المرجعية الشيعية والسياسة في العراق / بقلم: الدكتور موسى الحسيني
المرجعية الشيعية والسياسة في العراق
بقلم: الدكتور موسى الحسيني
الفصل الاول: المرجع والمرجعية الاجتهاد والسياسة عند الشيعة
تناقش هذه المقالة السلوك السياسي للمرجعية الدينية الشيعية في العراق بهدف التعرف على الألية التي تتحكم بهذا السلوك، وتاثير ذلك على الواقع السياسي العراقي بمختلف تركيباته الطائفية والدينية، بهدف استشراف السمات السلوكية العامة التي يمكن ان تعتمدها المرجعية الحالية للتعامل مع الحدث العراقي في الوضع الراهن.
سيحاول الكاتب ان يتحاشى الخوض في الامور والمسائل الفقهية، فتلك شؤون تحتاج لذوي الاختصاص ممن تبحروا في هذه العلوم، ويعترف الكاتب بعدم المامه بها باستثناء ما هو شائع ومعروف للجميع، إلا انه مثله مثل سائر البشر يمتلك العقل، وهو احد الادلة الشرعة الاربعة عند الشيعة " فمنذ ان تم تدوين اصول الفقه عند الشيعة اعتبر العقل واحد من الادلة الشرعية، وقالو ان الادلة الشرعية اربعة: الكتاب والسنة والاجماع والعقل." اكثر من ذلك يتميز الرواد الاوائل للمذهب الشيعي بالتركيز على قيمة العقل واهميته في استنباط الحكم الشرعي الى الحد الذي اعتبرو فيه ان " كل ما حكم به العقل حَكَمَ به الشرع" كأحد قواعد اصول الفقه.
المرجعية، كما هو واضح من لفظها تعني الرجل أو المؤسسة التي يرجع لها الناس لمعرفة صحة أو خطأ موقفاً ما في الامور الخاصة بحقل ما من حقول المعرفة اي الخبير المتمكن من خبرته بموضوع اختصاصه، وفي مقالتنا هذه، المرجعية المقصودة هي المرجعية الدينية التي يعتمدها الشيعة لمعرفة احكام الدين في الشؤون العامة ، والطقوس المختلفة. وهي تكاد ان تكون محصورة بشخص واحد ، لا مؤسسة. فمن بين مجموعة المجتهدين ، في مرحلة زمنية خاصة ، تتمثل المرجعية في اعلم هؤلاء المجتهدين. هذا ما يؤهله لكسب اكبر قدر من المقلدين أو الاتباع. وهوبالتالي يصبح صاحب الحُكمْ أو الرأي الاول ، الذي يُلزم بطريقة غير مباشرة بقية المجتهدين بتحاشي أتخاذ موقف او رأي مخالف منعاً لتعريض سمعتهم أو مركزهم للتهديد. كما حصل مثلاً للشيخ منتظري في ايران الذي انزوى من الصف الاول للمرجعية الى صف المنسين من المجتهدين. او ما حصل للشيخ مهدي الخالصي ، وابنه الشيخ محمد ، من عداء وتشهير بسبب قناعاته الفقهية التي مثلت مدرسة جديدة في الفقه الشيعي. ( على انه لا يمكن تغافل اصول الخالصي العربية التي قد تكون سبباً اخر وراء ما تعرض له.)
ان الاجتهاد كمبدأ للتشريع برز عند الشيعة بعد غيبة الامام الثاني عشر ، وحاجة الناس لمعرفة احكام الدين. تلك المعرفة متوفرة ومعلومة لمن يريد الوصول لها في كتاب الله والحديث والسنة ، لكنها تحتاج لمقدمات أو وسائل عقلية او فكرية ، كالالمام بعلوم القرآن والتفسير ، والحديث والسيرة ، واللغة ، وغيرها من العلوم الاخرى ، اضافة الى أنها تحتاج لتوفر القدرات العقلية اللازمة للاستقراء والاستنتاج. وهذا يعني ان استنباط الحكم الشرعي السليم يحتاج لجهد ووقت غير عاديين ، لاتتوفران للانسان العادي . لذلك يتفرغ بعض الناس ، أو افراد قلائل لكسب هذه المعارف والعلوم ، تفرغاً قد يستمر لسنوات طويلة قبل ان يصلوا الى مرحلة القدرة على استنباط الحكم الشرعي الصحيح ، فيعتمدهم الناس حكاماً لمعرفة ما هو مبهم من الامور الدينية .
