التكعيبية حركة ثورية في الفنون التشكيلية نشأت في مطلع القرن العشرين ردا على عالم اصبح يتطور بسرعة فائقة لم يسبق لها نظير. وضع اسسها بابلو بيكاسو وجورج براك بقصد استكشاف اشكال جديدة للتعبير عن الخبرات الوجدانية الذاتية وتفتيت هذه الخبرات والنظر اليها من زوايا متعددة. واعتبرت الحركة طريقة جديدة في فهم العالم واستيعاب المؤثرات الخارجية واستكشاف طبيعة الواقع بالنظر اليه بطرق غير تقليدية. وكان لهذه الحركة اثرها في الفنون الاخرى كالموسيقى والعمارة والادب من رواية وشعر مما خطه ادباء من امثال فيرجينيا وولف وجيمس جويس وغيرترود ستاين ووليام فوكنر. وقد استعمل هؤلاء عناصر تكعيبية في كتاباتهم لتوسيع المشهد الادبي واثرائه وتعميقه. وفي العمل التكعيبي يحلل الفنان الموضوع ويفتته ومن ثم يعيد تركيبه في شكل تجريدي. وبدلا من ان ينظر اليه من منظور واحد يصوره الفنان من العديد من الزوايا ويضعه في سياق اكبر.

وقد قسم الباحثون التكعيبية الى مرحلتين: المرحلة التحليلية (1907 -12) والمرحلة التركيبية (1913 الى العشرينيات من القرن العشرين). في المرحلة الاولى عمل الفنان على استكشاف موضوعاته كما يراها بعقله لا بعينه. وفي المرحلة الثانية غدت الاعمال اكثر بساطة وغلبت عليها الالوان الاكثر اشراقا.

وقد استلهم الادب التكعيبي العلوم الاجتماعية وخاصة نظريات سيغموند فرويد في التركيز على الخبرات النفسية بدل التركيز على العالم المادي الخارجي. وبالتالي اصبح العقل الباطن والتجريد الابداعي اكثر اهمية في الادب الحداثي من المشاهد الموضوعية ذات البعد الواحد كما كان عليه الحال في الادب الفيكتوري. وهكذا فقد دخل جيمس جويس في روايته (صورة الفنان في شبابه) في اعماق البطل ستيفن ديدالوس واكتشف حياته النفسية بكل تنوعاتها وتعقيداتها.

واذا كان الادب في السابق يسعى الى تقديم مادته بمنطق تقليدي راح الكاتب الحداثي يصور الفكر في مراحل تشكله بكل ما في ذلك من غموض وعشوائية وفوضى. وقد اطلق على هذا الاسلوب في ما بعد اسم تيار الوعي. ومن رواد هذا الاسلوب فيرجينيا وولف في روايتها (مسز دولاواي) التي رصدت فيها الافكار والمشاعر المتلاطمة للعديد من الشخصيات – مثال ذلك سيبتيموس الذي دمرته الحرب ودفعت به الى حافة الجنون.

واذا نظرنا الى الكثير من لوحات بيكاسو نجد انه يقدم موضوعاته في عدة مستويات ومن منظور متعدد. واستعمل الادباء الحداثيون هذا الاسلوب بنجاح كبير ليبينوا كيف ان الواقع الروائي يتغير بتغير المنظور الذاتي للشخصيات المختلفة. وقد برع في ذلك بشكل خاص وليام فوكنر في روايته (فيما انا ارقد لأموت) التي يصور فيها وفاة أدي بندرين من وجهات نظر العديد من الشخصيات الاخرى. وتنظر كل شخصية الى الوفاة بشكل مختلف، ولها موقف مختلف منها وتستعمل لغة مختلفة في سرد الحدث. وكما يفعل بيكاسو في لوحاته ابتكر فوكنر صورا مدهشة تكشف عن الذاتي والنسبي في قلب الخبرة الانسانية.

وتثير التقنيات التكعيبية في الفنون التشكيلية الذعر بتصويرها الخبرات الانسانية بشكل مفتت ومن زوايا متعددة. وباستعمال هذه التقنيات يقدم لنا الكاتب الحداثي صورا ممزقة لاشخاصه ولما يمرون به من خبرات. واتاحت هذه التقنيات للكاتب ان يستكشف مشاعر اليأس والوحدة والاستلاب والجنون باسلوب يشبه اسلوب لوحة تكعيبية متعددة الطبقات والزوايا.


[email protected]