البنك اللاربوي في الإسلام // الشهيد السيد محمد باقر الصدر //
[align=center] البنك اللاربوي في الاسلام
اطروحة للتعويض عن الربا، ودراسة لكافة
أوجه نشاطات البنوك في ضوء الفقه الإسلامي
........................................
الطبعة السادسة
طبعة جديدة مزيدة ومنقحة
1400 هـ ـ 1980 م
........................................
كلمتنا
........................................ صفحة ـ أ ـ
بعد اليوم سوف لن يبقى الإسلام ثروة في صناديق.. ما دام إنسان اليوم قد بدأَ يتفهم الثروة ويُحسُّ إليها بالحاجة.
في عصر ما قبل النهضة، كان الإنسان في شرقنا وغربهم يبيساً يمتص ما لديه، لا يظن في ما حوله ينابيع يمكن أن تروِّي فكره وتطَرِّي حياته.
وفي غمرة النهضة، انطلق الإنسان يبني من عطائها وجه الدنيا، ويُطري لون الحياة.. حتى تمَّ له في سنين أن يقيم ما لم تستطعه أجياله المديدة.. أو تتخيله.
لقد استطاع الإنسان أن يُعطي وجه حياته العجوز وجهاً تملؤه النُّضرة والفتوة حينما استطاع أن يجعل من وجهه الشاحب وجهاً تملؤه القوة والأمل..
وكانت جهوداً كبيرة جهود الرحلة من أقصى السفح إلى أعلى القمة، جهوداً اعتصرت العقل والسواعد، ودَوَّخت الفضاء واستلَّت اللقمة من أفواه الكثيرين.. بما اقتضته من علم وعمل وتجربة ومال.
........................................ صفحة ـ ب ـ
وبعد غمرة النهضة، وجهودها المضنية، يقف إنسان اليوم في قمة منجزاته لِيتَنَسَّم الهواء.. فيُحس بالإختناق!
ما أعطى لحياته من كَدْح وبناء.. لم يقتل يبسها، ولم يُرطِّب نسماتها!
تكاد تطبق على الصدر تلك النسمات التي تحمل إليه جفاف جوع الملايين، وجفاف عُرْي الملايين، وجفاف قلق الملايين، وجفاف رائحة الجثث الكثيرة التي عافتها الضَّواري ولم تَعف إنتاجها حضارته!!
أنَّى بالنسمة الندية وهواء الحياة في هذا العصر مختنقٌ برائحة الظلم.
كذلك هو إنسان اليوم في صرحه الحضاريّ الحديث. لم يجد له متنفساً في هذا الصرح.. ولم يعثر على نفسه.
* * *
وما بعد الضيق والضياع إلا أن يبحث الإنسان عن نفسه في جديد، وعن حياته في جديد.
هل سيستطيع الإنسان كما كافح يأسه أن يكافح ضياعه؟ وكما أعطى لحياته البناء أن يعطي لبنائه الحياة؟
هل من جديد في تفسير الحياة وإدارتها وتَنْدِية هوائها.. يردُّ عليه منجزاته التائهة، ونفسه المفقودة؟
........................................ صفحة ـ جـ ـ
هنا يقول المطلعون على الإسلام: سيعثر الانسان على هذا الدين وسيجد نفسه في دفئه، وحياته في أفقه.
سيعثر الإنسان على الاسلام: فلسفة حياة تستطيع أن تهضم حصيلته الجديدة من المعرفة فتمنهجها وتبلورها وتسندها.
وسيعثر الإنسان على الاسلام: طريقة حياة تستطيع أن تستقطب تكنيته وآلاته فتطورها وتوجهها.
وفي ذلك لا جِدّة على الاسلام ولا استكثار. فتلك هي طبيعة رسالة الله في صيغتها الخالدة، جديدة شاملة أصيلة، مهما تمّ في الحياة وإنسانها من تغيير وتطوير.
طبيعة رسالة الله للإنسان أنها حكاية الوجود وطريقة الحياة، الوحيدة أبداً، الجديدة دائماً.
إنه لا جديد في أن تملك الحقيقة الموضوعية في ذاتها إثبات ذاتها.. لا جديد على الإسلام أن يكون ضَالَّةَ الإنسان في القرن العشرين.. أو الستين. وإنما الجديد في الانسان أن يدع ضلالته ليجد ضالَّتَه..
وهذا ما سيتم للإنسان ولو بعد حين.
* * *
نعم؛ أن يعودَ الانسان إلى ربه يتلقى منه منهجه وهداه، وأن يعودَ الاسلام عقيدة الحياة وطريقة عيشها ويتبخر ما عداه،
........................................ صفحة ـ د ـ
حتميةٌ ضاربة الجذور في أعماق الوجود، مستشرفة الأغصان إلى مستقبله السعيد.
وهي حتميةٌ بدأَ يفتح بابها للإنسان المعاصر إفلاس نهضته الحديثة ويبس حضارته الحديثة.
وهي كذلك حتميةٌ تتطلب الجهود الكبيرة ما دامت حركةً كبيرةً في المحتوى العقلي والنفسي للإنسان.
ومن هنا كان وُعَاة الإسلام ودُعَاته أمام مسؤولية كبيرة وتاريخية.. مسؤولية تقضي بمضاعفة الجهود لهذا الدين من أجل أن نقيم من كلمة الله سبحانه مشعلا للإنسان في الوقت الذي بدأ يرى أن شموعه التي يرفعها لا تضيء.
