المرأة والعلوم الدينية/ الشيخ حسن الصفار
[align=center]المرأة وأهلية المعرفة الدينية(1)[/align]
[align=center]المرأة والاجتهاد[/align]
هل يمكن للمرأة أن تكون صاحبة رأي في مجال الفكر والتشريع الإسلامي؟ وهل يحق لها المشاركة في حركة الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي؟
أم أن أنوثتها تقصر بها عن بلوغ هذا المقام، وتبقيها ضمن حدود الاتباع والتقليد للرجل؟
من المعلوم أن مفاهيم الدين وأحكامه تؤخذ من الكتاب والسنة، وهما خطاب مفتوح لكلِّ ذي عقل، وموجه لكل إنسان، ووعيهما والتدبر فيهما مطلوب من كلِّ مكلف، ذكراً كان أو أنثى، فحينما يقول تعالى: {هذا بيان للناس} (آل عمران/138) ويقول تعالى: {أفلا يتدبَّرون القرآن} (النساء/82)، ويقول تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذِّكر فهل من مدَّكر} (القمر/17)، وحينما يقول النبي (ص): «نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها». فهذه الخطابات والأوامر لا تختص بالرجال دون النساء. فكما يتفهّم الرجل آيات الكتاب العزيز، وأحاديث الرسول الكريم، ويعرف منها واجبه وتكليفه، فكذلك الحال بالنسبة للمرأة، وهذا ما كان معمولاً به في عصر النبوّة والإمامة.
وإذا كانت المسافة الزمنية التي تفصلنا عن عصر التشريع، قد جعلت عملية فهم النص الشرعي، ومعرفة الوظيفة من خلاله، تحتاج إلى درجة من الخبرة في بعض العلوم كأرضية ومقدمات لتحصيل القدرة على استنباط الحكم الشرعي من مصادره المقررة، كاللغة العربية، وتفسير القرآن، وعلم الدراية، وعلم الأصول. فإن التوفّر على هذه الخبرة العلمية، إنما يستلزم حركة وقدرة ذهنية تمتلكها المرأة، كما يمتلكها الرجل. وبالتالي، فبإمكان المرأة أن تصل إلى مستوى الفقاهة والاجتهاد، فتتعامل مع النص الشرعي مباشرة، وتستنبط المفاهيم والأحكام، وحينئذ ليست المسألة أنه يصحُّ لها العمل بما يؤدي إليه رأيها واجتهادها، بل إنه يجب عليها ذلك. لأن المجتهد _ رجلاً كان أو امرأةً _ إذا استنبط الحكم بالفعل، فلا يجوز له أن يترك ما اتّضح له أنه حكم الشرع ويعمل برأي آخر. فالمرأة يمكن أن تكون فقيهة مجتهدة، وأن تعمل برأيها وحسب اجتهادها.
ناقش الفقهاء مسألة أهلية المرأة في التصدي للمرجعية والتقليد، بحيث يعتمد الآخرون على فتاواها، وتصبح مرجعية دينية تؤخذ منها الأحكام الشرعية.
والرأي السائد لدى الفقهاء، والذي يذكرونه في رسائلهم العلمية، هو عدم جواز تقليد المرأة، وإن اجتمعت فيها كلَّ الشروط والمواصفات، على أساس أن الذكورة شرط في المرجعية.
