-
الصنم
عندما قرر إبراهيم عليه السلام أن يكيد أصنامهم، فإن قراره هذا لم يكن يشكل إندفاعاً حماسياً بدون تفكير، أو فعلاً عبثياً دون تعقل. لقد رأى إبراهيم عليه السلام هذا التأثير الذي تتركه هذه الأصنام في خلق حالة إنحراف في فطرة الإنسان وعقله. والتي جعلت الإنسان يضيع تائهاً بلا هدى ولا هداية في طريق طوبل يمتلئ بهذه الأصنام، الأصنام بكل ما تمثله من شعوذة، وتخلف، وإبتعاد عن الإنسانية، وإلغاء للعقل والأخلاق. تمثل هذه الأصنام فيما يبدو تراثاً، أو حالة بشرية نجدها تتكرر بشكل غريب في كافة الثقافات والمجتمعات والمناطق. هذه الأصنام مثلت ثقافة، مثلت وتمثل مجموعة قيمية متكاملة لما يمكن تسميته بالعقلية الخرافية الضالة. ورغم أن هذه الأصنام بمنظومتها القيمية واسواقها، وأشخاصها، وأدواتها سجلت كحالات خروج الإنسان على القيم التي اسسها الله في خلقه وعلى الدين الذي ارسله للناس ، إلا أننا نفهم من خلال النص القرآني الشريف أن هذه الأصنام تبرز في بعض الظروف من خلال محاولات الإصلاح والخروج من التيه والضياع. وهنا يمكننا أن نتوقف عند العجل الذي صنعه الإسرائيليون عندما هاجروا من مصر إلى سيناء مع نبيين عظيمين، كانا يتصلان مباشرة بالسماء، ومع وجود تراث، وديانة سماوية كانت تسيطر على عاداتهم وتقاليدهم لمدة طويلة من الزمن.
الأصنام تمثل فيما يبدو حالة شعورية محببة إلى النفس البشرية، خاصة تلك الأنفس التي تعيش حالة الضياع، والضعف، والجهل وفقدان القيادة التي تتصف بالحكمة والرشد. لأن هذه الأصنام تمثل فيما يبدو إحساساً لدى هذا التائه العاجز الجاهل أن هذا الإله العظيم الذي بيده كل شيء، أو جزء منه، تحول إلى شيئ مادي ملموس، يعطي نوعاً من الطمأنينة حال الخوف، ونوعاً من الشرعية لمن فقد الشرعية، ونوعاً من السلطة لمن أراد السلطة، والمال لمن يطلب المال. هذا المربع الصنمي بمدلوله الإجتماعي يستفيد منه العاجز الفقير على مستوى البحث عن الهدوء والطمأنينة، والراهب الذي يبحث عن مشروعية أعماله وأقواله، ويستفيد منه طالب السلطة، من خلال ربط سلطته بهذا الصنم، ويستفيد منه صاحب المال أو التاجر في بحثه عن زيادة راس ماله. هؤلاء المستفيدون مادياً هم الرهبان، والحكام، والتجار. فيما يبقى المعدمون الجهلة مستفيدين شعورياً من خلال الإحساس الكاذب الذي يحصلون عليه من خلال الإرتباط بالصنم، أو من خلال حالة الخوف المتكونة عندهم من لعنة الصنم أو البركات التي يمنحها عليهم هذا الصنم. هنا تبدأ اللغة تميل أيضاً مع رمزية الصنم، فاللغة تتحول إلى مايشبه التكرار الرتيب والغير منطقي لكلمات لا يمتلك أتباع الصنم أنفسهم تفسيراً لها، فالقدسية والتقديس تستثمر بأقصى طاقتها كي تضفي رونقاً على الصنم، والبركة، والكلمات الرنانة الجميلة التي يشعر الإنسان في أحيان كثيرة أنها لا تنتمي إلى الواقع المحيط بالصنم لا مكانياً ولا زمانياً، ولا علىمستوى الوصف السردي. إنها محاولة أو محاولات ممن صنع الصنم أن يضفي عليه صفات الألوهية، أو صفات الإتصال بالله، ولكن هل الصنم هو نفسه هو ذلك التمثال الذي يصنع كي يعبد فقط ؟
