الدكتور الجعفري ... الازمة المفتعلة (1)
الدكتور الجعفري ... الازمة المفتعلة (1)
أرض السواد : رائد سلام
لاحت في بداية محادثات تشكيل الحكومة العراقية بوادر اختلاف في وجهات النظر بين الكتل السياسية، سرعان ما تحولت الى ازمة خانقة، اخذت تتعمق كلما طالت فترة المحادثات. ورغم تأكيد القادة السياسيين على حصول تقدم واتفاق حول اكثر القضايا الا انهم يؤكدون ايضا عدم الاتفاق حول قضايا اساسية، كالملف الامني ومنصب رئيس الوزراء. وتبدو المسألة الاخيرة العقبة الكأداء على طريق الانفراج السياسي، وما لم تتفقِ الاطراف السياسية على حل حقيقي سوف لن تولد حكومة وحدة وطنية، وربما سيتفاقم الامر، وتكون له تداعيات اخطر بكثير من الجمود السياسي الذي يعيشه البلد منذ عدة شهور. بل اذا لم يتوصلوا الى حل لا يتنافى مع الدستور والديمقراطية اللذان هما الركيزتان الاساسيتان في العملية السياسية سيفقد المستقبل السياسي مصداقيته، ويدخل البلد من جديدة في دوامة صراع سياسي، وتفقد الاحزاب السياسية مصداقيتها وشعبيتها، وربما تفضي الازمة السياسية الحالية الى حرب اهلية طويلة الامد.
واخطر ما في الازمة انها استغلت من بعض الاطراف، وراحت اطراف اخرى توظفها لمصالح سياسية وطائفية، وبات الامر كأن الدكتور الجعفري متشبث بمنصب رئيس الوزراء، وان في تخليه ستسوى الامور وتعود المياه الى مجاريها، بينما الامر ابعد من ذلك بكثير، وهناك مخططات يراد تمريرها من خلال خلط الاوراق وتظليل الرأي العام. لذا نجد من الواجب بيان خلفية الازمة السياسية الحالية. من يقف وراءها؟ ولماذا الدكتور الجعفري بالذات؟ ولماذا تكال الامور بمكيالين؟ ومن المستفيد من الازمة؟ كي نكون اوفياء لشعبنا ومبادئنا التي آمنا بها.
لقد بات الشعب قلقا جدا على مستقبله السياسي، وينتظر وضع النقاط على الحروف، كي لا يستغل او يستغفل، فيكون الخاسر الاول في المعركة، ويخطأ من يعتقد ان التحديات التي يواجهها الشعب تمنعه من متابعة فصول المسرح السياسي، بل هو يقظ ويهمه الالتزام بالدستور والديمقراطية كضامن وحيد لحقوقه المشروعة اساسا. ولا ننسى ان اطرافا سياسية تخلت عن العنف املا في تحقيق اهدافها من خلال العملية السياسية المرتكزة الى مبادئ الديمقراطية، وحينما تخفق العملية السياسية ويلتف حولها المغرضون والنفعيون، سيعم العنف جميع مناطق العراق.
اسس العملية السياسية
قبل الدخول في تفصيل الازمة السياسية الحالية علينا التعرف اولا على اسس العملية السياسية كبارومتر ومقياس نحتكم له في تحديد مصداقية أي فعل سياسي، وينبغي عدم الانجرار الى أي شيء لا يملك رصيدا دستوريا كمصطلح (الاستحقاق الوطني) الذي باتت تطالب به اطرافا في الساحة السياسية.
اولا: الدستور
يعتبر الدستور اهم انجاز سياسي في تاريخ العراق الحديث، كما ان التصويت عليه من خلال انتخابات عامة يعتبر خطوة مكملة اخرجته من القوة الى الفعل، وحولته من مواد قانونية مدونة على الورق الى مادة حيوية توجه حركة الدولة والمجتمع، وتضبط سلوك القادة السياسيين والمسؤولين الحكوميين. فالدستور هو الاساس الاول في العملية السياسية برمتها.
ولا يمكن للدستور ان يكون فعليا ما لم يحم ِ مصالح الشعب، ويلتزم به المسؤول الحكومي اولا، ويحتكم له رجال السياسة وقت الازمات. وفي غير هذه الحالة يفقد الدستور مصداقيته، ويتحول الى اداة لقمع الشعب ومصادرة حقوقهم في الاحتكام له.
