-
معارك التحرير الإنساني
معار[align=center]ك التحرير الإنساني[/align]
كما يخوض الإسلام معركة التحرير الداخلي للإنسانية، كذلك يخوض معركة أخرى لتحرير الإنسان في النطاق الاجتماعي فهو يحطم في المحتوى الداخلي للإنسان أصنام الشهوة التي تسلبه حريته الإنسانية، ويحطم في نطاق العلاقات المتبادلة بين الأفراد الأصنام الاجتماعية، ويحرر الإنسان من عبوديتها، ويقضي على عبادة الإنسان للإنسان: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ: أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ» فعبودية الإنسان للّه تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي المعبود الخالق: فلا توجد أمة لها الحق في استعمار أمة أخرى واستعبادها ولا فئة من المجتمع يباح لها، اغتصاب فئة أخرى ولا انتهاك حريتها، ولا إنسان يحق له أن ينصب نفسه صنماً للآخرين.
ومرة أخرى نجد إن المعركة القرآنية الثانية من معارك التحرير قد استعين فيها بنفس الطريقة التي استعملت في المعركة الأولى: «معركة الإنسانية داخلياً من الشهوات»، وتستعمل دائماً في كل ملاحم الإسلام.. وهي: التوحيد. فما دام الإنسان يقر بالعبودية للّه وحده، فهو يرفض بطبيعة الحال كل صنم وكل تأليه مزور لأي إنسان وكائن، ويرفع رأسه حراً أبيا ولا يستشعر ذل العبودية والهوان أمام أي قوة من قوى الأرض أو صنم من أصنامها. لأن ظاهرة الصنمية في حياة الإنسان نشأت عن سببين: أحدهما: عبوديته للشهوة التي تجعله يتنازل عن حريته إلى الصنم الإنساني، الذي يقدر على إشباع تلك الشهوة وضمانها له. والآخر: جهله بما وراء تلك الأقنعة الصنمية المتألهة من نقاط الضعف والعجز. والإسلام حرر الإنسان من عبودية الشهوة كما عرفنا آنفاً، وزيف تلك الأقنعة الصنمية الخادعة: «إن الذين تدعون من دون اللّه عباد أمثالكم» فكان طبيعياً أن ينتصر على الصنمية، ويمحو من عقول المسلمين عبودية الأصنام بمختلف أشكالها وألوانها.
وعلى ضوء الأسس التي يقوم عليها تحرير الإنسان من عبوديات الشهوة في النطاق الشخصي، وتحريره من عبودية الأصنام في النطاق الاجتماعي، سواء كان الصنم أمة، أم فئة فرداً.. نستطيع أن نعرف مجال السلوك العملي للفرد في الإسلام، فان الإسلام يختلف عن الحضارات الغربية الحديثة التي لا تضع لهذه الحرية العملية للفرد حداً إلا حريات الأفراد الآخرين، لأن الإسلام يهتم، قبل كل شئ _كما عرفنا_ بتحرير الفرد من عبودية الشهوات والأصنام، ويسمح له بالتصرف كما يشاء على أن لا يخرج عن حدود اللّه. فالقرآن يقول:
«خَلَقَ لَكُم مَّا في الأَرْضِ جَمِيعاً» (البقرة: 29) «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ» (الجاثية: 13) وبذلك يضع الكون بأسره تحت تصرف الإنسان وحريته ولكنها حرية محدودة بالحدود التي تجعلها تتفق مع تحرره الداخلي من عبودية الشهوة وتحرره الخارجي من عبودية الأصنام. وأما الحرية العملية في عبادة الشهوة والالتصاق بالأرض ومعانيها، والتخلي عن الحرية الإنسانية بمعناها الحقيقي.. وأما الحرية العملية في السكوت عن الظلم والتنازل عن الحق، وعبادة الأصنام البشرية والتقرب إليها، والانسياق وراء مصالحها، والتخلي عن الرسالة الحقيقية الكبرى للإنسان في الحياة.. فهذا ما لا يأذن به الإسلام لأنه تحطيم لأعمق معاني الحرية في الإنسان، ولأن الإسلام لا يفهم من الحرية إيجاد منطلق للمعاني الحيوانية في الإنسان، وإنما يفهمها بوصفها جزءاً من برنامج فكري وروحي كامل، يجب أن تقوم على أساسه الإنسانية.
السيد محمد باقر الصدر