نظرات اسلامية في لائحة حقوق الإنسان..الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر(رض )
نظرات اسلامية في لائحة حقوق الإنسان
الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر(رض )
المقدمة
!
إن هذا الجهد المتواضع الذي تراه بين يديك، والذي تناول إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن بالنقد الإسلامي البناء، ليس هو إلا نتيجة من نتائج " كلية الفقه" التي كان لي شرف التلمذة بها مدة خمس سنوات متتابعة حتى إن وفقني الله عز وجل بمنه ولطفه إلى التخرج منها، وقد بذلت الكلية جهدا مشكورا في تغذية تلاميذها من ثمار الفكر الإنساني قديمه وحديثه، وإطلاعهم على مختلف وجهات النظر في مختلف حقول المعرفة سواء من الناحية الدينية أو الفلسفية، أو من ناحية العلوم الإنسانية في حقول علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ، أو ما سواها من حقول المعرفة الإنسانية، وذلك ليكون تلاميذها المتخرجون أفذاذا فضلاء يستطيعون مجابهة صعوبات الحياة، وحل المشاكل البشرية على ضوء الإسلام المنير.
وكان إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن مما استفدته من " كلية الفقه" أيضاً، حيث تلقيته عن الدكتور فاضل حسين في مادة " التاريخ الحديث"، وقد تفضل بذكره لنا في معرض حديثه عن الثورة الفرنسية بملابساتها المهمة وحوادثها التاريخية، وقد شرحه لنا شرحاً ضافياً، وقد كان لي توفيق كتابته في أثناء الفترة المحاضرة، وقد أكد بالخصوص على إن هذا الإعلان إنما يمثل فلسفة ومصالح الطبقة البرجوازية الفرنسية، وإن كان ظاهر العبارة فيه يقتضي انه شامل لجميع بني الإنسان، بل انه أكد على إن الثورة الفرنسية نفسها ثورة برجوازية، وإنما نجحت بقوة البرجوازية الفرنسية، وضعف الإقطاع في فرنسا، ومن هنا جاء هذا الإعلان بعيد الثورة بأيام ممثلا لجوهر فلسفة الثورة ومصالح البرجوازية.
وكان هذا نفسه ما حاولت التأكيد عليه في غضون مناقشة الإعلان، حيث تعرضت بالتفصيل إلى التفسير البرجوازي لكل مادة تقريباً في هذا الإعلان. كما حاولت أن اعرض على ضوء هذا التفسير وعلى ضوء الإسلام نقاط الضعف والقوة في هذا الإعلان، وكيف إن هذا التفسير البرجوازي ينزل بهذا الإعلان من البرج العاجي الذي حاول واضعوه أن يضعوه فيه، بالإضافة إلى ضيق الأفق وقصر النظر الذي تميز به هذا الإعلان عند مقارنته إلى عدالة الإسلام وشمول تعاليمه وخلوده. وقد تعرضت بشيء من التفصيل إلى شرح وجهة النظر الإسلامية في كل قاعدة مما ذكره الإعلان.
ولكنني أود أن اعترف رغم كل ما توسعت به في ذكر التعاليم الإسلامية، إنني قد اختصرت كلامي اختصاراً كبيراً فقد كان بالإمكان - لو كان المقصود هو الاستيعاب والشمول- أن يمتد البحث إلى أضعاف هذه الكمية، ولكنني اقتصرت على ما له صلة مباشرة بالموضوع، مما يكفي في لفت الأنظار إلى وجهة النظر الإسلامية.
ولما كان ينبغي أثناء عرض وجهة النظر الإسلامية لكي تكون الصورة واضحة وصادقة من تصور الدين الإسلامي مطبقاً بجميع أوامره ونواهيه وخصوصيات تشريعه، فإن الإسلام إنما جاء لكي يطبق في المجتمع كوحدة متماسكة يشد بعضها البعض، ليستطيع أن يثمر ثماره شهية ناضجة، كما هو المتوقع منه، وإلا فإنه لن يثمر إلا في الحدود الضيقة التي تسمح بها الظروف الموضوعية في كل جيل.