لكنَّ الملفت للنظر، أن أغلب أولئك الفقهاء، حينما يناقشون المسألة علمياً وعلى صعيد الاستدلال والبحث، يعترفون بعدم وجود دليل مقنع للمنع من تقليد المرأة، ولسلبها أهلية المرجعية والإفتاء. يقول السيد الحكيم في المستمسك: (وأما اعتبار الرجولة في شرائط المجتهد المقلد، فهو أيضاً كسابقه عند العقلاء، غير ظاهر عند العقلاء، وليس عليه دليل ظاهر غير دعوى انصراف إطلاقات الأدلة إلى الرجل، واختصاص بعضها به. ولكن لو سلم، فليس بحيث يصلح رادعاً عن بناء العقلاء. وكأنه لذلك أفتى بعض المحققين بجواز تقليد الأنثى والخنثى). وقد بحث هذه المسألة الفقيه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وناقش أدلة المانعين، وخلص إلى: (أنه لا دليل على اشتراط الذكورة في مرجع التقليد، كما أن جميع ما ذكر لا يصلح للردع عن بناء العقلاء وسيرتهم على عدم الفرق، في رجوع الجاهل إلى العالم، بين كون العالم رجلاً أو امرأة، فيصحُّ تقليد المرأة المجتهدة الفقيهة إذا كانت واجدةً لبقية الشرائط المعتبرة في مرجع التقليد. وعلى هذا اتفق الفقهاء وعلماء الحديث في باب الرواية. والعمدة في المسألة بناء العقلاء، هذا مضافاً إلى أن أدلة حجية الرواية هي أدلة حجية الفتوى ومشروعية التقليد، ولا يمكن تجزئة دلالة الأدلة إلا بدليل مقيد أو مخصّص، وقد تبيَّن عدم وجود دليل من هذا القبيل. قال المحقق الأصفهاني: فأما الذكورة فلا دليل عليها بالخصوص، وما ورد في باب القضاء من عدم تصدي المرأة له، وكذلك في الإمامة للرجال، فالحكمة فيهما ظاهرة. وهل حال الفتوى إلا كحال الرواية، ولذا يستدلُّ بأدلة حجية الخبر على حجية الفتوى، من دون اختصاص لحجية الرواية بالرجال. مع أنه لا ينبغي الريب في جواز العمل لها برأيها أيضاً).
أما عند فقهاء السنّة، فيبدو أنهم متفقون على أن الذكورة ليست من شروط الإفتاء والمفتي، وبالتالي فهم يقبلون مرجعية المرأة في الأحكام الشرعية. جاء في الموسوعة الفقهية: (لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية والنطق اتفاقاً. فتصحُّ فتيا العبد والمرأة والأخرس).
[align=center]المرأة والاصطفاء الإلهي[/align]
تحدث القرآن الكريم في موارد عديدة عن مفهوم الاصطفاء، وأن الله تعالى قد اصطفى أفراداً من خلقه وعباده، كقوله تعالى: {إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران/33). وقوله تعالى: {وسلامٌ على عباده الذين اصطفى} (النمل/59)، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام: {ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (البقرة/130)، وعن نبيه موسى عليه السلام: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (الأعراف/144) وآيات أخرى عديدة.
والاصطفاء في اللغة العربية من مادة الصفو والصفاء. جاء في لسان العرب: صَفوَة كل شيء خالصه. والصِفوة _ بالكسر_: خيار الشيء وخلاصته وما صفا منه. والصَفِيُّ من الغنيمة: ما اختاره الرئيس من المغنم واصطفاه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيف أو غيره. واستصفيت الشيء إذا استخلصته. والاصطفاء الاختيار، افتعال من الصفوة. ومنه: النبي (ص): صَفْوَة الله من خلقه ومصطفاه.
ويتبين من معنى الاصطفاء لغةً، ومن سياق ورود هذا المفهوم قرآنياً، أن اصطفاء الله تعالى لأحد يعني شيئين:
1 - صفاء وخلوص ذلك المصطفى من الشوائب والثغرات، بأن يكون في قمة النـزاهة والكمال ذهنياً وسلوكياً.
2 - اختياره وتمييزه عن الآخرين وتقديمه لهم كرمز وقدوة، ليكون نموذجاً يقتفى ويهتدى به في طريق الخير والصلاح.
ولإرادة هذين المعنيين، كرّر الله تعالى ذكر الاصطفاء في خطابه للسيدة مريم ابنة عمران عليها السلام بقوله تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} (آل عمران/42). يقول ابن عاشور: وتكرر فعل اصطفاك لأن الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي، وهو جعلها منـزّهة زكية، والثاني بمعنى التفضيل على الغير، فذلك لم يُعدَّ الأول إلى متعلق، وعُدّي الثاني.
هذا الاصطفاء الإلهي الذي يعني وجود أفراد من البشر يجسّدون المبادئ والقيم في حياتهم، ويبلغون مستوى الطهارة والكمال، ويكونون قدوات وهداة لبني الإنسان على امتداد التاريخ، لم يجعله الله تعالى رتبةً خاصة بالرجال دون النساء، بل اصطفى عيّنات من النساء كما اصطفى من الرجال، ما يدل على قابلية المرأة وأهليتها لأعلى درجات الكمال، وأن تكون في موقع الريادة والاقتداء، وفي مستوى التفوق والامتياز على سائر بني البشر نساءً ورجالاً. يقول تعالى: {إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران/33). وآل إبراهيم وآل عمران فيهم الرجال والنساء. ومن النساء اللاتي نعرفهن: سارة وهاجر زوجتا إبراهيم (ع). ومن آل عمران مريم وأمها. كما نص القرآن الكريم على اصطفاء مريم (ع).
