[align=center]

[glint]الفقيه والمثقف[/glint]


محمد حسين فضل الله

[/align]


للحديث عن «الفقيه» و «المثقف» دائرتان تتصلان بالخط الذي يتحرك فيه الفقيه الإسلامي في مسؤولياته الذاتية والرسالية.

الفقيه في الدائرة الذاتية والرسالية:

فهناك الدائرة الذاتية في علم الفقه، كاختصاص في مفردات الشرع الإسلامي في النطاق الفقهي، من خلال الدراسة المنهجية التي ترتكز على توثيق النص في سنده وألفاظه، وتحقيق المضمون في مدلوله وأبعاده، للوصول إلى مرحلة الاستنتاج في استخراج الحكم الشرعي من مصادره الموثوقة.

وهناك الدائرة الرسالية لامتداد الإسلام في حركة الإنسان في الواقع، من حيث هو منهج للحياة، وحلّ لمشاكلها، وانفتاح على آفاقها، ومواجهة لتحدياتها، من أجل تحقيق الصيغة المثلى، والأنموذج الذي يستطيع الوقوف بقوةٍ وصلابة أمام التيارات الأخرى في ساحة الصراع، على مستوى المفاهيم والوسائل والأساليب، بحيث يملك الموقف الحركي المتنوع الألوان والمتعدّد الأبعاد، فيكون الفقيه رسولاً مرحلياً في معنى الرسالة في دائرة الامتداد لحركية الرسول.

ففي الدائرة الأولى، قد يرى البعض أن ثقافة الفقيه تتمحور حول القواعد التي تحدّد الطريقة لفهم النص وتوثيقه في نطاق العلوم العربية أو علم الدراية والحديث والرجال، أو فقه القرآن، مع التركيز على علم المنطق الذي يحدد الجانب الشكلي للاستدلال، وعلم الأصول الذي يزوّده العلم بالقواعد الممهدة لتحديد الوظيفة العملية من خلال تحديد الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري، ليكون علم الفقه الذي يتابع مناهجه ومسائله ومفرداته هو نتاج ذلك كله.

فإذا تمّ له ذلك، كان قد أخذ العلم الفقهي من كل أطرافه من دون حاجةٍ إلى علوم أخرى – حتى أن التفسير القرآني لا يمثل حاجة له، خارج نطاق آيات الأحكام – لأنه ليس بحاجة إلى التخصص بالقرآن في هذه الدائرة لاتصاله بالمسألة العقيدية، مثلاً، التي هي في منأى عن دور الفقيه.. أمّا علم الكلام والفلسفة فهو ترف فكري لا علاقة له بالفقه من قريب أو من بعيد.

إنّ المسألة المطروحة في هذا الجانب هي الوصول إلى جسم الشريعة لا روحها، وإلى مفرداتها لا أبعادها، وإلى فرضياتها لا وقائعها، ولهذا فلا ضرورة للتدقيق في موضوعات الأحكام، لأن وظيفة الفقيه هي تحديد الحكم الشرعي على الموضوعات المفترضة.

فلا يجب عليه إحراز الموضوع – من حيث هو الفقيه المفتي – لأن الفتوى تطلق الحكم على الموضوع على أساس تقدير وجوده في الواقع الخارجي، وعلى المكلف أن يلاحق حركة الموضوع في حياته وحياة الآخرين تبعاً للحكم الشرعي الفتوائي، وربما استثنى الفقهاء من ذلك الموضوعات التي لا بد للفقيه من تحديد مفهومها من خلال النصوص، كالغناء والصعيد والوطن، وأمثالها من موضوعات الأحكام التي يختلف الرأي في طبيعة مضمونها أو في سعته أو ضيقه، من خلال المعنى اللغويّ أو العرفي أو الشرعيّ، إن كان للشارع حقيقة شرعية فيه في حجم المصطلح.

بين دور الفقيه والحاكم الشرعي

إن دور الفقيه في هذه الدائرة هو دور العالم بالقانون الذي يحدد مدلولات موادّه، لتكون ثقافته محدودة فيما هو القانون في ذاته لا في روحه، إلاّ بالمقدار الذي يتصل به ذاتياً.