لهذا، اقتضى تصور مجتمع مسلم يتصف جميع أفراده أو اغلبهم بالإسلام، وتقوم بينهم الروابط والعواطف على أساس إسلامي، وتحكمه حكومة إسلامية شرعية تقوم بتطبيق القوانين الإسلامية على المجتمع الإسلامي.
فان لهذا التصور المدخلية الكبرى في معرفة وتشخيص الثمار الحكيمة والأهداف السامية التي قصدها الإسلام من سنَّ تشريعاته، وعليه فقد تمت مناقشة الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان على هذا الأساس.
هذا وأرجو أن أجد منك تجشمك أثناء مطالعة البحث، أُذناً واعيةً وقلباً منصفاً وعقلاً من العدالة والإنصاف وبعيداً عن التعصب الأعمى، فان التعصب آفة البحث، وذلك لكي أن تفهمني كما أريد أن تفهمني، وأن تفهم الإسلام كما يريد الإسلام أن تفهمه. ولك مني سلفا خالص الشكر.
محمد الصدر
النجف الأشرف - العراق
1
ليس التفكير في حقوق الإنسان، وإدراك إن الظلم والتعسف ناشئ من غمط حقوقه، واحتقار كرامته، ليس هذا التفكير حديثا بالنسبة إلى العهود التاريخية المتأخرة. فقد حدثت في مختلف البلدان اضطرابات سياسية وثورات على الأوضاع الفاسدة، تمخضت على شكل وآخر من لوائح حقوق الإنسان، فمن أقدم اللوائح البريطانية العهد الأكبر The Magna Corta الصادر في سنة 1215 حين اضطر البارونات الثائرون ملكهم جون John عن توقيع العهد المذكور الذي يحتوي على وعود كثيرة(1)، ومنها عريضة الحق Petition of right التي أصدرها البرلمان البريطاني سنة 1628 في مقابل منح الملك (شارلس الأول) المخصصات المالية التي يطلبها(2)، ومنها (لائحة الحقوق) Bill of rights التي أصدرها البرلمان البريطاني سنة 1689 على اثر الثورة البيضاء التي نشبت هناك والتي تسمى ( بالثــــــــــــــــــــــورة المجيدة ) (3) glorious revolution ، ومنها (عقد التسوية) Act of settlement ، وهو أيضاً وثيقة صدرت في عهد وليم الثالث سنة 1701 على يد الحكومة الفاشية يومئذ(4).
ولكن هذه الوثائق الدستورية كلها، هي وثائق سياسية بحتة، لم تتعرض إلى حقوق الإنسان- بشكل عام- بقليل ولا كثير. ولقد كانت الومضة الأولى في إثبات حقوق الإنسان والتمسك بكرامته وإنسانيته بالنسبة إلى أوربا الغربية، هو إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن الذي أصدرته الجمعية الوطنية التأسيسية في يوم 26 آب 1789 بعد أن كانت الثورة الفرنسية قد بدأت في 14 تموز من العام نفسه، ومن ثم فقد احتلت هذه الوثيقة في فرنسا وفي سائر البلاد الأوربية مركزاً سامياً، وأصبحت في نظر شعوبها نبراساً يقتدى به، وأثرت في الفكر السياسي العالمي خلال القرن التاسع عشر والعشرين، وعلى أصولها ترتكز اليوم فعلاً دساتير الأمم الحرة في أوربا وفي سائر أنحاء العالم(5). ولكن الزمان بعد أن تصرّم قليلاً قليلاً بعد صدور هذا الإعلان الذي كان فاتحة خير في إثبات حقوق الإنسان ونصراً مبيناً للطبقة البرجوازية الفرنسية التي كانت قبل صدوره مظلومة مغموطة الحقوق.