أرتبط مفهوم الاجتهاد بمفهوم أخر اصطلح على تسميته بـ - التقليد – اي ان يتبع الانسان أحد المراجع لمعرفة امور دينه. ومتى ما قلد الانسان مجتهداً ما ، لا يحق له تغيره ، مادام المجتهد حياً. ويحق له (المُقَّلدِ) ان يستمر في تقليد نفس المجتهد حتى بعد ممات هذا المجتهد . ولا يجوز الجمع بين مجتهدَّين او اكثر في وقت واحد . والانسان غير ملزم بتعاليم المجتهدين الاخرين.
يستمد المجتهد مكانته واحترامه كصاحب رأي او خبرة مميزة مثله مثل بقية المختصين في العلوم المختلفة ، إلا انه يتميز عن غيره في انه اكثر ارتباطاً بالانسان العادي ، وهو يمارس حياته اليومية ، ويصبح المجتهد بذلك اقرب لشخصية زعيم الجماعة او قائدها بأعتبار انه يمتلك الصورة الاوضح ، او الاقرب للشريعة، وتغدو اراءه واحكامه الشرعية نموذجاً للسلوك الملزم لجميع اتباعه الراغبين في معرفة ما هو حلال والابتعاد عما هو محرم من المواقف الشرعية.
والالزام هنا طوعي، يعتمد على رغبة المُقلِدْ، بأعتبار انه محكوم بمبدأ الثواب والعقاب في الدنيا الاخرة ، ولا يمتلك المجتهد الحق بفرض احكامه بالقوة . اي ألزام بما شرعه الباري(عز وجل) ، وهو وحده العالم ، العارف بما يبطنه الانسان او يظهره ، ولم يمنح تعالى اسمه الوكالة عنه حتى لنبيه .
الملاحظ ، ومنذ منتصف القرن الماضي ، ظهر اتجاه عام لتضخيم هذه المكانه ، واضفاء صورة القدسية عليها. واصبح المجتهد يلقب بألقاب توحي وكانها امتداد للربوبية ، مثل اية الله، وحجة الله ، كما أضيفت صفة العظمى للدلالة على المرجع الاكبر بعد ان كان المرجع يستعمل القاب التصغير للدلالة على التواضع كلما ارتقت درجته ، ويستخدم لختم فتاويه بالتوقيع بعبارات "الفقير لله"، "والحقير لله".
اتخذ نزعة التضخيم هذه شكلاً مغالياً ومتطرفا مع ظهور الخميني ، الذي اعتبر ان الفقيه يمتلك صفات من القدسية تضعه جنباً لجنب في صف الائمة والانبياء واعتبار ارادته امتداداً لارادة الخالق . مستنداً في ذلك لبعض الاحاديث المنسوبة للامام الصادق ، التي لا يخفى على عاقل حجم الاختلاق الوارد فيها . منظوراً لها من خلال نظرية الحسن والقبح العقلين ، والتي اخذها رواد المذهب الشيعي الاوائل من المعتزلة.
يقول احد هذه الاحاديث: " الراد على الفقيه كالراد على الامام ، والراد على الامام ، كالراد على النبي ، والراد على النبي كالراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله."
او " علماء امتي بمنزلة انبياء بني اسرائيل."
لا شك ان واضع مثل هذه الاحاديث ينتمي لذلك النموذج من وعاظ السلاطين ممن لا يتحرج ان يختلق الاحاديث والروايات لتدعيم سلطة أو نفوذ " الحاكم بأمر الله " من الملوك والسلاطين ، وزعماء الجماعات .
تصدي السيد الخوئي لمثل هذه الاحاديث وتوصل الى انها احاديث قاصرة السند والدلالة. كما رفض الاخذ بها جميع المجتهدين الذين يمكن اطلاق مصطلح رواد لمدرسة النجف الفقهية، بما فيها المرجع الحالي السيد علي السستاني . أو رواد مدرسة الولاية الخاصة مقابل ما يمثله الخميني بأعتباره مؤسس مدرسة الولاية العامة للفقيه.
من الواضح جداً ، هنا ، اثر النزعات السياسية في مفهوم الاجتهاد وتطلعات المجتهد ذو الطموحات السياسية ، لاستخدام الاجتهاد في قيادة اتباعه ، وضمان مطاوعتهم الكلية له ، لقيادتهم بسهولة اكثر نحو الاهداف التي يرجو الوصول لها. فالخروج على المجتهد ، أو عدم اطاعته تحسب بحكم الشرك بالخالق ، ويحقق المرجع بذلك سيطرة سيكولوجية تتشكل داخل المنظومة النفسية للأنسان لتمنعه عن الاختلاف او التمرد وتضمن الخضوع التام للمرجع. كما ان مثل هذه التوجهات السياسية تعطي المجتهد حق استخدام الردع ضد مخالفيه على اساس انهم مشركين ، وليسوا معارضين ، ليقلل ذلك من رد فعل الناس ضد ممارساته القمعية . وهي ان جردناها قليلاً من لبوسها الروحي الذي حاول اتباعها اضافئه عليها ، لاتختلف في شئ عن نظرية " الخليفة الحاكم بأمر الله " ، التي ابتدعها الخلفاء الامويين والعباسيين من بعدهم وحاول ان يلعبها خلفاء بني عثمان عندما اجبروا واحدا من بقايا بني عباس التنازل لهم ليصبحوا بذلك وكلاء او امتداد لحاكمية الله .