وحينما نـزل الوحي بآية التطهير لأهل بيت رسول الله (ص)، وهي قوله تعالى: {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} (الأحزاب/33)، فإنها شملت فاطمة الزهراء إلى جانب علي والحسنين (ع). يقول الشيخ ابن تيمية حول هذه الآية الكريمة: (وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة: أن هذه الآية لما نـزلت، أدار النبي (ص) كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين (ع). فقال: «أللهمَّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»، وسنـته تفسر كتاب الله وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه. فلما قال: «هؤلاء أهل بيتي»، مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواج، علمنا أن أزواجه وإن كنّ من أهل بيته كما دل عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته، لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر).
وبكل وضوح، يقدم القرآن الكريم المرأة المصطفاة كمثل ونموذج لجميع المؤمنين ذكوراً وإناثاً على مرِّ العصور، يقول تعالى: {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين* ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين} (التحريم/11_12).
[align=center]نبوَّة المرأة[/align]
الرؤية الإسلامية المتميزة للمرأة، والتي تقوّم المرأة من خلال إنسانيتها وقدراتها وإنجازاتها، ولا تعتبر أنوثتها معوّقاً، ولا نقطة ضعف تقعد بها عن بلوغ أي مستوى من التقدم والكمال.. هذه الرؤية دفعت بعض العلماء للنقاش حول موضوع نبوّة المرأة، وأنه لا مانع من أن يمنح الله تعالى رتبة النبوّة لبعض النساء، فمن الناحية العقلية، حين يبحث علماء الكلام الصفات التي يجب أن تتوفر في النبي، فإنهم لا يعتبرون الذكورة شرطاً، حيث لا يمتنع عقلاً أن تكون المرأة نبية، وإذا كانت هناك آيات في القرآن تفيد أنه من الناحية الفعلية كان الرسل رجالاً، كقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم} (يوسف/109). فإن العديد من العلماء والمفسرين قد أشاروا إلى أن المقصود بالرجولة هنا هو البشرية، في مقابل توقع البعض أن يكون الأنبياء فوق مستوى البشر، كأن يكونوا ملائكة، يقول تعالى: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة} (المؤمنون/24). قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم}: (والرجال: اسم جنس جامد لا مفهوم له. وأطلق هنا مراداً به أناساً كقوله: «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»، أي إنسان أو شخص، ليس المراد الاحتراز عن المرأة).
ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم من استخدام كلمة (رجل) بمعنى إنسان، كقوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} (الأحزاب/4)، وقوله تعالى: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله} (النور/37)، وقوله تعالى: {فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا والله يحبُّ المطّهِّرين} (التوبة/108) وغيرها، فإن المقصود هنا بالرجل والرجال ليس الذكور في مقابل الإناث كما هو واضح.
وأيضاً، فإن هناك من يفرّق بين الرسول والنبي، على أساس أنَّ كلَّ رسول مطلوب منه التبليغ والدعوة، بينما لا يلازم النبوَّة ذلك، وبناءً عليه، فإن الآيات إنما تنفي عن النساء الرسالة، ولكنها لا تنفي النبوَّة، كما يذهب إلى ذلك بعض علماء أهل السنة. يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري، عند شرحه لحديث رقم 3411 عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران...» قال ما يلي: (استدل بهذا الحصر على أنهما نبيتان، لأن أكمل النوع الإنساني الأنبياء والأولياء والصدّيقون والشهداء، فلو كانتا غير نبيتين للزم ألا يكون في النساء ولية ولا صدّيقة ولا شهيدة، والواقع أن هذه الصفات في كثير منهن موجودة، كأنه قال ولم ينبأ من النساء إلا فلانة وفلانة... وقد نقل عن الأشعري أن من النساء من نبىء وهن ست: حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية ومريم، والضابط عنده أن من جاءه الملك عن الله بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام مما سيأتي فهو نبي، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتى من ذلك ومن عند الله عزّ وجل، ووقع التصريح بالإيحاء لبعضهم في القرآن. وقال ابن حزم: وحجة المانعين قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً}، وهذا لا حجة فيه، فإن أحداً لم يدع فيهن الرسالة، وإنما الكلام في النبوة فقط). ونقل الألوسي البغدادي في تفسيره روح المعاني أنه: (ذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحَّح ذلك ابن السيد).