بدأت تظهر للعيان ما يحتويه هذا الإعلان من الأخطاء والنواقص، وبدا واضحا أن حقوق الإنسان اعقد وأعمق من أن يحيط بها هذا الإعلان المقتضب المتكون من سبعة عشر مادة. كما انه بدا واضحاً إن الجماعة التي وضعته وإن أدعت إنها قد وضعته ليكون هذا الإعلان راسخاً في أذهان بني الإنسان يذكرهم على الدوام بحقوقهم وواجباتهم، إلا انه لم تقصد به إلا مصالحها البرجوازية الخاصة، والطرق التي تضمن من خلالها الحصول على اكبر فرصة لتوسيع التجارة والصناعة إلى أعظم حد ممكن، واكتناز المال جهد الطاقة والمستطاع. ثم لا يهمها بعد ذلك مصالح الطبقات الدنيا من الشعب التي تمثل أكثريته الساحقة من العمال والفلاحين وأصحاب الحرف وغيرهم، بل انه صار من المعلوم بعد ذلك إن هذه الحرية التي نالوها عن طريق هذا الإعلان كانت سبباً في التحكم في العمال، وإرهاقهم في العمل مدة 14 ساعة في اليوم، ثم إعطائهم اقل كمية ممكنة من الأجر.
وقد أحس الشعب الفرنسي نفسه بما في هذا الإعلان من الخطأ والقصور، ومن ثم نراه قد غير مراراً في ظل الملوكية والجمهورية(1) تلافيا لما سببه من كوارث وأضرار.
ومن هنا فقط يظهر الفرق جلياً واضحاً بين هذا الإعلان لحقوق الإنسان، وبين حقوق الإنسان التي أكد عليها الإسلام ضمن ما أكد عليه في قانونه الخالد العظيم. وما في الإعلان الفرنسي من ضيق بالأفق وقصر في النظر، وما في القانون الإسلامي من عدالة وشمول يضمن بهما سعادة البشرية ورقي الإنسان في مدارج الكمال. فالإعلان الفرنسي متناول لبعض حقوق الإنسان التي دعت إلى التأكيد عليها الحاجة الملحة القائمة حين صدوره، وأما الإسلام فهو الدين الشامل لكل جزيئات الحياة، يتابع الإنسان في جميع أقواله وأفعاله، وفي جميع علاقاته وتصرفاته، ويملي عليه التوجيه والإرشاد ما دام موجوداً على سطح هذه الأرض. وإعلان حقوق الإنسان قد وضعته أذهان بشرية قاصرة عن إدراك مصالحه الروحية وكمالها الحقيقي، وأما الإسلام فهو الدين الإلهي الذي أرسله خالق البشر والمنعم عليهم إلى الناس أجمعين، وهو العالم بحقيقتهم والمطلع على حوائجهم ومشاكلهم، وبالطريق الصالح الذي يتم فيه حل هذه المشاكل والتوافق التام بين البيئة والغريزة، أرسله إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
كما إن إعلان حقوق الإنسان الفرنسي أيضاً، قد وضع لصالح طبقة معينة من البرجوازيين ليضمن حريتهم ورفاههم، ولم يكن يضمن في حساب واضعيه من مصالح سواهم القليل ولا الكثير. في حين إن الإسلام قد جاء ليخدم البشرية جميعاً بدون تمييز ولا تفريق، لا فرق لديه بين غني وفقير، ولا بين ذليل ووضيع، كلهم ينعمون تحت لواءه بالسعادة والرفاه ضمن مجتمعهم الإسلامي السعيد.
وإعلان حقوق الإنسان الفرنسي قد تكشفت فيه الكثير من جهات القصور والنقص، وأما الإسلام فهو الدين الإلهي العادل الشامل الخالد الذي لن تبلي جدته الأيام ولن يذهب برونقه الزمان، وسوف يبقى مع البشرية ما بقيت ولو كره المشركون.