وقد نجد في بعض النظريات الفقهية في مسألة حكم الحاكم الشرعي، أنه ليس حجة في تحديد موضوعات الأحكام، بل هو مختص بباب القضاء، فلو أن الحاكم الشرعي، مثلاً، حكم بهلال شهر رمضان أو بالعيد، فلا يجب على الناس إطاعته في ذلك، حتى إذا كانوا يرجعون إليه في الفتوى، فيتوقف قبولهم به بالقناعة الشخصية بذلك بقطع النظر عن حكمه ورأيه.

وقد امتدّ هذا الاتجاه الضيِّق المنغلق على الدائرة الذاتية للفقه في شخصيته، إلى الانغلاق الفقهي على الدائرة المذهبية، فلم يعد للفقيه الشيعي أيّ اهتمام ثقافي بالفقه السنّي إلا بالمقدار الذي يتصل ببعض تعقيدات الفقه المذهبي من ناحية انفتاحه على بعض تفاصيله في نطاق موضوعات «التقية» مثلاً، كما أنّ الفقيه السنّي يفكّر بالطريقة نفسها في فقدان الاهتمام الثقافي بالفقه الشيعي، إلاّ من خلال الرغبة الذاتية غير الملحّة في معنى الاختصاص.

وهكذا فقدنا في مجتمعاتنا الفقهية صفة الفقيه الإسلامي الموسوعي في مسألة الاختصاص الفقهي، الأمر الذي أبعد الواقع الإسلامي الفقهي العام عن التصور الدقيق للتفكير المتنوع في هذه الدائرة المذهبية أو تلك، وهذا ما أدّى إلى توسيع المساحة الهائلة الفاصلة بين مواقع المجتمع الإسلامي، على أساس أن النماذج المتحركة فيها هي نماذج فقهاء المذاهب، لا فقهاء الإسلام، فكان الإصرار الجامد على الوقوف عند حدود المذهب في المسألة الاجتهادية، بحيث أصبح من المألوف أن يتهم فقيه شيعي بأنه أصبح قريباً من الانحراف إلى الدائرة السنّية إذا تبنى حكماً موافقاً للمذهب السنّي، أو يتهم فقيه سنّي بالخضوع للمؤثرات الشيعية إذا أفتى بما يوافق مذهب الشيعة، على أساس أنّ كل دائرة لا بد أن تبقى مغلقة عن الدائرة الأخرى على الدوام.

وهناك ظاهرة سلبية نشأت في ظلِّ هذا المفهوم المحدود لدور الفقيه، وهي ابتعاده عن مسألة تبليغ الدعوة أو المفردات الفقهية على خطِّ التوعية العامة، لأن هذا لا يلتقي بمهمة العالم الفقيه، بل يلتقي بمهمة المبلّغ الذي يستهلك ثقافة الفقيه ليبلِّغها إلى الإنسان. وبذلك بدأ الفصل بين مهمة الفقيه ومهمة المبلّغ والواعظ، حتى رأينا في بعض الدوائر العلمية الفقهية، من ينكر على الناس مطالبة الفقيه بذلك، لأنه ليس دوره أو وظيفته أو مسؤوليته.

إنّ خلاصة النظرة، في هذا المفهوم، هي أنّ الفقيه يملك اختصاص الفقه في مسائله تماماً كما هو الطبيب الذي يملك اختصاص المعرفة الطبية في مفرداتها، من دون أن تكون لأية ثقافة فلسفية أو علمية أو اجتماعية أو أدبية أو سياسية، مدخلية في معناه، فلا يكون افتقاده لها نقصاً في موقعه أو دوره.

إنّها النظرة التي تنتج الفقيه الجامد المنغلق عن حاجات عصره، لا الفقيه الحركي في عالم التحديات.. وربما نلتقي – في هذا المجال – ببعض النماذج التي لا تملك ثقافة عقيدتها الإسلامية في الاستدلال الفكري للعقيدة على أساس القواعد العلمية، بل قد تكون خاضغة لأفكار سطحية أو لتقليد المناخ العام الذي قد تستثيره أيةّ مناقشة لبعض التفاصيل أو توجيه علامات استفهام لأيّ خط فكري في هذا المضمون العقيدي أو ذاك، تماماً كأيّ شخص جاهل يتحرك في موقع الانفعال.

