مرجعيات الطوائف ومرجعية الوطن
لم يعد بالإمكان الركون إلى مقولات عامة ، والإعتماد على أقوال تصلح لكل شعب ، وتنطبق على كل شعب ، فمثل هذه المقولات العامة والأقوال لم تنقذ أي شعب من ويلات دورات العنف الطائفي .
إنه لأمر منافٍ تماماً للشعور بالمسؤولية أن لا يتحسس الكاتب والمفكر البذور الشيطانية التي تعهد من نعرفهم جميعاً ببذرها وإنمائها . أستطيع القول جازماً ، الآن تحديداً ، أنه لايمكن الإعتماد على مقولة أن الشعب العراقي مُحصن من الطائفية. إن هذه المقولة صحيحة ، وكلية الصحة ، عندما يكون الشعب سيد مصيره وقراره ، وعندما يكون هو المتحكم بمقدراته ، أما في حالة العراق الآن فكل شيء ممكن . نعم الحرب الطائفية في العراق ممكنة . ممكنة بفضل المحتل الأمريكي الذي يسعى إليها ، ممكنة بفعل العمل المخابراتي المعادي ، وتحديداً الموساد ، وأعداء العراق القوي الموّحد. ممكنة بفعل أولئك الذين تدربوا على إثارتها وتعميقها ، وأذكاء جذوتها في دورات أقامتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والبنتاغون ، والذين إنبثوا الآن في مفاصل الدولة العراقية ، وما سُمي بمؤسسات المجتمع المدني المموّلة من أمريكا وبريطانيا ، وبعض دول الجوار. ممكنة بفضل الغباء والجهل لدى بعض أبناء الطائفتين، ممكنة بفعل أولئك المعتاشين على الفرقة والتناحر.
تأريخياً توجد طائفية في العراق . ليس من خلال السلطة التي غالباً ما كانت طائفية أو ذات نزوع طائفي ، وإنما من خلال شرائح شعبية ومؤسسات دينية . خلال حقب ممتدة كان الروزخون ، وهو قاريء في المنابر الحسينية ، يكرّس أحقاداً على قوم إنتهوا وإنتهت دولتهم وزمانهم ، لكنه يجعل الأمر متواصلاً وممتداً ، بحيث يبدو أن قتلة الأمام الحسين الشهيد مازالوا يعيشون معنا وبيننا ، وبالمقابل كان أولئك الذين إستأثروا بالسلطة يكرّسون إبعاد الآخرين عن مصدر القرار، ليس عن طريق عدم منحهم المناصب التي يستحقونها ، وإنما عبر إفقارهم وتجهيلهم ، وتحقير شأنهم . إن من يزعم أن الطائفية لم تكن موجودة في العراق مغالط ، أو هو في أحسن الأحوال مصاب بعمى الألوان.
كانت الطائفية وما زالت موجودة ، لكنها منبوذة ومُدانه ومُحتقرّة ، لا يجروء دعاتها على الجهر بها . كل النخب العراقية تقريباً كانت تستهجن الطائفية منهجاً وممارسة ، ولكن هذا لا يمنع من أن يجاهر الطائفيون الجهلة بطائفيتهم فيما بينهم . الطائفية في العراق صنو الجهل والحماقة والتخلف والإنغلاق ، لكن للطائفيين في كل مرحلة قدرة فذة على الإختباء خلف لافتات شتى ، لذا فإنك لا تستطيع أن تقول إمسك طائفي كما تقول إمسك حرامي . الطائفي يسعى أن لاتمسكة بالجرم المشهود ، كان هذا هو الحال إلى أن ظهرت أحزاب طائفية ومنظمات طائفية ، تسللت عبر الشعار البرّاق المظلومية ، مظلومية هذه الطائفة أو تلك ، وبفعل وإسناد قوى أجنبية ، وبفعل تحطيم القوى المتنورة ، والطبقات الوسطى من قبل سلطة متخلفة مستبدة لم تبصر أبعد من أنفها. إن الذي شجّع على إستشراء طاعون الطائفية في العراق إنما هو وبالدرجة الأساس النظام الديكتاتوري التسلطي الإستبدادي القمعي ، الذي يتحمل مسؤولية أخلاقية وتأريخية عن بروز وإستشراء هذه الظاهرة التي هي اشد خطورة وكارثية على العراق من اي ظاهرة أخرى غيرها.