[align=center]فاطمة الزهراء (عليها السلام)[/align]
النصوص الواردة حول مقام فاطمة الزهراء عليها السلام، تدل على أنها في موقع الريادة والحجة الشرعية على الناس رجالاً ونساءً، إذ إن القرآن الكريم يحكم بطهارتها وانتفاء أي رجس عنها ضمن أهل البيت، بقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. كما أن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقها: «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني»، والذي رواه البخاري عن الميسور بن مخرمة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله عز وجلَّ ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»، والذي رواه الطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك، والذهبي في الميزان وغيرهم، وأحاديث عديدة أخرى، تقدِّم السيدة الزهراء كرمز وقدوة للأمة الإسلامية جمعاء، وبالطبع، فإن معنى ارتباط رضى الله برضاها، وغضب الله بغضبها، يدلُّ على عصمتها ونزاهتها وكمالها، وأن سلوكها وممارساتها، بل وحتى مشاعرها وعواطفها، منسجمة مع القيم الإلهية، لا تحيد عنها قيد شعرة، وإلا فكيف يرتبط رضى الله تعالى وغضبه بمن يصحُّ عليه الرضى والغضب النابع من الهوى والانفعال؟
وبناءً على ذلك، فإنَّ ما يصدر عن السيدة الزهراء من قول أو فعل أو موقف، فإنه يكون كاشفاً عن الأمر والتشريع الإلهي. فهي حجة شرعية على جميع الناس، وهي _ عليها الصلاة والسلام _ حجة على كل أولادها الأئمة الطاهرين عليهم السلام، ولذا قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: «وهي حجة علينا»، وقال الإمام الحجة عليه السلام: «وفي ابنة رسول الله لي أسوة حسنة». وقد قال الإمام الحسين عليه السلام: «أمي خير مني». هكذا يقدم الإسلام المرأة في مقام ريادي، وموقع قيادي، ليؤكد قابليتها واستعدادها للكمال والتفوق، تماماً كما هو الحال بالنسبة للرجل.
[align=center]المرأة والمعرفة الدينية[/align]
هل المؤسسة الدينية العلمية مؤسسة ذكورية لا مكان فيها للمرأة؟
وهل أن حركة الاجتهاد والفقاهة محصورة في الرجال محظورة على النساء؟
ولماذا لا نجد للمرأة المسلمة المعاصرة دوراً في الحوزات العلمية والمؤسسات الدينية وساحة النشاط الفكري الإسلامي؟
تفرض هذه الأسئلة نفسها من عدة منطلقات:
أوَّلاً: إن المرأة مخاطبة بالدين كالرجل تماماً، فالدين يخاطب الإنسان بقسميه الذكر والأنثى على حدٍّ سواء، وهو ليس للذكر أولاً وللأنثى ثانياً، ولا أن المرأة مخاطبة عبر الرجل وبالتبع له، بل هي مكلَّفة مباشرة من قبل الله تعالى ومحاسبة أمامه يوم القيامة كما هو الرجل. وحينما يأتي في القرآن نداء للناس، أو لبني آدم، أو للعباد، أو للإنسان، فإنه موجَّه بالطبع للذكور والإناث، كقوله تعالى: {يا أيّها الناس اتقوا ربكم إنّ زلزلة الساعة شيءٌ عظيم} (الحج/1). وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} (يس/60)، وقوله تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر/53)، وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه} (الانشقاق/6).
إن هذه الآيات وأمثالها نداءات من قبل الله تعالى للرجل والمرأة، وكذلك فالتكاليف والأحكام الشرعية موجهة لهما معاً. وباعتبارها مخاطبةً ومكلفةً، فهي معنية بتلقي الخطاب وفهمه، وبمعرفة التكليف وتبيّنه. ومن الطريف هنا أن ننقل الحديث المرويّ عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله، عنها أنها سمعت النبي صلى عليه وآله وسلم يقول على المنبر: «يا أيها الناس! وكانت الجارية تمشطها، فقالت للجارية: استأخري عني _ أي أمهليني حتى أسمع _ فقالت الجارية: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فأجابتها أم سلمة: إني من الناس».