وفي الدائرة الرسالية، تختلف المسألة، كليّاً، عن الدائرة الذاتية، فهناك الأفق الرحب الذي ينفتح على الإسلام، وهناك الأرض الواسعة الممتدة في اتجاه الأهداف الإسلامية الكبرى، وهناك الأمة الإسلامية الكبيرة في مستوى العالم، وهناك العالِمُ في الدائرة الإنسانية الذي يتطلع إلى الإسلام في قضاياه ومشاكله، وهناك الفقه الإسلامي المنطلق من قاعدة الإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، المتحرك في حاجات الإنسان وأوضاعه من أجل تفجير طاقاته على أساس الحرية والعدالة، لتكون الحياة كلها دعوةً في خط الرسالة ورسالة في حجم الحياة.

وفي ضوء ذلك، ينطلق دور الفقيه ليكون دور النبي باعتباره الحامل لرسالته، الأمين عليها، على هدى الحديث الشريف المأثور: «العلماء ورثة الأنبياء» و «العلماء أمناء الرسل»، فإذا كانوا ورثة الأنبياء، فلا بُدّ لهم من أن يتحركوا على مستوى الدعوة والحكم والجهاد والحركة في خط الإنسان والحياة.

وإذا كانوا الأمناء للرسل، فلا بد لهم أن يكونوا الحافظين لرسالتهم ولأمتهم، السائرين في دروبهم، الحارسين لمواقعهم، الثابتين في مواقفهم ومواقعهم.

وهكذا يكون الفقه النافذة التي يطلُّ الفقهاء من خلالها على الواقع كله والإنسان كله، ولن يكون – الفقيه – مجرد مثقف في الحكم الشرعي، بل يمتد إلى أن يكون مثقف في الإسلام كله عقيدةً وشريعةً ومنهجاً وهدفاً على خطِّ النظرية، وحركة وجهاداً ودعوة وسلطة على خط التنفيذ والامتداد في الحياة.

وفي هذا الاتجاه، نقف مع الفقيه ليكون الحاكم الذي يتدخل في حلّ مشاكل الساحة فيما يختلف فيه النّاس في أمورهم الخاصة والعامة، حتى لا يبقى فراغ في الحكم على مستوى الإسلام، فيفسح المجال لغيره، أو يخضع للمنحرفين عن الخط ليكونوا الحاكمين على الناس من خلال انحرافهم، وهذا ما نستوحيه من قول الإمام جعفر الصادق (ع): «انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا، وعرف أحكامنا (أحكام الإسلام)، ونظر في حلالنا وحرامنا (حلال الإسلام وحرامه) فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً...». فإذا كانت ثقافة الحديث ومعرفة الأحكام، ووعي الحلال والحرام، هي الأساس الذي يرتكز عليه موقع الحكم للحاكم، فلا بد أن تنطلق هذه الثقافة في حركة انفتاح على واقع الناس ووعي لمشاكلهم وفهم لقضاياهم وتطلّعٍ إلى غاياتهم، للقيام بدور الحاكمية في المستوى اللائق الذي يحفظ شؤون البلاد والعباد، من خلال وعيه الشامل للخلفيات الكامنة وراء الأحداث، وللنتائج السلبية أو الإيجابية الحاصلة منها، وللتطلعات المستقبلية التي يخطط لها، ولا بُدّ أن تتفاعل الثقافة الإسلامية الفكرية والفقهية مع الأوضاع المحيطة بالواقع المتجدّد تبعاً لتجدد الأوضاع في أجواء الظروف المختلفة.

دراسة حالة الرواة:

ونلتقي في الاتجاه نفسه بالحديث المعروف: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله...».

فقد نفهم من هذا النص، أن المطلوب فيه هو مواجهة «رواة الأحاديث» للحوادث الواقعة المتجددة التي لم يسبق وقوعها في زمن النصوص الإسلامية، بالاجتهاد المفتوح على كل مفرداتها من أجل استنباط أحكامها، وذلك باستيحاء القواعد العامة الثابتة في الكتاب والسنّة من أجل تطبيقها على الواقع الجديد، فلا يبقى هناك فراغ في التشريع في الموضوعات التي لم يرد فيها نصّ خاص، الأمر الذي يفرض المعرفة الميدانية للواقع، مقارنةً بالواقع المماثل، أو منفتحة على الخصائص والشروط المختزنة في داخله بالإضافة إلى المعرفة الفقهية، لتكون ثقافة الواقع في كل دقائقه وخصوصياته أساساً لفهم نوعية التشريع الإسلامي في الوقائع، لأن الفقيه إذا لم يفهم موضوع الحكم جيّداً، فلا يملك معرفة الحكم الثابت له.