كما تبدو هذه الاحاديث أقرب للبدعة التي تنسف جميع اساسيات المذهب التي وضعها رواده الاوائل، الذين قالو بتخطئة المجتهد بأعتبار " ان مختلف الناس يمكن ان يدركوا موضوعاً واحد بأدراكات مختلفة، فالحقيقة بالنسبة لكل فرد تختلف عنها بالنسبة للفرد الاخر."
يتماشى هذه الرأي مع النظريات السيكولوجية الحديثة التي تقر بتأثر الادراك كوظيفة عقلية ، بكثير من العوامل . فأدراك موضوع ما قد يختلف من فرد الى اخر ، بل يختلف ادراك الفرد الواحد لنفس الموضوع باختلاف الظروف البيئية وحتى السيكولوجية للفرد . فالمجتهد باعتباره بشراً لا يمتلك العصمة ، ويتأثر بمختلف المؤثرات السيكولوجية والاجتماعية والبيئية ، فهو يمكن أن يخطأ ويصيب . لذلك عرف الشيعة بالمخطئة مقابل مذاهب اسلامية اخرى ترى ان الفقيه او المجتهد لا يمكن ان يخطأ ، فعرفوا بالمصوبة ، يؤكد مطهري هذه الرأي بقوله : " لا يمكن ان نتصور المجتهدين مصيبين دائماً. أو أنهم لا يحتمل ان يخطئوا ، اذ كيف يمكن ان نقول ان ما يدركه المجتهد هو الحكم الحقيقي عينه . مع أن من الممكن جداً ان يختلف عدد من المجتهدين في رأي واحد في مسألة واحدة . أو ان مجتهداً واحد يمكن ان تكون له وجهتا نظر مختلفتان في وقتين متباعدين . فكيف يمكن اذن ان يكون مصيباً في نظرته دائماً ."
ان الاشكالية التي تطرحها مثل هذه الاحاديث ، هي ان عدم الالتزام برأي الفقيه هو شكل من اشكال "الرد" ويصبح بذلك كل الشيعة من مقلدي المجتهدين الاخرين ، في "حد الشرك"، فالمقِلد لاحد المجتهدين غير ملزم باعتماد احكام المجتهدين الاخرين. نفس الامر يمكن ان يقال عن بقية المسلمين من المذاهب الاخرى ، أو جماعات الشيعة الاخبارية ، او ذلك المحتاط الذي يجد في نفسه الكفاية لاستنباط الحكم الشرعي دون ان يحتاج لتقليد احدا من المراجع .
ان سيرة الائمة الاثني عشر (عليهم السلام)، ليس فيها ما يدل أو يوحي انهم ادعو مثل هذه القدسية المبالغ بها لانفسهم ، لذلك ليس من المنطق ان يمنحوا ذلك لأتباعهم . يذكر الدكتور عبد الله فياض ( وهو متهم بالطائفية وكان من أوائل اساتذة الجامعة الذين احالتهم سلطة البكر- صدام على التقاعد ) من خلال مناقشة لموقف الامام الصادق من حركات الغلو التي ظهرت في زمانه والتي تنسب له أو لأباءه بعض السمات والصفات القدسية ، مجموعة من الاحاديث . نذكر منها الحديثان التاليان ، اللذان يعكسان موقف الامام من هذه الحركات والتوجهات المتطرفة :
الاول: "أشهد اني امرؤ ولدني رسول الله (ص) وما معي براءة من الله ، ان اطعته رحمني ، وان عصيته عذبني ."
الثاني: "لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهداً من احاديثنا المتقدمة ، فان المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب اصحاب ابي أحاديث لم يحدث بها ابي ، فأتقوا الله ولا تقبلو علينا ما خالف ربنا تعالى ، وسنة نبيه محمد (ص)..."
المرجع بشر كسائر الناس ، وليس هناك من سند فقهي يمكن ان يضعه فوق مستوى البشر ، وما يمكن ان يتعرضوا له من ارتكاب للاخطاء ، حتى لو استند الادعاء بالقدسية على حديث او اكثر من احاديث الائمة ، فالثابت لدى محققي الشيعة " ان الغلاة كانوا ينتحلون الاحاديث عن الائمة ويضعونها على ألسنَّة دعاة من ثقات الشيعة المعتدلين ليضمنوا رواجها بين الناس بعامة وجماعات الغلاة خاصة ." وحدد هؤلاء المحققين شخصيات بعض من هؤلاء الغلاة ، أمثال بنان والمغيرة بن سعيد ، محمد بن بشير ، وابو الخطاب ، وغيرهم .
