التّلاميذ، الّذي وصل عددهم إلى 1200 تلميذ"، موضحاً أنَّ "هذه المجالات التي توسَّعت فيها جمعيّة المبرّات الخيريّة، كانت من الاهتمامات الّتي أكَّدها سماحة السيِّد الرّاحل، إذ علينا تلبية الحاجات الّتي يحتاجها المجتمع ولا يقوم بها غيرنا".
للمسنِّ حياته اللائقة
لم يغب الجانب الصّحّيّ عن أولويّات المرجع فضل الله، ففي الفترة الأخيرة من حياته، اهتمَّ بالمسنّين، فأُنشئت دار نموذجيّة لرعاية المسنّين، وهي مركز السيِّدة الزّهراء الصّحّيّ الاجتماعيّ في العباسيّة في العام 2007. يقول السيّد محمّد باقر: "فهذا هو السيِّد، كما كان يفكّر عقائديّاً وفقهيّاً، كان يفكِّر في الحاجات المادّيّة للنّاس وحاجات التّربية للمجتمع الَّذي نعيش فيه".
المبرَّات مؤسَّسات رائدة
كان السيّد محمّد حسين فضل الله يقول: "إنّنا في حالة تنافس، ولسنا في حالة تحدٍّ مع المؤسَّسات"، ويؤكّد فضل الله أنَّ "جمعيّة المبرّات الخيريّة تميَّزت عن باقي المؤسَّسات الإسلاميَّة باتّباعها نظام الجودة ISO 1901"، لافتاً الانتباه إلى أنَّ "المبرّات سعت إلى التّطوير الإداريّ من خلال برنامجٍ شارك فيه العديد من الخبراء في الإدارة والتّربية، فأصبح هناك لغة إداريّة مشتركة تتناسب مع العصر والقيم الّتي تؤمن بها المبرّات في آن". ولا تزال المبرّات تسعى إلى التّميّز دائماً، حاملةً شعار السيِّد الرّاحل: "لا أريدكم أن تنجحوا، ولكن أريدكم أن تتفوَّقوا".
وبعد رحيل العلامة، يؤكِّد فضل الله أنَّ "المؤسِّس أرسى دعائم العمل من خلال فكره وممارسة هذا الفكر على أرض الواقع، وأراد للعمل أن يكون عملاً مؤسَّسيّاً، فبذلك لن يتأثَّر العمل بغياب المؤسِّس"، مشيراً إلى أنَّ "السيِّد بوصيَّته لمجلس الأمناء الَّذي شكّله لكي يحافظ على كلّ هذه المؤسَّسات، أوصى باحترام دعائم العمل المؤسَّسي الموجود في المبرّات، وأن يحافظوا على إسلاميَّة المؤسَّسات، لتبقى مؤسَّسات حضاريّة منفتحة".
"أنا وكافل اليتيم في الجنَّة"
جمعيَّة المبرّات الخيريَّة منفتحة على كلِّ النّاس، وكلّ المجتمع، وكلّ الجهات الّتي تقدِّم لمثيلاتها مساعدات، إذ يشير السيّد محمّد باقر فضل الله إلى أنَّ "الجمعيَّة تتلقَّى التبرّعات من الحقوق الشّرعيَّة وكفالات الأيتام من كلِّ النّاس الَّذين يتجاوبون معها، كما تتلقَّى المساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعيّة، ووزارة التربية والتّعليم، وبعض المساعدات العينيَّة والفنيَّة والتقنيَّة من بعض المؤسَّسات الأجنبيَّة"، مؤكِّداً أنّها "لم ترتهن في يوم من الأيّام لأيّ دولة، ولأيّ جهة سياسيّة، وهي واضحة في هذا المجال، فالجمعيَّة تقبل كلَّ المساعدات غير المشروطة، وما زالت كما أراد لها مؤسِّسها، أن تكون بعيدة من السّياسة".
العلاّمة الأخ والمربّي
كلَّما أتينا على ذكر العلامة فضل الله، أدمعت عينا شقيقه مستذكراً إيّاه، ليس فقط كعلاقة عاطفيّة بين الأخ وأخيه فحسب، بل يقول: "علاقتي بالمرجع علاقة الأبوَّة والصَّداقة، وعلاقة رفقة الطّريق والتربية، لأنَّني عشت معه ربع قرنٍ أعمل معه داخل المؤسَّسات، فكنت سنده في بناء المؤسَّسات الّتي أنشئت خطوةً بخطوة، وكنت معه تلميذاً أتعلّم منه وأتبعه اتّباع الفصيل أثر أمِّه".
ويضيف: "وكان العلاّمة قد شجَّعني على السَّفر إلى الخارج لإكمال دراساتي العلميَّة في فرنسا، حيث عملت هناك من خلال توجيهاته على تأسيس مكتبة أهل البيت لنشر الفكر الإسلاميّ الواعي في تلك البلاد على مدى تسع سنوات"، مشيراً إلى أنّه "كلَّما تمرّ الذّكرى السنويّة نفتقده؛ نفتقد هذه الرّوح الَّتي كنَّا نلجأ إليها عندما كانت تلمّ بنا الصّعوبات، ولكنَّنا، كما كان يقول، كنَّا نتخطَّاها من خلال إيماننا وإصرارنا على أن نقدِّم صورة الإسلام الواعي الحضاريّ المنفتح على كلِّ الأجيال القادمة".
37 عاماً من العمل الرّعائيّ في جمعيَّة المبرات الخيريّة، والعطاء يسابق الزَّمن، فالمبرّات في كلام مؤسِّسها فضل الله، "تمثِّل رسالةً في أن نعمل جميعاً من أجل أن نضع هذه الأجيال في الموقع المتقدِّم من المجتمع"، والمبرّات الآن مستمرَّة في عملها بمساعدة أيادي الخير، سعياً لحفظ الوطن وحماية إنسانه.