وربما كانت الإشارة في الحديث إلى الرجوع إلى «رواة الحديث» في توجيه الأحداث وتحريكها والإشراف عليها في منطق الولاية العامة، لتكون دليلاً على نظرية «ولاية الفقيه»، الأمر الذي يفرض الإحاطة بكل ظروف الحوادث الواقعة الصغيرة والكبيرة، حتى يملك الفقيه القدرة على الإمساك بها وإدارتها وتوجيهها إلى الوجهة التي تحمي حركة الأمة، وتنمّي طاقاتها وتحقق أهدافها.

دور الثقافة في حركة الإجتهاد:

وفي كلا الاحتمالين، ثقف الثقافة العامة في مسائل الواقع لتكون أساساً للاجتهاد هنا، ولحركة الولاية هناك، وتدخل في هذا الجانب كل الموضوعات المستحدثة التي لم يعرفها الفقهاء القدامى، مما فرضته الحاجات الجديدة، في تطورات الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأمني للإنسان، الذي بدأ يطرح كثيراً من علامات الاستفهام حول النظرة الإسلامية إليه، كما انطلق ليثير أكثر من مشكلة للإنسان المسلم على مستوى التحديات الكثيرة والمتنوعة.

وقد نلاحظ – في هذا المجال – أن الاتجاهات الأخرى المضادَّة قد أثارت الكثير من المسائل الفكرية والعملية حول حقوق الإنسان، كما فرضت الكثير من الأوضاع مما تختلف فيه المصالح والمفاسد النوعية، التي تختلف الأحكام فيها بين موقع وآخر أو فرضية وأخرى، بحيث لا يكفي فيه جانب الفرض والتقدير، بل يتعين فيه التركيز على الواقع. وربما فرضت التطورات، على صعيد ولادة الدولة الإسلامية، كثيراً من القضايا المتصلة بفقه الدولة الذي يختلف عن فقه الفرد في غير نطاق الدولة، الأمر الذي يلتقي بأكثر من مسألة جديدة أو مشكلة حادثة، على أساس الواقع العالمي الخاضع للخطوط المطروحة لدى الناس الآخرين، من خلال طريقتهم في التفكير، باعتبار أنهم هم الذين خطَّطوا لتنظيم الواقع الإداري والاقتصادي والسياسي والأمني، فكيف يواجه الفقيه ذلك كله، إذا لم يكن واعياً للمتغيرات الفكرية والعملية في العالم في دائرة الولاية العامة أو في نطاق الاجتهاد الفقهي؟ فإنّ ذلك كله يمثل حركة ضغط متجددة دائمة في ملاحقة كل مسألة ومشكلة من خلال حاجة النّاس إلى الأجوبة التي تحدد الفكرة، والخطوط التي تحدّد خط السير، لارتباط ذلك بحياتهم اليومية الملحّة، أو بمستقبلهم المنطلق من قاعدة الواقع الحاضر.

فهل يقف حائراً أمام ذلك؟ أم ينطلق في إثارة الاحتمالات والفرضيات على الطريقة القديمة ليترك للناس ملاحقة الاحتمالات، في عملية إخضاع للواقع أو عملية تفسير له، الأمر الذي قد يبتعد عن الواقعية الذاتية للأشياء ويحول دون امتلاك الناس رؤية واضحة أمام هذا الواقع المستجدّ؟

إننا أمام هاتين الدائرتين لا نجد مجالاً للاكتفاء بالدائرة الأولى، لأنها تبقي الفقيه في النطاق الضيّق، أي الإطار النظري، وفي آفاق الاحتمالات التي تبعده – كما تبعد الناس – عن حركة الفقه في الواقع، وحركة الإسلام في الحياة في كثير من الحالات، بعيداً عن أي فرصة لقيادة المجتمع بالمعنى الواسع للكلمة، بحيث يكون الفقيه مجرّد حالة ثقافية محدودة، كأي حالة ثقافية في مجالات أخرى لا علاقة لها بالموقع القيادي.