يحدد الشيخ محمد جواد مغنية في دراسته المعروفة عن "الخميني والدولة الاسلامية"، دور علماء الدين ، بانهم "يمتازون عن غيرهم بأنهم دعاة خير واصلاح ، يامرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر وفيما عدا ذلك فهم والناس بمنزلة سواء ."
الفصل الثاني: الاجتهاد والسياسة:
ان الجدل حول موضوع منزلة المجتهد واختصاصاته ، يتمحور اساساً على علاقة المجتهد بالسياسة ، اي ما اذا كان المجتهد يمتلك الحق في ان يكون حاكماً ومشرعاً ، نيابة عن الامام الغائب ، كما يرى اصحاب نظرية الولاية العامة ، أو يكتفي بالاختصاص في الافتاء والقضاء، اي "التصدي لنصب القيم والولي على العصر والمتولي على الاوقاف التي لا متولي لها والحكم بالهلال وغيرها". وهذا ما يفسر وقوف بعض المجتهدين في العراق موقف المتفرج من الاحداث السياسية التي مرت بالعراق ، ويمكن فهم بعض تدخلاتهم من باب علاقتهم المباشرة بالشرع ، كما حصل في فتوى المرجع السيد محسن الحكيم ضد الشيوعية في 1960. في حين وقف السيد الخوئي موقفاً محايداً من احداث انتفاضة اذار 1991، وما تلاها من عمليات قمع واسعة تعرض لها الشيعة (انصار الخوئي نفسه) .
يظل الجهاد ، ومقاومة المحتل الاجنبي : باعتباره ركناً اساسياً من اركان الاسلام ، هو الموقف السياسي الوحيد الذي يجمع عليه جميع المجتهدين من انصار المدرستين على انه واحداً من مهام المرجع الذي لا يحتاج للافتاء به الحصول على اذن مسبق من الامام . للشروع فيه. ويسمى بالجهاد الدفاعي ، تمييزاً له عن الجهاد الابتدائي اي ابتداء المسلمين بالهجوم على بلاد الكفار بغاية دعوتهم للاسلام والذي لا يجوز الا بفتوى مباشرة من الامام المعصوم .
يسجل تاريخ المرجعية الشيعية ، الالتزام الكلي بهذا المبدأ ، ليس فقط ضد الغزو العسكري المباشر ، بل ازاء اية خطوة مهما كانت صغيرة ، اذا كانت تشكل مساساً باستقلال وسيادة الدولة الاسلامية ، كما حصل في قضية التنباك المشهورة ، حيث منح شاه ايران ناصر الدين امتياز احتكار التنباك وبيعه في كافة انحاء ايران لشركة بريطانية عام 1891. مما دفع المرجع الميرزا محمد حسن الشيرازي لتحريم استعماله ، وهذا ما اجبر الشاه على التراجع ، والغاء الاتفاقية. كما استجاب شيعة العراق ومراجعهم لدعوة الجهاد التي اعلنها المراجع في ايران ضد الاحتلال الروسي لمدينة تبريز الايرانية عام 1911.
قد يوحي الحدثان ، وكان مجتهدي الشيعة معنيين فقط بالشؤون الايرانية ، وباعتبار طبيعة الحكومة التي تتبنى المذهب الشيعي ، الا ان موقفهم ازاء كثير من الاحداث التالية التي مرت بالبلاد العربية والعراق ، تبعد مثل هذا التصور ، فقد اشترك مجتهدين الشيعة مع اخوتهم من علماء السنة بالفتوى بالجهاد عن طرابلس الغرب( ليبيا حالياً). عندما تعرضت للاحتلال الايطالي عام 1911. وليبيا عملياً موطناً للمسلمين السنة ، تابعة للدولة العثمانية ، التي ظل التمييز الطائفي ضد الشيعة يحكم سلوك خلفائها وسلاطينها حتى سقوطها. الامر نفسه يمكن ان يقال عن حركة الجهاد التي قادها علماء الشيعة لمواجهة طلائع الاحتلال البريطاني في العراق عام 1914، حيث سار مجتهدي الشيعة شوطاً بعيداً في الدفاع عن الدولة العثمانية ، ولم يكتفوا بالافتاء بالجهاد ، بل تبوء معظمهم ادواراً قيادية ميدانية ، وساروا على رأس حملات عسكرية لتجمعات من المجاهدين المتطوعين لمواجهة قوى الاحتلال، كالسيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ مهدي الخالصي، والسيد محمد الحيدري وكثيرون غيرهم .