حتى نهاية الخمسينات من القرن الماضي ، كانت جميع الإحزاب والمنظمات المهنية والديمقراطية والإتحادات تقترن بوصف العراق أو العراقية ، فكل حزب هو بالضرورة عراقي ، وكل منظمة هي بالضرورة عراقية ، وكل إتحاد وكل جمعية . لم يكن من الممكن النضال والعمل إلا بإسم العراق ، وتحت راية العراق ( الحزب الوطني الديمقراطي العراقي ، الحزب الشيوعي العراقي ، الحزب التقدمي العراقي ، حزب الإستقلال العراقي ، رابطة المرأة العراقية ، إتحاد الإدباء العراقيين ، إتحاد الشبية الديمقراطي العراقي ، الإتحاد العام لطلبة العراقي ، وإتحاد طلبة العراق .. ألخ ) لم يكن ثمة شيء لا يوصف بالعراق أو العراقية ، حتى ظهرت ، وبفعل وتأثير الخارج التنظيمات الطائفية ، مثل الحزب الفاطمي ، وحزب التحرير الإسلامي ، وحزب الدعوة الإسلامية ، والمجلس الإسلامي الأعلى ، والبيان الشيعي ، والبيت الشيعي ، والجبهة التركمانية ، والمجلس التركماني الشيعي، والإحزاب الكردستانية ، والمنظمات الكردستانية ، وهيئة علماء المسلمين ، والمندائيين واليزيدين ، والكلدان والآشوريين ، ورابطة المرأة المسلمة ، وإتحاد الطلبة المسلمين ، وجمعيات أهل البيت ، وأنصار الحكيم ، وشهيد المحراب، وأنصار السنة ، وجماعات الجهاد بإشكالها ، ومجلس السلم والتضامن ، وأطباء بلا حدود ، وأدباء بلا حدود ، وصحفيين بلا حدود ، ومحامين بلا حدود ، وكل ماهو بلا لون أو طعم أو رائحة . أظهروا كل شيء وغيبوا العراق .
في الخمسينات والستينات والسبعينات كان خطر الطائفية مجرد وهم ، وهم يفتقد المصداقية والملموسية والواقيعة ، أما الآن وبفضل الديمقراطية الأمريكية ، التي حرّكت وأججت أشد النوازع تخلفاً وظلامية ، فإن الخطر الطائفي أصبح خطراً ملموساً وواقعياً ، وإن أي تقليل من مثل هكذا خطر لا يعدوا إلا أن يكون لعباً بمصير الوطن والمواطن .
لماذا يكون الشعب العراقي إستثناءاً، بماذا يختلف مثلاً عن الشعب اللبناني؟ . في العراق عاشت أقوام وطوائف لمئات السنين وآلافها متعايشة ، وفي لبنان أيضاً ، وإذ ربطت المصالح طوائف الشعب العراقي ضمن مصلحة الوطن الواحد الذي يشكل لكل منهم أمنه وسلامته ورقيه ، فيمكن القول أكثر من هذا فيما يتعلق بالشعب اللبناني . وإذا كان الشعب العراقي شعب حضاري ومتمدن ، فكذلك الأمر بالنسبة للشعب اللبناني ، ولكن كل هذا لم يحول دون إندلاع حرب طائفية بشعة في لبنان أتت على الأخضر واليابس ، وإستعمل فيها الذبح على الهوية كما لم يستعمل في اي حرب همجية أخرى ، ولسنوات طويلة كالحة صمت العقل وتحدث المدفع ، وتهاوى الصرح الثقافي العظيم الذي بناه كدح الشعب اللبناني المبدع والمجد ، وساد منطق الفتوّة وقطاع الطرق والمتخلفين والمأجورين ، والذين وجدوا أنفسهم منساقين رغماً عنهم في دوامة الإقتتال الطائفي .
وحدة الشعب العراقي ، ولحمة نسيجه الإجتماعي تحتاج إلى من يتعهدها ويرعاها ويعززها ويعمقها ، والذين جاءوا مع الدبابات الأمريكية بإحزابهم الطائفية ، ومنظماتهم التي هي بلا لون ولا طعم ولا رائحة ، يغتالون الوحدة الوطنية عن قصد ، ويمزقون النسيج الإجتماعي الموّحد لهذا الشعب المبتلى بهم وبالإحتلال .
بعد أن أصبح للطائفية الآن أحزاب ومؤسسات وبيوت ونوادي ومنظمات ومرجعيات ، وربما منتجعات فيما بعد ، وبعد أن غيّب العراق الوطن والوطنيّة ، وتعملقت الطائفة والطائفية ، بعد هذا كله ألم يحن الأوان الآن لإيجاد مرجعية لمن هو أكبر من الشيعة وأكبر من السنة ، وأكبر من الكرد والتركمان وبقية الأقليات ، ألم يحن الآوان الآن لإيجاد مرجعية للعراق ، وللعراقيين .
خيانة للوطن والوطنية تأسيس أي حزب أو منظمة على أساس طائفي .. كل طائفة في شؤون دينها ترجع إلى مراجعها أو شيوخها أو رؤسائها ، لكنها فيما يتعلق بالوطن تعود للمرجعية الوطنية ، المرجعية الوحيدة التي يحق لها أن تتحدث باسم العراق كله .
مثل هذه المرجعية يجب أن تشاد الآن ، وليس بعد غد ، ومثل هذه المرجعية لا تضم المسلمين من السنة والشيعة فقط ، وإنما تشمل كل الأديان والطوائف بمجملها ، والقوميات بتنوعها ، مرجعية تحدد الخطوط الحمراء للوطن الواحد المشترك بين الجميع ، والتي لا يحق لأي قومية أو دين أو مذهب التجاوز عليها ، وهذا هو المبتدى . من يقول أنا مع العراق عليه باديء ذي بدء تجاوز المصالح المذهبية والفئوية والعرقية والمناطقية .
لا نقول فليذهب المعمم إلى المسجد والتكية ، فالمعمم مواطن ، له وعليه ما لكل مواطن وما على كل مواطن ، بل نقول فليكن المعمم سواء كان سنياً أو شيعياً إنموذج الوطنية العراقية ، لا ممثلاً لطائفته ، التي مهما كبرت فهي لا تعدو أن تكون جزء من كل .
صباح علي الشاهر