[align=center]الدراسة الخامسة: فلسفة التأريخ من خلال كتابات الامام الصدر ونقد نهاية التأريخ[/align]


[align=center]المـدخـل[/align]


إنّ التحولات التي يشاهدها العالم الاسلامي منذ عصر الاصلاح (السيد جمال الدين الحسيني الافغاني) وما تلاه من استعمار وتحرر من الاستعمار ومحاولات للخروج من التخلف. كلّ هذه العوامل حتمت اللجوء الى التّاريخ من طرف المفكرين في العالم الاسلامي بكل اتجاهاتهم (الاتجاه الإسلامي والاتجاه المحدث)(1). وقد كان هذا اللجوء الى التأريخ، وما يزال إما لتبرير مواقف مسبقة من تاريخ الأمة الإسلامية أو لتأسيس الرؤية السياسية والحضارية على أسس متينة. أي على خلفية تعتمد على رؤية فلسفية وعلمية الى التأريخ.

_______________________________

1- الاتجاه الاسلامي موقفه من القرآن والسنة الشريفة موقف تعبدي، هذا الاتجاه ينظر إلى الاسلام كدين ودولة. أما الاتجاه المحدث فينقسم إلى تيارين: التيار الأول يؤمن بالاسلام كدين سماوي، ولكنه يفصل بين الدين والسياسة على الطريقة الغربية. وتيار آخر ينظر إلى الاسلام مجرد ظاهرة تاريخية واجتماعية.

[align=center][205][/align]

وعلى العموم، فالفكر الاسلامي المعاصر لم يستطع الى حد الآن صياغة منظومة فكرية تصل الى مستوى النظرية أو المذهب(1) في المجال الاجتماعي على العموم وفي مجال فلسفة التأريخ على وجه الخصوص، فأكثر المساهمات تتصف بالاندفاع والمواقف العاطفية، التي تعبر عن عجز الفكر الاسلامي المعاصر للوصول الى صياغة جهاز مفاهيمي. وتعتبر كتابات السيد محمد باقر الصدر مواقع فكرية جد متقدمة في مجال التنظير والنظرة المستقبلية.

فالسيد محمد باقر الصدر قد ترك نسقاً فكرياً يحتوي على مذهب اقتصادي وسياسي، يرتكز على رؤية فلسفية الى التأريخ على اعتبار أن كل مذهب اجتماعي إلا ويتطلع الى تحقيق أهداف أو مشروع في المستقبل. وهذا ما يجعل فلسفة التأريخ بعداً ضرورياً وجوهرياً بالنسبة لكل مشروع حضاري.

وقد حاول الشهيد الصدر أن يحرّر تاريخ الأمة من التسأولات المتسرعة التي يتميز بها الاتجاه المحدث في العالم الاسلامي. وهي تأويلات تُخضع التأريخ الى افكار مسبقة لتطبيق النموذج الحضاري الغربي عن طريق اللجوء الى نماذج التنمية الاشتراكية أو الرأسمالية، ولتبرير الدول القومية في العالم الاسلامي(2).

حاول السيد الصدر أن يحرر التأريخ من هذه المقاربات الذاتية، فاعتمد على تحليل الحقل النظري(3)الذي انتج النموذج الحضاري الغربي، ليستنتج عدم صلاحيته لأن يكون نموذجاً كونياً. اعتمد الصدر في نقده هذا على التأريخ، فقارن بين تاريخ الغرب وتاريخ الأمة الإسلامية، ليبين بأن مسار حركة تاريخ كل شعب هو مسار خاضع لعوامل اجتماعية واقتصادية وقيمية ودينية تختلف من مجتمع الى مجتمع(4).

لا شك أنّ السيد الصدر لم يفرد مؤلفاً خاصاً بفلسفة التأريخ، وهذا راجع الى عوامل منها:

1 ـ عامل مرتبط بمسألة الأولويات، حيث إنّ الصدر لم يكن يهتم بالمجال النظري المجرّد فحسب. بل يعالج قضايا كانت، وما تزال، تطرح على الفكر الاسلامي وعلى الحركات الإسلامية يومياً وفي الواقع الحي.