سجل هؤلاء العلماء مواقف مميزة من الاستعداد للتضحية بالنفس والمال في مقاومة المحتل ، ويدون لهم التاريخ " انهم لم يكتفوا بأنفاق المبالغ التي وضعت تحت تصرفهم على حركة الجهاد ، بل زادوا على ذلك فأنفقوا من اموالهم الخاصة أو من الحقوق الشرعية التي كانت تُقدم لهم . وقيل عن الحبوبي بوجه خاص انه كان غنياً له املاك خاصة فرهنها لكي ينفق منها على المجاهدين ."
عندا تحقق لقوات الغزو البريطانية الانتصار على القوات التركية ، وقوات المجاهدين ، واحتلال العراق . وتوجه القوة المحتلة لتنصيب برسي كوكس حاكماً للعراق ، كما هو حالة بريمر الآن . تحرك علماء الشيعة بقيادة الميرزا محمد تقي الشيرازي والشيخ مهدي الخالصي لمواجهة واحباط مخططات المحتل، وقيادة ثورة 1920 التي اجبرت البريطانيين على التراجع ، والخضوع لارادة العراقيين بأختيار فيصل الاول ملكاً على العراق .
يسجل التاريخ ايضاً ، لكل من الميرزا محمد تقي الشيرازي ، والشيخ مهدي الخالصي ، ومن أزّرهما من العلماء ، ارتقاءهم فوق مستوى الانتماءات الطائفية ، ليبرزا كقائدين لجميع العراقيين وبمختلف طوائفهم. واذا كان الموت قد قطع الدور الذي تبوءه الشيرازي ، ظل الشيخ مهدي الخالصي يتحرك كقائد لكل العراقيين في تصديه لترسيخ اهداف ثورة العشرين ومنع توقيع المعاهدة التي ارادت بريطانيا ان تقيد بها العراق ، وتنتقص من استقلاله . اضافة لتحركه بالمطالبة ببناء قوات مسلحة وطنية تتولى الدفاع عن امن البلاد وحدوده ، بعد ما عرف بغارة الاخوان على عشائر مدينة الناصرية في 11/أذار/1922.
تلك المطالبة التي كانت تعبر عن رغبة العراقيين بكل طوائفهم ، ووقف السنة كما هم الشيعة جميعاً خلف الخالصي ، وشارك علماء السنة بقيادة عبد الوهاب النائب في مؤتمر كربلاء الذي دعى له الخالصي ، كما شارك مندوبوا وممثلوا المدن السنية الموصل ، وتكريت ، وعشائرهما في المؤتمر. وارسل اهاليهما برقيات تاييد للشيخ الخالصي تؤكد على استعدادهم "لتنفيذ اي قرار يصدر منه بأموالهم وأنفسهم" ترأس وفد تكريت في هذه المؤتمر مولود مخلص ، كما ترأس كل من سعيد ثابت وعجيل الياور وفد الموصل .
جرى هذه في الوقت الذي أنشق فيه بعض شيوخ العشائر الشيعة على الخالصي ، وعقدوا مؤتمر في الحلة ، يؤيد توقيع المعاهده ، ويطالب بتفويض قوات الاحتلال مهمة الدفاع عن العراق ، ورفض تشكيل جيش عراقي مستقل . ونذكر هناك حقيقة كون تشكيل الجيش العراقي كان مطلباً شيعياً ، وليس كما يحاول ان يروج بعض مزوري التاريخ من الشعوبيين من انه اسس لقمع الشيعة ، وضد رغبتهم وارادتهم ، ولم تكن هذه الدعوات الشعوبية الا مقدمات لتدمير الدولة العراقية بالاحتلال كما حصل فعلاً .
وهكذا وقف مع الخالصي غالبية الشعب العراقي من الشيعة والسنة باستثناء قلة من الطرفين كانت قد حسمت موقفها مع المحتل الاجنبي دون اعتبار لقيم دينية او طائفية او وطنية.
الفقيه الشيعي ، اذاً ، وان كان من مدرسة الولاية الخاصة ، وغير معني شرعاً بالسياسة ، إلا انه مكلف تكليفاً شرعياً بأتفاق الاراء بمقاومة اي شكل من اشكال الاحتلال ، ولاي بقعة من بلاد المسلمين ، واذا كان هناك حالات شاذه قليلة حاولت ان تتخذ من مفهوم الولاية الخاصة غطاء لتتهرب لسبب أو اخر عن اداء هذا التكليف الشرعي . كما هي حالة السيد كاظم اليزدي الذي كان يتهرب عن دعم ومؤازرة المطالب الشعبية العراقية ، بالاستقلال ، وتعين حاكم عربي مقابل توجهات قوى الاحتلال البريطاني لتعيين حاكم بريطاني في العراق عام 1918، بقوله "انا كرجل دين لا يعرف غير الحلال والحرام ، ولا دخل له بالسياسة مطلقاً، فأختاروا ما هو اصلح للمسلمين ."