ولأجل أن يبدو بوضوح تام كيف إن إعلان حقوق الإنسان إنما صدر لمصلحة حفنة معينة من البرجوازيين، لابد من التعرض باختصار إلى الظروف العامة والخاصة التي أحاطت بصدوره، والملابسات التي اضطرت الجمعية الوطنية الفرنسية إلى وضع مثل هذه الإعلان.
2
كان الإقطاع مكلكلاً على القارة الأوربية، مسيطراً على جميع شؤونها سيطرة تامة، متنفذاً فيها كما يشاء وكما يحلو له. بحيث إن المناطق الإقطاعية كانت تعتبر دولة داخل دولة، فلكل منطقة إقطاعية حاكم مستقل، وأنظمة مستقلة، وجيش مستقل، وبين هذه المناطق الإقطاعية من الحروب والدمار الشيء الكثير، لان حياتهم كانت قائمة على الطمع بما في أيدي الآخرين والسيطرة عليهم بالقوة المسلحة.
والمجتمع الإقطاعي زراعي بالدرجة الأولى، والطبقة الأكثرية فيه هم الفلاحون الزراعيون الإقطاعيون Serfs، وهؤلاء ليسوا إلا اقناناً ترتبط حياتهم بالسيد الإقطاعي من جهة، وبالأرض الزراعية من جهة ثانية، ومن ثم فهو يباع مع الأرض ويُشترى معها، إذا صادف أن اشترى احد الإقطاعيين أرضاً من إقطاعي آخر.
تكون العلاقات بين الفلاحين الاقنان وبين أسيادهم علاقات تعاقدية يستأجر الفلاح الأرض من مالكها لقاء محصولات عينية، ويقدم الهدايا لسيده في المناسبات المختلفة من حبوب ومخضرات ودواجن وخمور، كأن يتزوج ابنه أو يبلغ سن الرشد، وعلى الفلاح أن يقوم مع زملائه الفلاحين بتأمين مواد الولائم التي يقيمها السيد الإقطاعي إذا قدم على المقاطعة ضيف كبير، وعلى الفلاح أن يقوم بتعبيد الطرق في وقت معين من السنة حين لا يكون هناك عمل زراعي، وأن يخدم في جيشه لرد الغزوات الإقطاعية، وأن يدفع أجور عبور الجسور، وأن يمثل أمام محكمة الإقطاعي، وأن يعصر خمره في معصرته، ويطحن حبوبه في مطحنته.
وللفلاح حق على السيد الإقطاعي أن يحميه، وإنما يحميه بتكوين جيش منه ومن غيره، يكون السيد قائدهم ومنظمهم.
ولا يمكن أن يتحرر الفلاح من سيطرة سيده إلا بأحد طرق ثلاث، إذا هرب من سيده مدة تزيد على سنة، أو إذا انخرط في سلك رجال الدين، أو إذا دفع ما عليه من ديون وواجبات.
وكأنَّ السبيل الثالث للتحرر هو الذي كان مطمح أنظار الفلاحين، لأنه ليس من السهل الهرب من دكتاتورية الإقطاعي مدة تزيد على السنة، ولا الانخراط في سلك رجال الكنيسة إلا تحت شروط معينة، فلم يبق إذن أمام الفلاح القِن إلا الشرط الثالث ليرى من طريقه نور الحرية، ويشم فيه نسيم الاستقلال العليل. ولم يكن من السهل على الفلاح القِن المرتبط بأرضه، الذي يباع معها ويشترى، والمرتبط مع سيده بديون وواجبات أن يدفع هذه الديون ليتحرر من حكمه. ولكن قد تقع قريتهم على طريق تجاري صحراوي أو نهري أو بحري، فتأخذ مدينتهم بالاتساع، ويأخذ المال طريقه إلى جيوبهم، ويكونون بعد مدة من الزمن قادرين على دفع ما عليهم من ضرائب وديون مستغنين عن هذا الارتباط الوثيق الذي كان يربطهم بالأرض أو بالسيد الإقطاعي، وحينئذ يبادر الفلاحون بتسليم ما عليهم من ديون للإقطاعي ويصبحون ولا علاقة لهم به، ويأخذون منه وثيقة حرية المدينة Charter يعترف الإقطاعي فيها إن هذه المدينة قد أصبحت حرة وليست لها علاقات إقطاعية.