ماذا إذا إتحدت هذه المكونات المستفيدة من الصنم على شكل إنسان يحمل صفات وأفعال التاجر، وصفات وأفعال الراهب وصفات وأفعال الحاكم؟ وماذا لو تركزت صفات الصنم في هذه الشخوص وقد بنيت على أمور واسس ومواقف ومبادئ يقدسها هؤلاء الفقراء والجهلة. ماذا لو كان الصنم شخصاً أو فكرة أو تمثالاً أو عباءة أو عمامة أو مدينة أو قرية أو شجرة أوحيوان أو طبر أو سيف ؟
ماذا يحدث لو تحول خوار الصنم إلى كلام معسول، وحديث مستمر بلا توقف بالمبادئ والمواقف بعيداً عن اي ربط بحالة موضوعية، أو واقعة عملية. وماذا لو إستمر بناء هذا الصنم وإستمر بالصعود وبدأت الأيدي تلطخه بالألوان، وترمي عليه الذهب والفضة، وتذبح له القرابين، وتكتب عليه عبارات التقديس والبركة، وتحاك حوله حكايات التخويف والتهويل وأنه يهب العطايا، وانه برسل اللعنات؟ ماذا لو تحول هذا الصنم أو هذه الأصنام إلى تراث وتقليد ومبدأ ؟
وماذا لو بدأ هذا الصنم يتحول إلى أن يكون بديلاً يزحزح قيم السماء، ويسد طرق الهداية. وماذا لو بدأ هذا الصنم أو هذه الأصنام تسد طرق الهداية والصلاح؟ وماذا لو أن هذه الأصنام وما يحيط بها من عبيد، ورهبان وبائعين وحكام وغيرهم بدأوا يحرفون مسيرة السماء، وبدأوا يسرقون لغة السماء، ورموز السماء، كقشور كي ينشروا ثقافة الصنم والأصنام.
ألا يمتلئ واقعنا بالأصنام، اصنام كبيرة، تتكاثر يوماً بعد يوم، وتزداد ضخامة يوماً بعد يوم. ألا نلاحظ أن الجهل الذي يحيط بنا من كل صوب وحدب هو من ميزات ثقافة الصنم، الذي يمنع وينكر على الإنسان أن يفكر، وإذا ما قرر أن يفكر فستلاحقه لعنة الصنم وتهديداته. ألا يمتلئ واقعنا بهذا النوع من الإنتفاخ الغريب، إنتفاخ من يفخر بعبادة الصنم والإنتماء إليه. ألا يمتلئ واقعنا بتلك الرقاب الغليظة ممن تعتاش على نمو الأصنام وبيعها لمن يشتريها من عرق جبينه.
هذه الأصنام إكتشف حقيقتها إبراهيم الخليل عليه السلام، وإكتشف أثرها المخرب، وقرر أن يكيد لها. كيد أراد منه أن يخلق حالة الصدمة لهؤلاء العابدين لها. صدمة تكشف حقيقة هذه الأصنام، ودرجة ضعفها وتهرؤها في الواقع والحقيقة، مقابل ما بني لها من صورة في اذهان الجهلة والمعاندين. والمعول الذي جذم إبراهيم يد الصنم به كان معولاً بنته أيدي الذين صنعوا هذا الصنم. معول ينكشف فقط لمن يمتلكون البصيرة. ورغم أن هدم الصنم كان يعني فيما يعنيه أن يتحول إبراهيم إلى رماد تحرقه نار الصنم، إلا أن التضحية التي إستعد إبراهيم أن يعطيها في سبيل هدم الأصنام، كانت أمراً لابد منه، لأن بقاء الصنم يعني بقاء الجهل والتعصب وقيم الإنحراف وإن تغلفت بلغة البركة والتقديس. .
-
أحسنت أبا محمد ..
الفرق الوحيد بيننا و بين بني إسرائيل .. أن بني إسرائيل عبدوا عجلاً واحداً و كان عندهم سامري واحد ، أما نحن فإننا جعلنا من قريش و من نسلها عجولاً و أصناماً و عندنا مؤسسات يتخرج منها السامريون !