الدين شمس لن تغيب / الشهيد مرتضى مطهري
[align=center]الدين شمس لن تغيب
(الحلقة الأولى)[/align]
هل للدين نهاية؟
إنّ عالمنا عالم التغير والتحول، فلا يبقى شيء ثابتاً بل، إنّه سيتحوّل ويشيخ، وبعد ذلك يموت وينطفئ وينقضي عمره فهل الدين كذلك?
وهل للدين مرحلة زمنية معينة، إذا مرّت وانقضت فسوف ينقضي عمر الدين أيضاً، أم ليس الأمر كذلك؛ بل، هو دائم، باقٍ بين الناس، وإذا حدث أنْ ظهرت حركة معادية للدين، تحاربه، وتحاول القضاء عليه، فالدين رغم ذلك لا يموت، ولا ينطفئ، بل إنّه سيبقى نابضاً، سيظهر ويثبت وجوده، بأشكالٍ وصورٍ أخرى بعد فترة وجيزة؟.
يقول ويل ديورانت ـ وهو لا يؤمن بأيّ دين ـ في كتابه (دروس التاريخ) في بحثه حول التاريخ والدين: (للدين مئة روح، كلُّ شيء إذا قضي عليه في المرة الأولى، فإنّه سوف يموت وإلى الأبد، إلاّ الدين، فإنّه لو قضي عليه مئة مرة، فإنّه رغم ذلك سيظهر وتنبعث فيه الحياة بعد ذلك).
ستكون دراستنا في حدود القوانين والنواميس الطبيعية: ما هي الأشياء التي تبقى والأشياء التي تفنى وتموت؟ ولا يتعرّض حديثنا للأمور الخارجة عن مدار الظواهر الاجتماعية، بل سيتحدّد في هذا المجال.
مقياس الخلود
إنّ الظواهر الاجتماعية التي تحتفظ بوجودها خلال عمرها، لا بد أنّ تكون متلائمة مع الرغبات والحاجات البشرية. أي أنّها: إمّا أن تكون بنفسها حاجات بشرية، أو أنّها وسائل لإشباع تلك الحاجات الإنسانية؛ بمعنى: أنّ البشر في أعماق فطرتهم يبحثون عنها، ويرغبون فيها، أو أنها ليست كذلك، فلا يرغب بها الإنسان في عمق فطرته وغريزته، ولا تستهدفها الميول البشرية، ولكنها وسائل لإشباع حاجاته الفطريّة الأوليّة.
وحاجات البشر على قسمين: حاجات طبيعية، وحاجات غير طبيعية، أي (العادات).
أمّا الحاجات الطبيعية، فإنها تعني تلك الأمور التي يحتاجها الإنسان بما أنه إنسان، ولم يكتشف سرّها حتى الآن، كحب المعرفة والاستطلاع، وحبّ الشهرة والجمال، والرغبة في الأسرة والنسل، فرغم أنه سوف يصيبه التعب والكلل في سبيلها، ولكن رغم ذلك يرغب فيها، ويسعى في إشباعها وإرضائها.
وأمّا لماذا يرغب في المعرفة والجمال، وما هو واقع هذه الرغبات، ولماذا يلتذّ بها؟ هذه أسئلة تبحث عن الجواب، وسواء تمكنّا من الجواب عليها أم لا، فإنّ هذه الرغبات والحاجات موجودة فعلاً في الطبيعة الإنسانية.
وأمّا الحاجات غير الطبيعية، أي العادات التي يعتاد عليها أكثر الناس، ولكنّهم يتمكّنون من التخلص منها أو استبدالها، كالإدمان على شرب السجائر أو الشاي، أو الخمر، أو الهيرويين، وغيرها، والتي تصبح حاجات يحتاج إليها الإنسان، ويرغب فيها بشدّة كما يطالب بالحاجات الطبيعية، وتصبح بالتدريج طبيعة ثانوية له، ولكن رغم ذلك، فإنه يتمكن من هجرها والتخلّص منها، أو تربية الجيل القادم وتنشئته نشأةً لا يفكر معها بهذه الأشياء أبداً.
وأمّا الرغبات والدوافع الفطرية الطبيعية، فليست كذلك، إذْ لا يتمكن الإنسان من تركها، ولا نستطيع أن نربّي الجيل القادم تربية يتناسى معها هذه الرغبات.