وحيث إن الملك كان يخاف من سطوة الإقطاعيين عليه، فد اعتمد على هذه الطبقة المتحررة من الإقطاع، والتي تسمى باللغة الإفرنجية Bourgeoisie أي طبقة البرجوازيين وصار حليفاً لهم وأصبح البرجوازيون يكونون جبهة قوية ضد الإقطاع. ولكن حدث- بعد مرور قرنين- أن أصبحت البرجوازية قوية بحيث تهدد الملك نفسه، وذلك لان الجيش الذي كان يمكن تكوينه من سكان المدينة هو جيش أكثر أموالاً وسلاحاً وعدداً من أي جيش إقطاعي، ومثل هذا الجيش يكون خطرا حتى بالنسبة إلى الملك نفسه، وحينئذ استند الملك على القوى الإقطاعية وحالفها- كما حدث بالفعل في فرنسا- ضد القوى البرجوازية.
والثورة الفرنسية إنما نجحت لان البرجوازية في فرنسا كانت أقوى من الملك ومن رجال الإقطاع، فكانت خطوة في انتقال الحكم من الإقطاع إلى سكان المدينة البرجوازيين (1).
3
كان هذا وضعاً مختصراً للأوضاع السائدة في القارة الأوربية بصورة عامة عدة قرون متطاولة من الزمن.
أما الأوضاع في فرنسا نفسها، تلك الأوضاع التي أدت بصورة مباشرة إلى قيام الثورة الفرنسية ومن ثم إلى إصدار إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن، والتي كانت ماثلة أمام واضعي هذا القانون يعيشون تفاصيلها ويعلمون بمشاكلها ويدبرون في أذهانهم حلولها.
فكانت تتلخص كالآتي: كان الشعب الفرنسي- ككل مجتمع إقطاعي- مقسما إلى ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة الأسياد الإقطاعيين.
الطبقة الثانية: طبقة رجال الدين، أتباع الكنيسة المسيحية.
الطبقة الثالثة: وتسمى الطبقة الثالثة أو العوام.
وتتكون الطبقة الثالثة من:
أ- البرجوازية.
ب- الفلاحين.
ج- العمال.
د- أصحاب الحرف.
وكان عدد نفوس فرنسا حينما نشبت الثورة الفرنسية 26 مليونا، منهم نحو مليون نسمة عدد نفوس الطبقتين الأولى والثانية، والباقون يكونون الطبقة الثالثة، والبرجوازية هي زعيمة الطبقة الثالثة.
كانت الضرائب تُسَنُّ، وطلبات الملك المالية تلبى، بواسطة مجلس يسمى مجلس الطبقات العامة)Estates General وذلك قبل حوالي قرنين من الثورة الفرنسية، وكانت الطبقات الثلاثة ممثلة فيها بالتساوي لكل طبقة 300 نائب، رغم إن الطبقة الثالثة تكون 95 بالمئة من الشعب. وكان التصويت في المجلس يجري على أساس طبقي، فلكل طبقة صوت واحد فقط. فإذا احتاج الملك إلى المال وأراد فرض الضرائب على الطبقة الثالثة للحصول عليه، فلابد أن يستشير هذا المجلس بالموضوع، وحيث إن الطبقتين الأوليتين لا تفرض عليها الضرائب لأنها كانت محتكرة للامتياز لنفسها دون الطبقة الثالثة، فان التصويت عندما يجري في المجلس على فرض الضرائب، يحصل الملك على صوتين في مقابل صوت واحد وهو صوت الطبقة الثالثة. ومن ثم يصدر التشريع بأكثرية الصوتين وتسن الضريبة على الطبقة الثالثة. كان مجلس الطبقات هذا موجودا في زمان (هنري الرابع) من أسرة (بوربون)، ولكنه عندما توفي وخلف ابنه (لويس الثالث عشر) وكان قاصراً، قامت أمه (ماري ميدتشي) بالوصاية عليه. وقد ذهبت في يوم من الأيام إلى بناية هذا المجلس وأمرت أعضاءه بالانصراف قائلة: إننا نحتاج إلى ساحة للرقص! فذهب النواب ولم يرجعوا، وذلك في سنة 1614.