ثانياً: مشاركة المرأة في الحركة العلمية، والنشاط الفكري والشرعي الإسلامي، يعني مضاعفة الجهود التي تبذل في هذا الميدان، فالمرأة نصف المجتمع، وتمتلك الطاقة والكفاءة، فإذا ما وجّهت قدراتها وإمكانياتها الذهنية والفكرية. في خدمة البحث العلمي الديني، أضافت إليه رصيداً كبيراً، وإثراءً عظيماً. بينما انكفاؤها عن هذا الميدان يعني خسارةً ونقصاً. وقد تكون عدم مشاركة المرأة في ميدان العلوم الدينية خسارة نوعية في بعض الأحيان، لأن مشاركتها لا تضيف رصيداً كمياً في الجهود العلمية المبذولة فقط، بل قد تقوم المرأة بدور مميَّز، وخاصةً في تنقيح الأحكام والموضوعات المرتبطة بشؤون المرأة، والقضايا المختصة بها، فالفقيه في ممارسته لاستنباط الحكم الشرعي، ليس جهاز حاسوب آلي، ينجز مهامه بعيداً عن أي تأثير، بل هو بشر تنعكس الأجواء المحيطة به، والمشاعر والتصورات التي يحملها على رأيه ورؤيته، بشكل أو بآخر، وخاصةً في مجال تنقيح الموضوعات الخارجية. فإذا امتلكت المرأة قدرة الاجتهاد والاستنباط، وتصدت لبحث القضايا والأحكام المرتبطة بها، ضمن الضوابط المقررة، فقد يكون تشخيصها أعمق وأدق في تلك الموضوعات.
ثالثاً: في هذا العصر، وحيث أصبح موضوع المرأة معركة صراع بين الحضارات والتوجهات، ووظفت الحضارة المادية وسائل الإعلام والمعلومات المتطورة، للتبشير برؤيتها وثقافتها، ولترويج أنماط السلوك الاجتماعية المنبثقة عنها، فإن من الضروري جداً أن تتسلَّح المرأة المسلمة برؤية الإسلام، وأن تتحصَّن بمفاهيمه ومناهجه، حتى لا تقع فريسةً لتأثيرات الأفكار والبرامج الوافدة، خاصة وأنها تستهدف المرأة بدرجة أساسية، وأيضاً لتكون المرأة المسلمة هي خطُّ الدفاع عن تعاليم الإسلام، والمبشّرة بمفاهيمه وقيمه الأخلاقية الاجتماعية، على مستوى العالم.
إن مؤتمرات كبرى عالمية تعقد حول موضوع المرأة، كمؤتمر (نيروبي) عام 1975م، ومؤتمر (بكين) عام 1995م، ضمن سياق إبراز النموذج الغربي للمرأة، وتعميمه لكل المجتمعات البشرية، وهناك سيلٌ لا ينقطع من البرامج الإعلامية والثقافية، عبر الأفلام والمجلات، والمؤسسات الاجتماعية الضخمة، التي تدفع بهذا الاتجاه، فإذا ما كانت المرأة محدودة المعرفة والوعي الديني، أو لم تكن مفاهيم الإسلام واضحة وراسخة في ذهنها وفكرها، فإنها لن تصمد أمام هذه الثقافة الغربية الزاحفة. إن تفقه المرأة في الدين، وإلمامها بمعارفه، وتعمقها في فهم أحكامه ومناهجه، هو الذي يؤهلها للقيام بدور الدعوة إلى الإسلام، والتبشير بنموذجه للمرأة على الصعيد العالمي.
[align=center]المرأة والتنافس العلمي[/align]
بالعلم تميّز الإنسان على غيره من المخلوقات، ونال الجدارة من الله سبحانه بأن يكون خليفته في الأرض: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة} (البقرة/30)، ولما تساءلت الملائكة عن مدى صلاحية الإنسان للقيام بهذا الدور، وهو ينطوي على غرائز وشهوات قد تقوده إلى الإفساد في الأرض، أجابهم الخالق القدير بإظهار ما منحه تعالى للإنسان من قدرة على التعلّم، وكفاءة في كسب المعرفة، يقول تعالى: {وعلَّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم* قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السماوات والأرض} (البقرة/31-33). وهكذا أصبح العلم ميزة للإنسان، وصفة نال بها الجدارة للخلافة في الأرض، وكلما زاد علمه زاد تميّزه، واتسعت قدراته لتسخير قوى الطبيعة، واستثمار طاقات الكون والحياة.