ومثاله الواضح يظهر في تطبيقات الشيوعية، فالحكم الشيوعي سعى لتحقيق فكرتين: إحداهما الاشتراكية الشيوعية، والثانية إبادة النظام العائلي الاختصاصي، ولكن محاولاته باءت بالفشل، لأنها لا تقبل التطبيق، إذ الدافع لتشكيل الأسرة دافع طبيعي فطري، فإنّ كُل فردٍ في أعماقه يميل للأسرة، وإلى زوجةٍ تختصّ به، حتى يكون الولد المتولّد منهما مختصّا به، وإنما يحب ولده ذلك الحب الشديد لأن ولده امتداد لوجوده، وهذا الحب أمر فطري، وحين لا يكون له ولد، يشعر بأنّ وجوده سيزول وينقطع بعد حياته.
وكذلك الإنسان فطرياً، يمتلك الرغبة في معرفة تاريخه وماضيه، ومن هو أبوه وأمه، ولا يمكن أنْ يعيش الإنسانُ سعيداً وسوياً وهو لا يعرف أباه أو أُمه، وكيف يمتدُّ وجوده بعد حياته، وأي الأولاد ولده؟ ولذلك لم يستجب البشر لهذه الفكرة، فماتت، وقُذف بها في سلّة المهملات. وقد اقترح أفلاطون قبل (2600) عاماً أمثال هذه الفكرة. ولكنه بنفسه ندم على ذلك، بعد أن لمس آثارها السيئة. وقد ظهرت الدعوة لإلغاء النظام العائلي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولكن رفضها البشر، لماذا؟ لأنها خلاف الطبيعة البشرية.
وللحكماء قاعدة فلسفية، وهي (أنّ القسر لا يدوم)؛ ويعني ذلك، أنّ التيار غير الطبيعي لا يبقى ولا يدوم، ويقابل ذلك التيار الطبيعي، فإنّه يدوم، وله الاستعداد على البقاء والثبات، وأمّا غير الطبيعي، فلا يمتلك القابلية على البقاء.
وإذا أردنا أن نثبت بأنّ الدين يبقى ويدوم، فلا بد أن يكون أحد هذين الأمرين: إمّا أن يكون بنفسه حاجة طبيعية، أو يكون وسيلة لإشباع الحاجة الطبيعة، ولكن يشترط أن يكون هو الوسيلة الوحيدة لإشباع هذه الحاجة أو الحاجات الفطرية الطبيعية، ولا توجد وسيلة أُخرى أفضل منها، فإنه لو وجدت وسيلة أُخرى غير الدين تشبع تلك الحاجة بصورة أفضل، وأكثر فائدة وتأثيراً، فحينئذ سوف تزول الحاجة إلى الدين، ويهجر ليتمسك بتلك الوسيلة الأخرى، وبالخصوص إذا كانت الوسيلة الأخرى أفضل من الدين.
ونلاحظ مثل هذه الظاهرة في العصر الحديث كثيراً، فإن السلع تتغير بين يومٍ وآخر مثلاً، وتُهجر السلعة القديمة ليندفع الناس لشراء الجديدة، وإن كانت تُشبع نفس الحاجة التي تشبعها القديمة.
مثلاً احتياج الناس للبس الجورب، ففي البداية كانوا يلبسون الجورب المحاك، ولكن، ظهر اليوم جورب آخر يشبع هذه الرغبة، وربما كان أفضل وأجمل من السابق، لذلك، هُجر النوع السابق واستخدم الجديد.
وكذلك، حينما أختُرِعت الكهرباء، ترك الإنسان استعمال المصباح الزيتي، فإنّ استخدام المصباح كان لأجل الاستفادة من ضيائه، وهذه الحاجة تشبعها الكهرباء بصورةٍ أفضل وأيسر.
والدين يمتلك كلتا الميزتين، فإنه بنفسه حاجة فطرية وشعورية للبشر، وكذلك هو الوسيلة الوحيدة لإشباع الحاجات الفطرية للبشر، بحيث لا يمكن لغيره أن يحل محلّه. وبعد الدراسة التالية، سيتّضح لنا، بأنّه يستحيل على أيّ شيء أنْ يقوم مقام الدين، في إرضاء هذه الرغبات الفطرية.