2 ـ العامل الثاني عامل ابستمولوجي(5): الرؤية الإسلامية الى القضايا رؤية شمولية يتداخل فيها

_______________________________

1- حدد الصدر مفهوم المذهب ومفهوم النظرية في كتابه اقتصادنا. دار الفكر، بيروت ـ 1974م ـ المقدمة وكذلك ص 341 إلى ص 347.

2- الأنظمة السياسية في العالم الاسلامي حاولت تغطية الاشتراكية وكذلك الرأسمالية بالاسلام من موقع التلفيق لا الاجتهاد ـ مقدمة اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر.

3- مفهوم الحقل النظري هذه العبارة لم يستخدمها الصدر ولكن استخدم معناها.

الحقل النظري مفهوم يدل على الشروط التأريخية والاجتماعية والثقافية المنتجة لنظرية اجتماعية أو مذهب اجتماعي كالرأسمالية أو الاشتراكية وغيرهما.

4- نفس المفهوم.

5- الابستمولوجيا معناها الدراسة لظهور النظريات الاجتماعية. وعلى العموم فالدراسة الابستمولوجية تأتي نتيجة لدراسة تجمع بين نظرية المعرفة، تأريخ العلوم، المنهج، فلسفة العلوم وعلم اجتماع المعرفة.


[align=center][206][/align]

الجانب المعرفي مع الجوانب الأخرى الاجتماعية والسياسية والميتافيزيقية(1). وهذا ما يتجلّى بوضوح في كتابات الصدر حيث إنّ فلسفة التأريخ تعد في كثير من جوانب كتاباته العمود الفقري لأفكاره. فهي توجد بصورة صريحة أو ضمنية في صياغاته للفكر الاقتصادي الاسلامي وللفكر السياسي، كما توجد في كتاباته التي تبدو في الظاهر لا علاقة لها بفلسفة التأريخ كأصول الفقه والعبادات(2).

[align=center]استنطاق التأريخ وفلسفته[/align]

لقد استنطق الصدر التأريخ وحلله في كل كتاباته. وقد كان هذا التحليل يسعى الى الوصول الى الكشف عن عوامل النهضة والانحطاط. وكان يسعى الى الكشف عن الأرضية، التي جعلت المسلمين يشيدون حضارة رائدة.

إن هذه المقاربة للتاريخ ليست من نوع الدراسات التمجيدية، بل هي مقاربة هدفها تمييز عناصر القوة من عناصر الضعف في تاريخ الأمة. أي التمييز بين الإمامة والملك، بين الخط الرسالي والخط المنحرف.

فالصدر طرح مشكلة فلسفة التأريخ بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي أنه تناول المعرفة التأريخية كموضوع بالتحليل والنقد، كما تناول حركة المجتمعات البشرية عبر الزمان كتجربة، وبغية الوصول الى معنى هذه الحركة وقيمتها(3).

لقد كان الصدر يرى بأن وضع القضايا المطروحة على العالم الاسلامي في اطار الرؤية الفلسفية للتاريخ سيحرر الفكر الاسلامي من انتظار الخلاص من لدن المستبد العادل(4). أو انتظار الخلاص من الفكر الغربي الجاهز. فهذا النوع من الانتظار هو النتيجة الحتمية للتفكير السطحي الناجم عن النظرة التجزيئية للقضايا، والذي لا يمكن التحرر منه إلا بالنظرة الشمولية الملازمة للرؤية الفلسفية للتاريخ.

إنّ الوعى بضرورة فلسفة التأريخ لتنظير وتجسيد مشروع حضاري سوف يصبح أطروحة مثيرة للابتكار، إذا تأسس على محاولة الاستقلال الفكري ومراجعة التصورات السائدة عن الحضارة الإسلامية. وهي مراجعة تحتاج الى جرأة فكرية واجتهادية يحرران الفكر الاسلامي المعاصر من المواقف المريحة، التي تدعي أن كل شي جاهز من ماضينا أو من حاضر الثقافة الغربية.