وكما تميّز الإنسان على غيره بالعلم، فإن أفراد الإنسان يتمايزون فيما بينهم ويتفاضلون بالعلم أيضاً: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة/11) {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر/9). وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أكثر الناس قيمةً أكثرهم علماً، وأقل الناس قيمة أقلّهم علماً». فباب العلم مفتوح للراغبين فيه، وساحته ميدان سباق للمتنافسين على مقاماته. وكل إنسان مؤهل للولوج إلى هذا الميدان، بما منحه الله تعالى من نعمة إدراك وتعقل، دونما فرق بين شقيه الذكر والأنثى. فالمرأة كالرجل، توازيه في إنسانيته، وتشاركه في القيام بدور الخلافة، وتحمّل مسؤولية عمارة الأرض، وقد منحها الله تعالى كالرجل نعمة العقل، وقدرة الإدراك والمعرفة، ولا تختلف عنه في كونها تملك استعداداً وقابلية تامة لإدراك الحقائق والمفاهيم، وتملك القدرة على العلم والتعلم، والسير في هذا الطريق إلى أقصى غاياته.
بل إن دماغ النساء يحتوي على خلايا الدماغ المسماة العصبونات، بنسبة تزيد بحوالي 10% عن دماغ الرجال، بالرغم من أن الرجال بصفة عامة أكبر حجماً من النساء، وأدمغتهم كذلك أكبر حجماً. والتفاوت في حجم الدماغ لا يؤثر في مستوى فعاليته، وإلا فدماغ الفيل يزن حوالي 6 كيلوغرامات، بينما دماغ الإنسان لا يزن أكثر من 1300 غرام. وقد نشرت الدكتورة (كيمورا) الباحثة في الأسس العصبية والهرمونية للوظائف الفكرية _ الذهنية _ لدى الإنسان، وهي أستاذة في علم النفس في جامعة غربي أونتاريو، نشرت بحثاً علمياً حول الفوارق في الدماغ بين الجنسين، أكدت فيه وجود تفاوت متبادل في بعض الجوانب والمهارات، حيث يقابل تفوق كل طرف في جانب، تفوق الطرف الآخر في جانب آخر، وخلصت إلى «أن الفوارق الجوهرية بين الجنسين، تكمن في الطُرُز المختلفة للمهارات الفكرية التي يتمتع بها كل منهما، أكثر مما هو راجع إلى المستوى العام للذكاء (حاصل الذكاء)، فمن المعروف أن هناك تفاوتاً بين الناس في قدراتهم الذهنية: فمنهم من يبرع في الجوانب اللغوية، ومنهم من يجيد الأعمال اليدوية، وهكذا يمكن لشخصين أن يتمتعا بمستوى واحد من الذكاء، مع اختلاف في نمط المهارات التي يجيدها كل منهما».
[align=center]العلم فريضة على المرأة[/align]
من هنا، فإن دعوة الإسلام الإنسان إلى طلب العلم، وحثّه البليغ على كسبه، موجهة إلى المرأة، كما هي موجهة إلى الرجل، وليس هناك نص واحد من آيات القرآن الكريم، أو أحاديث السنة الشريفة في هذا السياق مقتصرة على الرجل وحده. ولزيادة التأكيد على هذه الحقيقة، فإن الحديث الشريف المرويّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصحبه وسلم، والذي يعتبر طلب العلم فريضة واجبة وليس أمراً ثانوياً كمالياً، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم _ هذا الحديث ورد في إحدى صيغه إضافة _ ومسلمة». مع أن «كل مسلم» موضوعه الشخص، فيشمل الذكر والأنثى، على حد تعبير أبي الحسن الحنفي السّندي في شرحه لسنن ابن ماجة القزويني، إلا أن ورود لفظة «ومسلمة» هو لمزيد التأكيد على شمول الأمر للرجال والنساء. وقد وردت هذه الإضافة «ومسلمة» في الحديث، ضمن مصدرين حديثين، هما (غوالي اللآلي العزيزية) لأبي جمهور الأحسائي، و(مصباح الشريعة) المنسوب للإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، كما نقل عنهما الشيخ المجلسي في (بحار الأنوار)، أما المصادر الأساسية الأخرى، كسنن ابن ماجة والأصول من الكافي للشيخ الكليني، فلم ترد فيها هذه الإضافة.
بقي أن نشير إلى أن العلم الذي يكون طلبه مفروضاً شرعاً، هو ما تتوقف عليه حياة الإنسان الدنيوية ومصيره الأخروي.