فطرية الدين
القرآن الكريم يصرّح بأنّ الله قد أودع الدين في قرارة الإنسان وأعماقه، كما في قوله تعالى:{فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها}[الروم/30].
وحين يتحدّث الإمام علي(ع) عن الأنبياء، يذكر بأنهم قد بُعثوا لأجل أن يُذكروا الناس بذلك العهد الذي عقدته فطرتهم، لأجل مطالبتهم بالوفاء بذلك العهد الذي لم يُكتب على ورقة ولم ينطق به لسان، وإنّما كُتب على صفحة القلب وفي عمق الفطرة الإنسانية، بقلم الخليقة، على صفحة الضمير، وفي أعماق الشعور الباطن.
ولم أذكر ذلك للاستشهاد والاستدلال، بل أستهدف من ذلك أن أُثبت أن الإسلام كان أوّل من اكتشف أنّ الدين حاجة فطرية، ولم يعرف البشر هذه الفكرة سابقاً، ولكن ظهر في العصر الحديث من يُنادي بها ويدعو إليها، وقد ظهرت الكثير من النظريات والآراء حول هذه الفكرة في القرن السابع عشر، والقرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر الميلادي؛ والقرآن الكريم يصرّح: {فطرة الله التي فطر الناس عليها}.
كيف وجد الدين؟
هناك فرضيات كثيرة حول نشأة الدين، ونستعرض بعضها إجمالاً:
1ـ الدين وليد الخوف، خوف الإنسان من الطبيعة، ومن صوت الرعد الرهيب، وسعة البحر وهدير أمواجه المتلاطمة، وغيرها من مظاهر الطبيعة.
ونتيجةً لهذا الخوف، أن خطر الدين في أذهان البشر، والحكيم اليوناني (لوكريتوس) ذكر بأنّ أول الآباء للآلهة هو إله الخوف، وفي عصرنا الحديث قد التزم بها البعض، وادّعى بأنّها نظرية جديدة.
2ـ الدين وليد الجهل؛ فقد اعتقد البعض بأنّ العامل لوجود الدين هو جهل البشر، فالإنسان بطبعه يميل إلى معرفة العلل والقوانين الحاكمة في الكون وفي حوادثه، وربما أنّه لم يعرفها، نسبها لما وراء الطبيعة.
3ـ الرغبة في العدالة والنظام، ذهب البعض إلى أنَّ الدافع إلى الدين وانتماء البشر إليه، هو الرغبة في العدالة والنظام، فحين لاحظ الظلم والاضطهاد، وعدم العدالة في المجتمع والطبيعة، أوجد الدين وتشبّث به، لتسكين آلامه النفسية وتهدئتها.
وقد ذكر أصحاب هذه الفرضيات الثلاثة، بأنّه مع تقدم العلم وتطوره، فسوف يزول الدين لوحده ويحتل العلم موقع الدين، لذلك، دعوا إلى تطوير العلم وتنميته، لأنّه في رأيهم، أنّ العالم يعني غير المتدين.
4ـ الفرضية الماركسية: وتعتقد الماركسية بأنّ الدين قد وجد لأجل أن تحتفظ الطبقة المستثمرة بإمتيازاتها ومكانتها وسلطتها بين الشعوب؛ ففي مرحلة الشيوعية الأولى، لم يكن هناك وجود للدين، وثم وُجد بعد ذلك بسبب العوامل المتصلة بالملكية الخاصّة والأوضاع الطبقية، وفي المرحلة الإقطاعية والرأسمالية، أنشأت الطبقة الحاكمة فكرة الدين، حتى لا تثور الطبقة المحرومة بوجهها، فالدين لجامٌ لجامها وغضبها، وأفيون لهذه الطبقات المحرومة، لتبقى سادرةً في سُباتها وغيبوبتها.
والملاحظ أنّ سائر الفرضيات قد جعلت العلم يأخذ موقع الدين، وأما هذه الفرضية فلم تلتزم بقيام العلم مقام الدين، فإنّ الماركسية رأتْ، بأنّ العلم تطور وتقدّم، ولكن الدين لا زال باقياً ولم يتعرض للفناء، بل لاحظوا، بأنّ كبار العلماء هم من الملتزمين بالدين، كباستور وغيره.