فالرؤية الفلسفية للتاريخ من حيث هي رؤية نقدية مرتبطة بالمراجعات المستمرة، التي تتطلبها تطورات

_______________________________

1- لتحليل هذه الفكرة اُنظر مجلة رسالة الاسلام باللغة الفرنسية مقالا لعمر أبو سلمان تحت عنوان: المعرفة والمجتمع. Le Message de l'islam

نشر وزارة الثقافة والارشاد ـ الجمهورية الاسلامية، طهران.

2- للاطلاع على الجانب الفلسفي انظر: السيد محمد باقر الصدر ـ المعالم الجديدة للأصول. دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1981م.

3- حلّل الصدر التأريخ كموضوع في كتابه التفسير الموضوعي. دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت 1981م.

4- فكرة المستبد العادل تدل على خضوع الفقهاء والمفكرين المسلمين للأمر الواقع. وقد استخدم الشيخ محمد عبدة هذه الفكرة التي تجمع بين المتناقضين: الاستبداد والعدل.


[align=center][207][/align]

المجتمع من جهة، ومكتسبات العلوم الانسانية من جهة أخرى. هذه المراجعات ضرورية لتصحيح المفاهيم وإدراك الواقع. فعقلانية المنهج وعقلانية العمل أو الممارسة عامل أساسي وضروري لتغيير الواقع المنحط وخوض الصراع الحضاري الذي يتسم به هذا العصر.

فالعقلانية التي لا تعتمد على فلسفة التأريخ هي عقلانية إما مجردة أو تجزيئية لا يمكن أن تكون أداة وسلاحاً للنهضة وللصراع الحضاري.

لا يمكن أن يحصل استيعاب للصراع الحضاري بكلّ امتداداته خارج فلسفة التأريخ. إنّ كلّ نقص في الرؤية التأريخية إلا وظهرت نتائجه كعجز حضاري يشكل عائقاً أمام تقدم الأمة الإسلامية.ذلك أنّ المجتمعات لا تتقدم بالاستقراءات السطحية للتاريخ أو بالنظرة التمجيدية له. ففي كلتا الحالتين يغيب الموقف النقدي، ويغيب التفسير الذي بفضله يبرز التصور الشامل للتأريخ ويعرف مسار التأريخ من جميع جوانبه.

[align=center]المرحلة الجديدة[/align]


لقد دخلت الشعوب الإسلامية منذ القرن التاسع عشر مرحلة تاريخية جديدة، وقد حاولت كلّ الاتجاهات الفكرية في العالم الاسلامي أن تحدّد هذه المرحلة الجديدة (خط السيد جمال الدين الحسيني الافغاني وخط المحدثين).

على الرغم من وجود بعض المحاولات لضبط رؤية (للجديد) ضمن صيرورة الأمة، إلا أنها كانت، وما تزال، محاولات في مراحلها الاولية والبسيطة. هذه المحاولات لم تُسْتَوْعَبْ في مستوى التحليل الفلسفي إلا نادراً. مثلا لم تُحَلَّلْ المرحلة التأريخية الجديدة على طريقة فلاسفة التأريخ في الغرب (المجتمع الصناعي والحالة الوضعية عند أوجست كونت (Auguste Conte) والمجتمع الرأسمالي ونظرية ماركس (Marx).

ففلاسفة التأريخ في الغرب كانوا يشاهدون نشوء مجتمع جديد: أوجست كونت، قد حدّد معالم لهذا المجتمع وكذلك فعل ماركس حيث إنّه ركز على العوامل الرئيسية ـ في نظره ـ لتطور المجتمع، وهكذا، ففلاسفة التأريخ في الغرب لم يتجاهلوا التغيرات التأريخية التي وقعت في ذلك العصر.

يمكن القول، في هذا السياق، بأنّ الشهيد الصدر كان واعياً بأنّ الواقع الجديد الذي تعيش فيه الأمة في العقود الاخيرة يحتم على الفكر الاسلامي المعاصر أن يعيد تحديد موقعه من الفكر المعاصر على العموم، ومن فلسفات التأريخ على الخصوص.