لقد كانت عملية كتابة الدستور مضنية واستهلكت زمنا طويلا، بسبب التنوع السياسي والقومي والديني في البلد، وبسبب كثرة الاهداف والامنيات التي يريد كل طرف ادراجها في الدستور، حتى تعذر التوافق، واعيد صياغة مسودته اكثر من مرة. واخيرا قال الشعب العراقي كلمته فيه، وصوت لقبوله مرجعا قانونيا اعلى في البلاد. وهذا يعني ثمة التزامات لا يمكن لاي شخص التخلي عنها، منها الاحتكام له وعدم سن قوانين او انظمة تتعارض مع مواده، كما لا يمكن لاي سلطة عليا اخرى منافسته، الا اذا نصت عليها احدى مواد الدستور.
والاهم من كل ذلك، لا يحق لاحد الاعتراض على أي مادة دستورية بعد التصويت عليه من قبل الشعب. فمثلا لا يحق لاحد الاعتراض على سلطة رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء او رئيس السلطة القضائية المخولة له دستوريا وقانونيا، كما لا يحق لاي جهة ان تسلبه حقه في ممارسة سلطته. ويبقى للجميع الحق في محاسبة المسؤول الحكومي عن مدى التزامه بالدستور، ويحق لمجلس النواب استدعائه ومحاسبته عن كل فقرة تجاوز بها الدستور او القانون.
فالاساس الاول في العملية السياسية اذن هو الاحتكام الى الدستور عند الاختلاف والتنازع بين الاطراف السياسية والحكومية، والالتزام بالنتائج القانونية المتمخضة عن الارتكاز الى سلطة الدستور. غير ان بعض السياسيين وللاسف يستغل جهل الشعب بتفصيلات الدستور (وليس مواده الاساسية) للطعن في خصمه السياسي، فيصدقه العامة من الناس، وهم لا يعلمون شيئا عن تفصيلات مواده القانونية، وهذا ما حدث بالضبط مع السيد رئيس الوزراء الحالي الدكتور ابراهيم الجعفري. اذ المعروف ان سلطات رئيس الوزراء من الناحية الدستورية صلاحية واسعة، وهو القائد العام للقوات المسلحة، ورئيس السلطة التنفيذية، وبامكانه اتخاذ قرارات لا تتصادم مع الدستور والقوانين المنصوصة، غير ان الخصوم صوروا ممارسة رئيس الوزراء لسلطاته الدستورية والقانونية على انها تفرد واستغلال للسلطة، او انها استبداد ودكتاتورية جديدة، واتهموه بالتفرد في اتخاذ القرارات وعدم مشاركته الاطراف الاخرى في اتخاذها، سيما رئيس الجمهورية. وفي الوقت نفسه يخفون على الشعب الاساس الدستوري والقانوني التي تخول رئيس الوزراء هذا القدر من السلطات. والحقيقة انهم يطمحون من جراء هذه الممارسات في تحقيق مكاسب اوسع، لا يسمح بها الدستور فيتهجمون على رئيس الوزراء وسلطاته الدستورية. وكان الافضل لهم الالتزام بالدستور ومعالجة المسألة دستورية، بدلا من خلط الاوراق وتظليل الرأي العام.
ثمة اطراف اخرى استغلت الوضع والظرف الذي يمر به البلد وراحت تتهجم وتتهم رئيس الوزراء بما ليس فيه لا بتزاز الائتلاف الذي ينتمي له الدكتور الجعفري، والحصول على قدر اكبر من المكتسبات والصلاحيات وان لم تكن صلاحيات دستورية.