لذلك اعتمدت الماركسية على الطبقية، فأكّدت بأنه ما دام للطبقات وجود فالدّين لا يزول، بل سيظل محتفظاً بوجوده، لوجود هذه الطبقية في الشعوب، فإنّ الدين وليد الطبقية، فإذا ساد العالم المذهب الاشتراكي وزالت الطبقية، فإن الدين سيزول لوحده.
إنّ الماركسيّين يعتقدون بأنّ الدين شراك تنصبه الطبقة الحاكمة للطبقات الكادحة المحرومة، فلو تساوى الجميع، وزالت الطبقية، فسيزول الدين بنفسه، لأنّه لا حاجة لهذا الشراك آنذاك.
وبإيجاز: فإنّهم دعوا إلى تحقيق المساواة التامّة بين أفراد المجتمع، كشرطٍ ضروري للقضاء على الدين.
ولكن هذه الفرضيّة، كأخواتها، لم تثبت للنقد العلمي، إذ ثبت أنّ الدين أسبق وجوداً من الملكية، ففي مرحلة الشيوعيّة البدائية، وحين لم يكن للطبقات وجود، كان الدين موجوداً آنذاك، بالإضافة إلى أن الواقع التاريخي لا يتلاءم وهذه الفرضية.
إذ أثبت التاريخ بأنّ الدين قد ولد ونشأ بين الطبقات المستضعفة والمحكومة وقادة الرسالات، أمثال موسى وغيره، الذين كانوا من الطبقة المحرومة والمستضعفة، حيث واجه هو وأصحابه المحرومون، الطبقة الحاكمة المتمثّلة بفرعون وأمثاله.
وحين بُعث نبينا(ص)، أعلن ثورته على الطبقية الحاكمة والثرية والمرابين، وقد عبّر القرآن الكريم عنهم؛ بـ"الملأ" أي الأشراف أمثال: أبي سفيان، وأبي جهل والوليد بن المغيرة؛ فإنّهم كانوا من زعماء مكة وأثريائها، ومن المخالفين له، وأمّا أتباع النبيّ(ص)، فكانوا من الطبقة المحكومة والمضطهدة، أمثال: عمار، وسلمان، وأبي ذرّ، وعبد الله بن مسعود، وأمثالهم.
وحين زار خروتشوف إبّان رئاسته، الجزائر، قال له ابن بلا الذي كان رئيساً للجمهورية آنذاك، إن الإسلام يمكن أن يكون عاملاً محركاً في شمال أفريقيا لمقاومة الاستعمار، فصدّقه على ذلك.
إذاً فقد اعترف بالحقيقة، وهو الذي كان ممن يقولون أنّ الدين أفيون الشعوب، وأنّه قد اصطنعته الطبقة الحاكمة، لتخدير الفئات المحكومة والمضطهدة، حتى لا تطالب بحقوقها المشروعة، وتشعل الثورة ضد الحكام المستبدّين، ولكن، بعد أن أطّلع على الإسلام عن قرب اعترف بالحقيقة.
ويظهر مما سبق، أنّ المخالفين للدين أنفسهم، لم يتّفقوا على رأي واحد.
5ـ فرضية فرويد: وقد فسّر فرويد كل الظواهر الاجتماعية وفق الغريزة الجنسية، ومن جملتها الدين، فإنّه حين تقف الظروف الاجتماعية بوجه إطلاق العنان للغريزة الجنسية، تُصاب هذه الغريزة بالكبت والحرمان، ولكنها لا تزول، بل، إنها تستقر في اللاشعور، حيث تقف بوجهها القيود الاجتماعية، ولكن هذا الكبت والحرمان يحقّق نفسه في الخارج، بصورة أمراض عصبيّة ومظاهر مختلفة، ومنها الدين.
إذاً، ففي رأيه أنّ الدافع إلى وجود الدين هو الحرمان الجنسي، فهو يعتقد بأن الجذور الأولى لظهور الأخلاق والعلم، وكل شيء، هي جذور جنسية، ويعتقد بأنّه حين ترتفع الحواجز والسدود عن طريق الغريزة الجنسية، وتُمنح لها الحرية ولا تبقى مكبوتة، فسوف يزول الدين لوحده.