ان شذوذ السيد اليزدي هذا ، لا يلغي حقيقة اجماع فقهاء الشيعة اصحاب المدرستين على مبدأ مجاهدة اي شكل من اشكال الغزو والاحتلال الاجنبي لاي بقعة من ارض المسلمين ، بغض النظر عن طبيعة الحكم ، وشخصية الحاكم .
الفصل الثالث: موقف الائمة المعصومين من الاحتلال الاجنبي
من الصعب الحكم بالاصل الشرعي لمسؤولية الفقيه عن الجهاد الدفاعي ، إلا ان مراجعة سيرة الائمة من آل البيت ، قد تفسر ذلك الاجماع باعطاء الاولوية لمقاومة الاحتلال الاجنبي حتى على مقاومة الحاكم الظالم ، أو غير الملتزم بتطبيق الشريعة الاسلامية . فمن الروايات الشائعة عن الامام علي (ع) ، ما عبر به أمام جيشه في معركة النهروان ، عن استعداده للتغاضي عن انشقاق معاوية ، ووضع يده بيد معاوية للتوجه لمقاومة الروم الذي استغلوا انشغال المسلمين في حروبهم الداخلية ليحتلوا قرية في شمال بلاد الشام تابعة ادارياً لسلطة معاوية (وليس لسلطة الامام) .
وكان أحد الخيارت التي عرضها الامام الحسين عند محاصرته في كربلاء من قبل جيش عمر بن سعد ، هو ان يتركوه ، ما داموا مصممين على قتله ، ليلحق بجيوش المسلمين للدفاع عن الثغور ليقاتل هناك حتى يُقْتلَ .
تلك كانت جيوش الدولة الاموية ، الخاضعة لسلطة يزيد بن معاوية ، الذي خرج الحسين (ع)ليقود الثورة عليه.
يقدم الامام الرابع علي زين العابدين بن الامام الحسين (ع) ، منهجاً واضحاً للتمييز بين دولة المسلمين وحاكمها الظالم أو الغير ملتزم بالشريعة الاسلامية ، من خلال الدعاء المعروف بدعاء الثغور ، وهو أحد أدعية الصحيفة السجادية التي يعتز بها الشبعة جميعاً بمختلف توجهاتهم ومدارسهم الفقهية. الغاية من الدعاء هو شد أزر ودعم معنويات الجنود المسلمين المقاتلين دفاعاً عن ثغور المسلمين ، مع انهم جنود الدولة الاموية ، اي انهم مقاتلي نفس الجيش الذي قتل ابيه وسبعون من اهله وأعوان ابيه ، وأسَّرَه وبقية أسرته من النساء والاطفال. ومع ذلك يدعو الامام زين العابدين لهم بالنصر ، بمفردات ملهوف يستخدم فيه كل عبارات التمني بالانتصار ، وبكل عبارات الكره ، وتمني الشر لاعدائهم . اغرب ما في الامر ورغم ام ادعية الامام زين العابدين (ع) شائعة جدا ويروج لها بكل المناسبات ، لكن هناك تغييب يبدو مقصود لهذا الدعاء ، الذي لايعرف به الا قلة من الشيعة . (تكرر قناة المنار اللبنانية التابعة لحزب الله يوميا قراءة هذا الدعاء وكانها تريد ان تذكر رجال الدين الشيعة بالامر ، وان تقول بشكل غير مباشر ما نقول نحن هنا بوضوح ) .
التراث الشيعي اذاً وكما يتمثل من خلال سيرة ائمتهم الابرار ، الذين وان ابتعدوا عن طلب الحكم والتدخل بالسياسة ، حتى في ظل سلطة حاكم جائر ، إلا انهم كانو قد جسموا موقفهم من اية قوى محتلة غازيه يمكن ان تتطاول على بلاد المسلمين ، ينسون معارضتهم او سلبيتهم تجاه السلطة الحاكمة ، ويستنهضوا شيعتهم واصحابهم لمقاومة الغازي. كان موقفهم من الوضوح بحيث لم يستطع جميع فقهاء الشبعة تجاوز الأمر ، فأقروا جميعاً وعلى امتداد المسيرة الطويلة لمبدأ الاجتهاد بواجب الجهاد الدفاعي ، لا يعفيهم عن هذا الواجب ، قرارهم بالولاية العامة أو الخاصة.