فاللجوء الى فلسفة التأريخ في صورتها الغربية (المفاهيم، الرؤى، الحقب التأريخية) مغامرة غير مأمونة، سوف تؤدي الى إعادة انتاج التخلف والانحطاط بشكل دائم.

ومن هنا يرى السيد الصدر أنّه لابد من ثورة على صعيد المفاهيم، لتوضيح اسباب التشويش المنهجي والمعرفي، الذي يتخبط فيه الفكر المحدث في العالم الاسلامي وكذلك بعض جوانب الفكر الاسلامي. وهذا لن يتم في نظر الصدر، دون موقف نقدي يفلسف عملية اللجوء الى التأريخ، ويبين علاقة الأمة بالتاريخ في خصوصيتها وكونيتها.

الصياغة الفلسفية لا السرد الحكائي

إنّ الصياغة الفلسفية للتاريخ تحرّر هذا الأخير من الطريقة السردية الحكائية(1)، التي لا تنظر الى

_______________________________

1- لم يعتمد الصدر في دراسته للتأريخ على الطريقة السردية، بل حلل التأريخ عن طريق أدوات علم الاجتماع.

[align=center][208][/align]

تقدم الشعوب وانحطاطها إلا من خلال الافراد ("الملوك" "الابطال "، "العظماء "...) فالتحليل الفلسفي للتاريخ يفتح الطريق للبحث عن العوامل والأسباب المؤثرة في سير التأريخ، وتتابع مراحله. فالفكر الاسلامي المعاصر لا يمكن أن يستمد القيم والمفاهيم من التأريخ لمعالجة الواقع المعقد الا عن طريق الرؤية الفلسفية للتاريخ. إنّ الطريقة السردية طريقة تجزيئية لا يمكن أن تكون معياراً لاتخاذ موقف من واقع القرن العشرين.

إنّ البحث عن معنى التأريخ لتحديد موقع الأمة ضمن الصيرورة التأريخية، وموقعها بالنسبة للقيم الملازمة لهويتها، إنّ هذا البحث لن يتحقق الا من خلال رؤية شمولية للتاريخ، رؤية تربط الجانب الاجتماعي بالجوانب الروحية والاقتصادية والثقافية والسياسية.

وهكذا لقد طرح الصدر الرؤية الإسلامية الى التأريخ كبديل لكلّ فلسفات التأريخ الغربية. وهي رؤية حاول الصدر أن يرسم في نطاقها معالم صيرورة الأمة من عصر الرسالة الى ظهور الامام المهدي الموعود عليه السلام، لذلك فان فلسفة التأريخ الإسلامية في شكلها العام ليست من قبيل فلسفات التأريخ الغربية، التي تأتي بها ظروف ثم تتجاوزها ظروف اُخرى. ففلسفة التأريخ الإسلامية كما صاغها الصدر تعتمد على اُسس اسلامية لا يمكن لمن كان مسلماً أن ينكرها مثل: الأمة وعلاقتها بخلود الرسالة الإسلامية، الفرق بين الرسالة والدورة الحضارية، وعد الله بنصر المؤمنين، انتصار الحق على الباطل...الخ(1).

أولا: الرؤية الإسلامية الى التأريخ وإشكالية مشروعيتها من الناحية الابستمولوجية.

__________________________

1- وهذا يعني أنّ نظرية المعرفة لها خصوصيتها في الرؤية الاسلامية.
[line]

1 ـ الايديولوجية والعقيدة وفلسفة التأريخ

2 ـ التعالي وأبعاده المعرفية

3 ـ منطقة الفراغ

1 ـ الدين ومعنى التأريخ

2 ـ التأريخانية والتعالي

3 ـ خلافة الانسان

أ ـ الخلافة والدولة

4 ـ الأمة

5 ـ النبوة والامامة

6 ـ الانتظـار

7 ـ التقـدم

8 ـ نهاية التأريخ