ولكن فرويد بنفسه قد ندم على رأيه هذا بعد ذلك، ولم يتقبل تلاميذه منه هذا الرأي، ومن هنا تتأكّد فطرية الدين.
الآراء حول فطرية الدين
وقد ظهرت دراسات عديدة لإثبات فطرية الدين:
1ـ رأي يونج: ذكر (يونج) عالم النفس الشهير، وتلميذ فرويد، بأنّه وإنّ صحّ ما ذكره فرويد، بأنّ الدين من الصور التي تتدفّق من اللاشعور الإنساني، ولكن القول بأنّ محتويات اللاشعور جميعها منحصرة بالميول الجنسية، التي هربت من شعور الإنسان إلى لاشعوره، هذا القول غير صحيح؛ فالإنسان يمتلك نفساً باطنةً، ووجوداً لا شعورياً فطرياً طبيعيّاً، ولا تنحصر محتويات هذا الوجود بما يقدّم إليه من الشعور الظاهر، كما توهّم فرويد، ففي الواقع، قد نجح فرويد حين اكتشف اللاشعور، ولكنه فشل في اعتقاده بأنّ محتويات اللاشعور جميعها مؤلفة مّما يطرده الشعور، ويعتقد يونج بأنّ الدين من تلك الأمور المتواجدة في اللاشعور بصورةٍ فطريّةٍ وطبيعية.
2ـ (وليم جيمس): وهو فيلسوف وعالم أمريكي كبير؛ يقول إنه وإن صحّ بأن المنشأ الكبير من الرغبات الباطنية، هي الأمور الطبيعية المادية، ولكن المنشأ للكثير منها أيضاً، عالم آخر وراء هذا العالم المادي، والدليل على ذلك، عدم توافق الكثير من أعمال البشر، مع الحسابات الماديّة، فإنّنا نلاحظ في كل حالة وعمل ديني دائماً طابعاً من الوفاء والإخلاص والوجد واللطف والمحبة والإيثار، فللحالات النفسيّة الدينية بعض المشخّصات والخصائص التي لا تتلاءم مع الحالات النفسية البشرية كلها. ويقول: إنّ الغرائز المادية هي التي تربطنا بهذا العالم المادي، وكذلك الغرائز المعنوية تربطنا بذلك العالم الآخر. ولهذا الرجل آراء غريبة في هذا المجال.
3ـ ألكسيس كارليل: حيث يذكر في كتابه (الدعاء): بأنّ الدعاء أسمى حالة دينية مقدسة للإنسان، حيث تُحلّق فيها روح الإنسان لله. ويذكر أيضاً: توجد في الوجدان الإنساني شعلة تُعرِّف الإنسان على خطاياه وانحرافاته أحياناً، وإنّ هذه الشعلة هي التي تصدّ الإنسان عن الوقوع في الخطيئة والانحراف. ويقول أيضاً، إن الإنسان أحياناً وفي بعض حالاته الروحية، يشعر بجلال المغفرة وعظمتها.
4ـ آينشتاين يقول: إنّ المشاعر التي أدّت إلى نشأة الدين مختلفة، والدوافع التي تدفع شتّى الفئات إلى الالتزام بالدين مختلفة أيضاً.
ويقول: إنّ الخوف في الإنسان البدائي، هو الذي يشكّل الأرضية لنشأة الدين عنده؛ الخوف من الموت، الخوف من الجوع، من الحيوانات الكاسرة، من المرض، وتخلق له ذهنيته المحدودة الضئيلة، وغير المتطوّرة، بعض الموجودات المتشابهة، وبعد ذلك يصنعها بيديه وفكره، وبعد أن يخلقها بنفسه، يفكّر في كيفية التخلّص من غضبها وسخطها، وكيف يجلب رضاها، وهذا الدين لا بدّ أن نسميه بدين الخوف، والإله الذي يدعو هذا الدين لعبادته، ليس إلهاً حقيقيّاً، إنّ هذا الدين يؤدّي إلى عبادة الوثن).