ينتمي المرجع الحالي السيد علي السستاني لمدرسة الولايه الخاصة ، وهو لم يتخلى عن اداء واجبه الشرعي بالافتاء بالجهاد لمواجهة الغزو الاميركي. فكما عرض تلفزيون بغداد ، ولايام قليلة قبل العدوان السيد عدنان البكاء ، وهو يقرأ نص الفتوى ، التي لم تأخذ صداها المطلوب ، لعل سبب ذلك اعتقاد الناس ان تكون الفتوى ملفقة ، أو ان السيد كان قد دبجها تحت ضغط السلطة . وفي هذا تجني على السيد ، فالشجاعة شرط من الشروط الشرعية للاجتهاد. ولايمكن ان يتحمل السيد هذه المسؤولية ، وهو على ما هو عليه من الورع والتقوى ، فيظل صامتاً على هذا التزوير مع ان له كثير من الوكلاء والمكاتب المنتشرة في كافة انحاء العالم ، يستطيع من خلالها على الاقل تكذيب خبر الفتوى ، والتقية بمثل هذه الامور باطلة ، فالغاية الاساس من التقية هي الحفاظ على الذات ، والافتاء بالجهاد قد يعرض ارواح الكثير من الناس للموت ، يعني ان درء الاذى لا ينسجم مع القول بمبدأ الجهاد .
إلا ان ما يثير الاستغراب ، موقف السيد السستاني بعد الحرب ، وانتصار قوى الاحتلال ، حيث انزوى في منزله بما يشبه حالة مقاطعة توحي عند الاخذ بنظر الاعتبار الفتوى بالاجتهاد ، وكأنه موقف احتجاج سلبي ضد الاحتلال ، بل وحتى استنكار لموقف اتباعه السلبي من فتواه. يتحول الاستغراب الى حالة من الدهشة وحتى الصدمة عندما كسر السيد صمته وتحرك حركة غير موفقة للاسف ، سيكون لها انعكاساتها السلبية على صورة المرجعية عند انصارها ، كما في نظر قوى الاحتلال ، فبعد صمت دام حوالي ثمانية اشهر بادر السيد للمطالبة بالاتخابات كبديل وطني لاتفاق نقل السلطة بين قوى الاحتلال وصنائعها. إلا انه عاد فألغى او عطل هذا المطلب عندما علقه بشرط ان تكون الامم المتحده حَكماً ، ليقرر ما اذا كان بالامكان اجراء الانتخابات في هذه المرحلة ، أو ...لا. اي ان السيد قال بالشئ وضده في نفس المطلب .
هذا التناقض في الموقف ، المطالبة بالانتخابات ، وبما يعطلها بنفس الوقت ، ينقض المبادئ الشرعية العامة التي قام عليها مبدأ الاجتهاد بل ويلغي الاسس التي قام عليها الاجتهاد عند الشيعة . فالاجتهاد بأعتبار انه " العمل بالرأي." وهذا يعني انه في الحالات التي لم يتعين فيها التكليف الالهي أو انه متعين ولكنه خاف ، يرجع المرء الى العقل والذوق . فما كان اقرب الى الذوق والعقل والحق والعدل واشبه بالتعاليم الاسلامية . يحكم به." .هذا يعني ان السيد ينفي مبدأ العمل بالرأي ، فهو لايعمل برأيه كمجتهد يمتلك القدرة على استنباط الحكم الشرعي ، بل برأي الاخر ، وهو ليس مسلما ولا مجتهد ، ويميل لصف العدو ، فهو لايصلح ان يكون حتى حَكما عادلا .
عندما يضع الانسان جانباً حقيقة ان الحكم بالجهاد الدفاعي ، واضح جداً من خلال مواقف الائمة الابرار من آل البيت ، الذين يرتكز المذهب الشيعي على اساس الولاء لهم ، والاقرار بأنهم الاكثر ثقة في تفسير الكتاب الحديث فأن الاجتهاد كمبدأ والذي كان السبب في وضع السستاني فيما هو فيه من مكانه ، سيهتز بمثل مواقف السيد هذه . فأما ان تكون مطالبته ناتجة من احساس بموقعه القيادي لطائفة كبيرة من مسلمي العراق ، الذين يتعرضوا ظلماً لاسوأ انواع الخسف والاستهانه من قبل قوى الاحتلال . والتي تتنافى كلياً مع أبسط مبادئ حقوق الانسان ، والقواعد العامة للقوانين التي تحدد سلوك سلطات الاحتلال ، ناهيك عن تصادمها مع القيم الاسلامية التي يفترض ان السيد يقف في موقع الحامي المطلوب منه الحفاظ عليها ، والدفاع عنها .