اذن سنقيم الازمة السياسية واداء المسؤولين الحكوميين من خلال الدستور، لنتأكد من مدى الالتزام بمواده، كما سنعرض الدعاوى والاتهامات المطروحة في الساحة السياسية على الدستور ايضا، باعتباره الاساس في مشروعية أي فعل سياسي. فحينما تكون الدعاوى دستورية كذلك يجب ان تكون الحلول دستورية وقانونية، بينما سنعرض صفحا عن أي مسألة لا تتوفر فيها الصفة الدستورية والقانونية. فطموح الشعب في دولة قانونية تلتزم فيها الاطراف السياسية بمواد الدستور. والا فمع التنوع الواسع في الفكر والثقافة والدين والقوميات ستعم البلد فوضى سياسية عارمة، لا تستقر معها الاوضاع ابدا، وهو اشد خطر على الشعب من الارهاب والعمليات الارهابية، بل ستساعد الفوضى السياسية على تفشي الارهاب اكثر، هذا اذا لم تنزلق البلاد في حرب اهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر.
ثانيا – الممارسة الديمقراطية
كما اقتنع الشعب بالدستور مرجعيا قانونيا اعلى، كذلك اقتنع بالديمقراطية آلية ناجحة لتحديد المرشح الاوفر حظا في المناصب الحكومية، درأ للاستبداد والتفرد. وقد اثبتت هذه الالية نجاحها وفاعليتها ليس في العراق فقط بل في كل دولة التزمت بها حقيقة. أي ان شرط نجاح هذه الالية وفاعليتها هو الالتزام بنتائجها ايا كانت ما دامت مرتكزة الى الدستور، واما مع الالتفاف عليها فستتحول الى عبء سياسي كبير. وهكذا ساهم الشعب في بناء العراق الجديد من خلال المشاركة القوية في الانتخابات، التي افرزت كتلا نيابية متعددة مثلت الطيف العراقي بجميع تنوعاته. كما صوت الشعب على الدستور من خلال انتخابات حرة ديمقراطية، وبالفعل شعر الشعب انه يشارك حقيقة في صنع مستقبله، سيما على صعيد القرارات الخطيرة، كل ذلك من خلال الالتزام بالدستور والممارسة الديمقراطية.
لكن للاسف ان العملية الممارسة الديمقراطية قد ازعجت بعض الاطراف السياسية، وراحت تعمل جادة ليل نهار لاجهاض نتائج هذه الممارسة الناجحة. وبشكل ادق ان العملية الديمقراطية ارغمت هذه الاطراف على قبول نتائجها كي لا تفقد مصداقيتها، لكنها راحت تعيد خلط الاوراق بشكل آخر لتلتف على نتائج هذه الممارسة الحيوية التي لا تروق لها. فعندما تعترض هذه الاطراف على الدكتور الجعفري، وترفض توليه منصب رئاسة الوزراء فهي بالحقيقة تقف في وجه نتائج الممارسة الديمقراطية، باعتبار ان الجعفري رشح نفسه لهذا المنصب عبر انتخابات داخلية اجرتها الكتلة السياسية التي ينتمي لها، أي الائتلاف الوطني، الذي هو بدوره تشكل وفاز باعلى نسبة من مقاعد البرلمان من خلال الانتخابات التي جرت في البلاد. فليس من حق أي جهة الاعتراض على نتائج الانتخابات، والا فيمكن الاعتراض على كل النتائج، وتتحول الساحة الى فوضى عارمة.
نحن نعلم جميعا ان الانتخابات لا تتمخض دائما عن نتائج مرضية بشكل مطلق، الا انها ايضا افضل اسلوب وآلية لاختيار المرشحين، وافضل آلية لمشاركة الشعب في اختيار المسؤولين الحكوميين، سواء كان الاقتراع مباشرا او غير مباشر كما في العراق. اذ الثاني ايضا مشروعا من خلال انتخاب الشعب لاعضاء البرلمان (الجمعية الوطنية). وما دامت الاغلبية مع القرار فيجب على الاقلية الانصياع لنتائج الالية التي آمنوا بها. واما الفشل في تحقيق قدر اكبر من المكاسب في الانتخابات فانه لا يبرر لهم رفض نتائجها او الالتفاف عليها. من هنا يتضح للجميع ان الدفاع عن الجعفري في هذه الازمة هو دفاع عن الديمقراطية التي ارتكز لها الشعب وارتضى نتائجها، وضحى وتحدى الموت من اجل انجاحها، بل السكوت هو خيانة للشعب وحقوقه المشروعة، سيما مع وجود اطراف وجهات تعمل جادة من اجل الالتفاف على الديمقراطية ونتائجها التى آمن بها الشعب وقبل بها ولم يعترض عليها.
[email protected]