ويقول أيضاً: (والصفة الاجتماعية لدى البشر، هي أيضاً بدورها من دوافع الدين، فإنّ الإنسان يرى بأنّ الموت يختطف أباه وأمّه وأقرباءه والزعماء والكبار، يأخذهم الواحد تلو الآخر، ويشعر بالفراغ، حيث تخلو دنياه منهم. إذاً، فالأمل بوجود الهادي والموجّه، الأمل بأنّ يكون محباً أو محبوباً، وأن يعتمد على الغير، وأنْ يتخلّص من اليأس؛ كلها، تشكل عنده الأرضية لتقبّل الإيمان بالله).
ويعتقد آينشتاين: بأنّ الإله الذي يندفع إليه هذا الشعور، هو إله غير حقيقي أيضاً، فإنّ الصفات المفروضة له صفات بشرية، والكتب المقدّسة للمسيحية واليهودية، تعترف بمثل هذا الإله، ولكن هذا الدين أكثر تطوراً من دين الخوف بدرجة واحدة.
وبعد ذلك يقول: (ولكن يجب أن لا ننسى، بأنّ هناك بعض الأفراد أو الجماعات، رغم قلّتهم، قد توصّلوا إلى التعرف على المعنى الواقعي الحقيقي لوجود الله وراء كل هذه الأوهام والخيالات. يشتمل هذا الإله على الخصائص والمشخّصات المتعالية، ولا يُقاس بالعقيدة العامّة تلك). ويقصد بذلك، أنّ المجتمع الذي تتعدد الأديان فيه، لا يعني ذلك أن عقائدهم في الإله واحدة في المستوى والسطحية والبدائية، فإنّ بعض الأفراد، وفي مثل هذه المجتمعات، يؤمنون بإله تتوافر فيه كل خصائص الإله، الذي هو أهلٌ للقداسة والعظمة.
ويقول بعد ذلك: (وهناك دينٌ وعقيدةٌ ثالثة، متواجدة في الأذهان كلها، وبدون استثناء؛ وإن كنت لا تعثر على تصوّر واحدٍ لها، وعلى صورتها الخاصة عند الجميع، وأنا أطلق على هذه العقيدة: "الإحساس الديني للوجود". ويصعب عليّ توضيح هذا الإحساس لمن يفتقده، وبالخصوص أنّ البحث هنا ليس حول ذلك الإله الذي يظهر بصورٍ ومظاهر مختلفة، إنّ هذه العقيدة تُعرِّف الإنسان على ضآلة الآمال والأهداف البشرية، وعظمة ما وراء الموجودات الطبيعية، بحيث يشعر بأنّ وجوده سجن، ويطمح في التخلص من سجن البدن، ويحلّق عالياً، ليعثر على الوجود كله مرة واحدة، وبحقيقته الواحدة).
وعلى ضوء هذا الرأي، فإنّ الناس جميعاً، وبالخصوص أولئك الأفراد الذين بلغوا مرحلةً من الرشد والتطور، يمتلكون هذا الإحساس، وهو التخلص من وجودهم المحدود، والتوصل إلى قلب الوجود. هناك دافع ورغبة في الإنسان لا تستقرّ ولا تهدأ، ولا تطمئن، إلاّ إذا اتّصلت بمنبع الوجود والله، وهذه الحقيقة المقدسة هي التي يعبّر عنها القرآن الكريم:{الذي آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}[الرعد/28].
ويظهر من ذلك أنّ الفرضيات الذي يذكرها المنكرون لفطرية الدين حول نشأته مختلفة وليس لهم رأي موحّد في هذا المجال.
ومما يُثير العجب، أنّ البعض منا يؤمن بمثل هذه الفرضيات، كما يؤمن بمعادلةٍ كيميائية، أو نظرية فيزيائية وطبيعية.
رغم الاختلاف الكبير في هذه الآراء، ورغم وجود الكثير من المفكرين المعاصرين الذين قد اعترفوا بفطرية الدين، وحاولوا إثبات ذلك بمختلف المحاولات، ومن هؤلاء آينشتاين، ولعلّه أعظم علماء العصر الحديث باعتراف الغرب نفسه، فكيف يكون الدين وليد الجهل؟
كان هذا الحديث كله حول الدين كحاجةٍ فطريةٍ.