وبعد مضي 175 سنة، تمضي على حل هذا المجلس، يحتاج الملك (لويس السادس عشر) إلى المال، ويضطر إلى معالجة الوضع الاقتصادي المتردي في فرنسا، فيستشير الملك كبار الاقتصاديين وهم من الطبقة البرجوازية، ولهم اتجاه مالي معين ويسمون بالفيوقراطيين أي الطبيعيين. فيشيرون عليه بان يقتصد في مصاريف الشعب والبلاط، وأن يجمع الضرائب من الشعب بموافقته. ولكن (ماري انطوانيت) زوجته رفضت الاقتصاد بالمصاريف، فلم يبق إلا فرض الضرائب على الشعب. وكذلك استشار الملك (مجلس الوجهاء) Assembly of the notables وهو مجلس يتكون من 145 عضوا، فقالوا له إن صاحب الحق الشرعي في فرض الضرائب هو مجلس الطبقات العامة، ثم استشار المحكمة العليا Apartement of Paris فقالوا له انه لا يمكنه جمع الضرائب إلا بإستشارة مجلس الطبقات. وحينئذ أجريت الانتخابات في فرنسا لانتخاب المجلس الجديد، بعد أن ادخل على المجلس تعديلا يجعل عدد ممثلي الطبقة الثالثة 600 شخصاً، مع بقاء عدد ممثلي الطبقتين الأوليتين 300 شخصا، على أن يكون التصويت بالطبقات أيضاً وتقرر اجتماع المجلس في 5 مايس عام 1789. واجتمع مجلس الطبقات العامة الجديد، مكونا من 1200 عضوا، وألقى الملك خطاب العرش، وطلب منهم تقديم المقترحات. ثم طلب الوزير أن يفترق الجمع لتذهب كل طبقة إلى محلها الخاص فرفضوا الاقتراح، ثم أعلن جماعة من ممثلي الطبقتين الأوليتين تنازلهم عن حقوقهم وامتيازاتهم في سبيل الصالح العام، وتأييدا للطبقة الثالثة.
ويمكن أن يعزى هذا التأييد إلى عدة عوامل: فقسم من ممثلي الطبقتين الأولى والثانية كانوا مقتنعين بفساد الوضع وانه يحتاج إلى إصلاح، وقسم آخر قالوا بان الوضع سيتغير فمن الرأي الصائب أن يؤيدوا الطبقة الثالثة ليكونوا زعماء الوضع الجديد. وقسم ثالث كانوا في اقتصاد سيء رغم كونهم من الطبقة الأولى أو الثانية، فكانوا مستاءين من أصحاب اللقب، الأغنياء، فوجدوا في ذلك سبيلاً للانتقام منهم.
ثم إن هؤلاء النواب اجتمعوا واقسموا على أن يخدموا الشعب ويضعوا دستوراً للبلاد. ولما كان الدستور لا يمكن أن يضعه مجلس الطبقات العامة بل الجمعية الوطنية التأسيسية، بدلوا الاسم ليضعوا دستورا للبلاد، وهكذا تكونت الجمعية الوطنية التأسيسية وقد بدأت أعمالها في يوم 5 تموز سنة 1789. هذه الجمعية الوطنية التأسيسية بالذات هي التي أصدرت إِعْلاَنِ حُقْوُقِ الإِنْسانِ وَالْمُوُاطن في يوم 26 آب سنة 1789، بعد أن كانت الثورة الفرنسية قد بدأت بالهجوم على الباستيل في يوم 14 تموز من العام نفسه(1).