المطالبة بالانتخابات ، هي مطالبة بحق طبيعي ، يفترض ان دوافعه من المطالبة بها ترتكز على اساس الفهم السليم لحق الانسان الطبيعي في ان يتحكم بأقداره ومصيره ، بأرادته هو بعيداً عن شكل من اشكال السيطرة او التبعية او الوصاية للاجنبي . ويفترض بزعيم الجماعة ، اية جماعة ، عندما يطالب ببعض حقوقها يدرك جيداً اكثر من اية هيئة دولية أو انسان أخر ، ما هي هذه الحقوق ، وكيف يمكن استعادتها أو تحقيقها ، دون ان يحتاج لمشورة احد ، ولا حتى هيئة الامم المتحدة أو خبرائها. فهو الاخبر بالامر من مراقب خارجي له حساباته الخاصة ، التي تاخذ بنظر الاعتبار عدم الاصطدام بارادة القوة العظمى ، التي تستضيف الهيئة العامة بكل موظفيها على ارضها ، وهذا مصدر اخر للتأثير على موظفيها الاداريين .
ان الزعامة أو القيادة تعني بمفهومها السياسي أو الاجتماعي قدرة الزعيم على فهم مطالب الجماعة ، واعتماد السلوك الانسب لتجسيدها ، والحرص الشديد على تحقيقها ، والمحافظة عليها. اما استعانة الزعيم بطرف خارجي للحكم في امكانية تحقيق ما هو حق طبيعي للجماعة او الشعب ، يعني ان الزعيم يتخلى عن أهم ادواره القيادية ، مع ان العراق ليس عقيماً الى هذا الحد ، وفيه من الخبرات الوطنية ما يغني عن الحاجة لتحكيم السيد انان او ممثليه . وهذا يعني عجز الزعيم على ادراك حقوق الشعب .
بقدر ما يعني استشارة طرف خارجي ، هو اقرب بالواقع لموقف الخصم ، العجز عن ادراك الحق والحقيقة ، فهو ايضاً تصرف لا ينسجم مع مبادئ العقل والذوق والحق والعدل ...!؟ ويزعزع مبدأ الاجتهاد من اساسه ، لانه يوحي بالعجز على ادراك المشكلة ، بما يمنع من اتخاذ الموقف الشرعي المناسب .
ان ثمانية أشهر من الصمت الذي لازمه السيد السستاني كانت كافية لان تكشف للعالم اجمع زيف أدعاءات الادارة الاميركية حول الاسباب التي دفعتها للعدوان والغزو. وظهر بوضوح عدم صدق تخريصات كولن باول امام مجلس الامن عن مخابئ الاسلحة العراقية التي التقطتها الاقمار الصناعية ، والمختبرات التي عرض صورها ، وما ردده الرئيس الاميركي واعضاء ادارته عن يقينهم الثابت بوجود صناعات متطورة لاسلحة الدمار الشامل في العراق، ودحضه واستخفافه بالتقارير المتواصلة لهيئات التفتيش التي ارسلتها الامم المتحدة ، بطلب من امريكا وتحت اشرافها المباشر ، والتي تؤكد خلو العراق من هكذا أسلحة. مع ذلك لم تتحرك الامم المتحدة لمنع الحرب او على الاقل استنكارها بل تحولت الى هيئة لشرعنة الحرب ، ثم الاحتلال ، وكأنها مجرد هيئة دعائية واعلامية تابعة لأحد مكاتب البيت الابيض.
هذا اضافة الى المذكرات العديدة ، والاعترافات التي آدلى بها بعض موظفي الادارة الاميركية انفسهم على الاسباب الحقيقة للعدوان ، وكيف انه كان عدوان مبيت حتى من قبل احداث 11 ايلول (سبتمبر) ، بكثير. واعترافات بول اونيل ، وزير التجارة الاميركية السابق. أضافة الى ان الاطلاع على الاسباب التي دفعت اميركا لتشكيل قوات التحرك السريع ، في اواخر السبعينات من القرن الماضي ، ومخطط شارون – اتيان الذي نشر عام 1982، حول رغبة اسرائيل في تقسيم العراق والدول العربية الاخرى الى دويلات صغيرة ، ومتنازعة. ثم تصريحات كولن باول عن نيات الادارة الاميركية لاعادة العراق الى مرحلة ما قبل الثورة الصناعية.
أَلم يكفي كل ذلك لأن يدرك السيد ، حقيقة كون ما سُميَّ بحرب تحرير العراق ما هي بالحقيقة إلا حرب تحرير اسرائيل من عقدة الخوف من القوة العراقية ..!
اذا كان الناس لازالوا مدهوشين بهول صدمة الاحتلال المشوشة والمختلطة بالشعور المفاجئ بالتخلص من حكم طاغية مجرم ، مارس كل اشكال القمع والجريمة ضد شعبه. فأن على الفقهاء والخبراء والمثقفين ان يبادروا لكشف الحقيقة لمواطنيهم ، وتعريفهم بالاسباب والمعاني الحقيقية للاحتلال . وهذا يشكل جزءً من التكليف الشرعي المناط بهم .