إن طروحات «المرجعية العامة» أو «الولاية العامة» تفرض الانفتاح على الواقع كله في كلّ مفرداته الثقافية التي لا بُدّ له من أن يعيها بشكلٍ مباشرٍ في تجربته الخاصة، أو بشكل غير مباشر من خلال استشارة الخبراء، ليستطيع بذلك تحريك الطاقات الحية المتنوعة على مستوى الفرد أو المجتمع أو الأمة كلها، من موقع القيادة الفكرية والعملية التي تملأ الفراغ الكبير في حياة الناس، حتى لا يحتاجوا إلى البحث عن تساؤلاتهم ومشاكلهم في موقعٍ آخر، ما قد يؤدي بهم إلى الانحراف.

وهكذا نقف في خطِّ الدعوة والتبليغ والإنذار، لنلاحظ أنّ القرآن قد طرح مسألة التفرّغ الفقهي الإسلامي للطائفة المنفتحة على حاجات التوعية الشاملة للأمّة، فلا تخرج للجهاد فيمن يخرج من المسلمين، وذلك لتحقيق الهدف الكبير في إنذار الأمة بالمستوى الذي يحقق لها الانضباط في خطوط الإسلام العامة، وهذا هو ما جاء في قوله: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا لعلهم يحذرون﴾[التوبة:122].

ومن اللافت في هذه الآية، أنها ركزت على التفقه في الدين الذي يشمل مسألة العقيدة والشريعة وحركة المنهج في الواقع، بحيث يعيش المؤمنون الاكتفاء الذاتي في كل ما يحتاجون إليه من المعرفة الإسلامية في خطِّ النظرية والتطبيق؛ الأمر الذي يفرض على هؤلاء المتفقهين في الدين أن يواجهوا كل علامات الاستفهام التي تثيرها التطورات الحياتية في أفكار الناس، وكل التحديات التي تطلقها حركة الصراع في ساحة الواقع، فلا يبقى هناك أيّ فراغ يعطّل حركة الحذر الواعي في ذهنية الأمة وفي تطلعاتها المستقبلية.

إنّ الآية تخطِّط للمراحل القادمة التي تمثل الامتداد الحضاري للإسلام في واقع الأمة، ليبقى لها ـ في كل جيل ـ طلائع متقدمة تقود الحياة على أساس الإسلام في مواجهة كل المتغيرات وكل التحديات.

إنّ الفقهاء ورثة الأنبياء في العلم والدعوة، كما يقول البعض في تفسير الحديث، فلا بد أن تقوم بهم الحجة على الناس من خلال ما يريد الله لهم أن يكونوا في مستوى إقامة الحجة عليهم من قبله، تماماً كما هو النبي الذي تقوم به الحجة على الناس من قبل الله.

وهم ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل في قيادة المسيرة، فلا بد لهم من الارتفاع إلى المستوى الرفيع من وعي الحياة بالإضافة إلى وعي الإسلام، لأنه لا معنى لقيادة لا تعرف كيف تخطط لحركتها، أو تواجه جمهورها بالتوعية الشاملة.

إنّ الفقيه شاهد عصره، وقائد أمته، ورسول ربه، من دون وحي أو نبوّة، ونذير للناس في كل ما يواجههم من قضايا ومشاكل في الحاضر والمستقبل. إنه الذي يملأ فراغ الحياة من النبوّة ليكون دوره دور الرسالة المتحركة في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد.

إن العصر يتطور بسرعة، فلا بد للذين يضعون أنفسهم في موقع القيادة أن يلاحقوا كل خطوات التطور بالسرعة نفسها، ليواكبوا الحياة في قضاياها المتحركة المتجددة بالحلول الإسلامية الواقعية التي تمنح الإنسان جواباً عن كل سؤال وحلاً لكلّ مشكلة، لأن أيّ تأخر عن الاندفاع في هذه المواكبة الفكرية والعملية قد يدفع الناس إلى الانكفاء والجمود، أو البحث عن قيادة أخرى لمسيرةٍ بعيدة عن خط الإسلام، وهذا مما لا يرضاه الله ورسوله في كل زمان ومكان.


مجلة المنطلق: العدد التاسع والتسعون