ومَن أجدر من جامعاتنا العلمية كجامعة النجف والأزهر ودمشق والقرويين والزيتونة وعليكرة وقم وأمثالها بالنهوض بهذه المسؤولية وهي جامعات عاشت في مهد الاسلام وعاش الاسلام في مهدها.
إن على حملة الإسلام في هذه الحواضر وحملته في كل مكان من أرض الله أن يرتفعوا بجهودهم إلى مستوى العمل لرسالة الله سبحانه.
ومستوى العمل للعقيدة الالهية، في هذا العصر، أن يُنْظَر إلى أحدث ما بنَتْه العقيدة المادية من فلسفات ومناهج ثم تستَنْطق العقيدة الالهية لتأتي على تلك الفلسفات والمناهج وتقيم على أنقاضها صرح كلمة الله سبحانه.
........................................ صفحة ـ هـ ـ
ومع عِظَم المسؤولية عظيم أمل ..
أمل لا يستمد عمقه من حتمية الهدى فحسب، بل ومن العطاء الفكريّ الاسلامي الذي توفق لتقديمه حملة الإسلام في العشرين سنة الأخيرة عطاء اضطر الكثيرين من مفكري العالم ومن الناس أن يعدلوا عن اعتبار الاسلام (ديناً) بمفهومهم عن الدين ويعتبروه رسالة حياة تملك الوقوف إلى جانب فلسفات الإنسان ونظمه الحديثة، بل وتملك مقارعتها.
ومن أطرف ما نلاحظ من مفكري الحضارة الحديثة موقفهم حينما يرون عطاء إسلامياً يهزم ما بنوا من عقائد، ويُفلِّس ما وضعوا من تشريع.. نراهم يقولون:
عبقريٌّ هذا المؤلف كيف استطاع أن يقيم من (الدين!) فلسفة حياة أو مذهب اقتصاد!
يستكثرون هذا الإبداع على دين الله.. فيضيفونه إلى واحد من عباد الله!
مع ذلك.. فهذا بداية تفهم للثروة وإحساس بالحاجة إليها.
وما بعد البداية أن يفهم أولاء أن قضية هذا الدين واقع حياتي كبير، وأن العجائزية والأسطورة والكهنوت كضلال الإنسان كانت أستاراً دون الرؤية.. رؤية الحياة في هذا الدين.
........................................ صفحة ـ وـ
وما بعد البداية أن يدرك الإنسان أن أُفق الرؤية إنما هو في سطور كتاب يدعى القرآن، وفي صفحات أشخاص يدعون محمداً وآله.
وحينئذ سوف لا يستكثر الإنسان إبداعاً من باحث وجده في دين الله فقدمه ولم يخترعه.. وسوف لا يستكثر الإنسان أن يوجد في دين الله الحلُّ لمشكلة الحياة الفلسفية، والحلول لمشاكلها الإجتماعية.. لأنه سيدرك أن الباحث في الإسلام يغترف من تفسير للحياة من صانِعِها، وتشريع للحياة من خَبِيرها.
إنه ليس أعظم خدمة للبشرية المعذبة من أن نقدم لها كلمة الله سبحانه في مختلف مجالات حياتها، وندعوها للسعادة في ظلها.
* * *
وكتاب (البنك اللاربوي في الاسلام) الذي يشرف مكتبتنا أن تقوم بنشره هو جزء من جهود جامعة النجف على يد أحد كبار فقهائها أعزه الله لتقديم كلمة الله سبحانه في جانبيها الفلسفي والتشريعي على وضح من تطوُّر الفلسفة والتشريع الحديثين.
وفضل التسبيب في هذا البحث (للجنة التحضير لبيت التمويل الكويتي) التي شكلت في وزارة الأوقاف لوضع نظام لبنك اسلامي لا ربوي فوجهت السؤال بذلك إلى عدد من كبار الفقهاء ليكون نظام البنك المذكور على هُدى النظام المصرفي في الاسلام.
وإن مما يسعد حقاً أن مواجهتنا لمشاكل النظام الربوي وآثاره السيئة أصبحت تبعث فينا التفكير في تطبيق النظام المصرفي الإسلامي.
........................................ صفحة ـ ز ـ
ومما يسعد أيضاً أن تتجاوب مع فكرة البنك اللاربوي بلدان اسلامية أخرى وتنوي إقامته حينما تتم تجربته في الكويت.
ذلك دليلٌ على أن أمتنا بدأت تتخذ الموقف الإيجابي من مشاكلها وتدرك أن في الإسلام ما يضمن لها الحياة الكريمة.
وليس أنفع في تعريف العالم بقدرة الإسلام على حل المشاكل الإجتماعية ـ بعد تقديمه بناءً فكرياً ومنهجاً كاملاً ـ من تقديم تجربة إسلامية حية.. في حقل صغير من الحياة أم كبير.
شكرنا لفقيه الاسلام المؤلف دام ظله على تفضله باجازتنا طبع هذا البحث.
وأملنا للبنك الإسلامي أن يشق طريقه ويثمر ثماره في وسط النظام الربوي ليثبت جدارة الإسلام بإدارة وتطهير هذا الجانب من جوانب حياتنا الإقتصادية.
وأملنا بالله سبحانه أن يأخذ بيد القائمين عليه ويوفقهم
وأن يأخذ بيد أمتنا لتفهم إسلامها وتطبيقه وهو سبحانه الموفق.[/align]