إلى مقتدى الصدر والحركات الأصولية : القرآن ليس بدستور
إلى مقتدى الصدر والحركات الأصولية :
القرآن ليس بدستور
د.هادي نعيم المالكي
hdk72@yahoo.com
2005-05-25
[align=justify]تقف الحركات الأصولية الإسلامية ، ومنها حركة مقتدى الصدر في العراق ، موقفا عدائيا من الدساتير في البلاد العربية والإسلامية ، يدفعها إلى ذلك تلك المقولة الإيديولوجية العامة بالقول " إن القرآن دستورنا " . هذه المقولة التي ترددها هذه الحركات الأصولية باستمرار كغيرها من المقولات الإيديولوجية العامة لا تكاد تصمد لبرهة عندما يسلط عليها أي ضوء من البحث القانوني والإسلامي المتأني .
يردد الأصوليون دائما إن " القرآن دستورنا " . وهنا أرجو أن يوسعوا صدورهم ، الضيقة عادة وللأسف بحكم تشددهم المفرط وغير المبرر ، و أن يسمحوا لي بان أقول لهم إن القرآن ليس دستورنا ؛ بل القرآن هو الكتاب المقدس للمسلمين ، وهو الكتاب الذي أنزل على النبي محمد ، صلى الله عليه وآله وسلم ، والذي يستمد منه المسلمون عقائدهم و حكمتهم وقصصهم وأمثالهم وأحكامهم الشرعية المختلفة فضلا عن المصادر الشرعية الأخرى للأحكام الشرعية وفي مقدمتها السنة الشريفة للنبي محمد ( ص ) و آل بيته الأطهار .
ولكن كل هذا هل يجعل من القرآن الكريم دستورا بالمعنى الاصطلاحي لكلمة دستور على ما يعرفها القانون الدستوري ؟ وهل التاريخ الإسلامي لم يشهد على طوله يوما عملية وضع دستور بالمعنى الاصطلاحي للكلمة ؟
ابتداء يقصد بكلمة " دستور " في القانون الدستوري مجموعة القواعد القانونية المدونة أو العرفية أو الاثنين معا التي تحدد شكل الدولة والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها وطبيعة العلاقات بين السلطات المختلفة في الدولة واختصاصات كل منها والحقوق والحريات الأساسية للأفراد . وهذه القواعد توضع مع إنشاء كل دولة جديدة أو تشكيل حكومة جديدة . وبعد ذلك ، فلفظة " دستور " ليست بعربية الأصل ، إنما هي ذات اصل فارسي ، وتعني القاعدة أو الأساس ؛ وبدأت هذه الكلمة تدخل بتردد وممانعة إلى الثقافة القانونية العربية مع بداية القرن العشرين مع التأسيس الحديث للدول العربية ومع موجة وضع الدساتير فيها في كل من مصر والعراق وسوريا ولبنان . لذلك فقد وجدنا المجلس التأسيسي العراقي الذي كلف بوضع الدستور العراقي الأول بعد استقلال العراق عن الإمبراطورية العثمانية قد ناقش الأصل اللغوي لكلمة الدستور و أطلق على الدستور الذي وضعه تسمية " القانون الأساسي " بدلا من " الدستور " بعد ما تبين له الأصل الفارسي للكلمة .
إذن فإذا كانت كلمة دستور ذات اصل غير عربي فيصبح مجرد القول بان " القرآن دستورنا " غير لائق وغير مناسب على الأقل من الناحية اللغوية . فمن غير المناسب أن يصوغ المسلمون العرب احد مبادئهم السياسية العامة التي تستخدم القرآن لتصفه بكلمة أخرى غير عربية . ولكن يبدو إن هذه المقولة الإيديولوجية قد صيغت من قبل الإسلامويون من ضمن موجة الرد والمقابلة الإيديولوجية لكل ما اعتبروه من مؤثرات الحضارة الغربية . و الأدهى والأمر من ذلك إن بعض الأنظمة العربية الشمولية قد وظفت هذه المقولة الإيديولوجية لصالحها لكي لا تكلف نفسها عناء وضع دستور لشعوبها لتبقى هي تتصرف بالدولة ومقدراتها كما تمليها عليها عقليتها الدكتاتورية وأحيانا مزاجية حكامها ، لان الدستور هو ببساطة مجموعة القيود المقررة على سلطات الحكام واختصاصاتهم . على أية حال واستمرارا على جوابنا على السؤال الأول ، فان القرآن الكريم بحد ذاته لا يصلح بجميع آياته أن يكون دستورا لبلد من البلاد الإسلامية لأنه يتضمن أمورا لا علاقة لها بالحكم وشكل الدولة لا من قريب ولا بعيد وذلك مثل القصص والحكم والأمثال التي يتضمنها القرآن الكريم . أما تلك الآيات التي من المكن أن تكون لها علاقة بأمور الدولة ونظام الحكم ، إن وجدت ، فهي تقرر مبادئ و قواعد عامة غير تفصيلية ، كما هو معروف ، تصلح لئن تكون مبادئ لعدة أشكال وأنظمة من الدول والأنظمة الإسلامية . فإذن ، إذا كان الأمر كذلك ، فلابد من أن يصار إلى استخراج مثل هذه المبادئ من القرآن الكريم وجمعها وتبويبها في وثيقة خاصة لتشكل الدستور بالمعنى الاصطلاحي للكلمة وسيكون بطبيعة الحال من الواجب أن يضاف إليها ما يمكن إضافته من مبادئ وقواعد تفصيلية أخرى ما دامت لا تعارض الشريعة الإسلامية بفهمها المرن . وإذ ذاك سنكون أمام وثيقة قانونية أساسية تحدد لنا شكل الدولة ونظام الحكم وطبيعة السلطات والعلاقات بينها وحقوق الأفراد وحرياتهم والقيود التي ترد فيها على سلطات الحكام . وسواء أطلقنا على هذه الوثيقة اسم الدستور أو القانون الأساسي أو قانون إدارة الدولة أو غيره من التسميات ، فإنها وفي كل الأحوال من المؤكد ستكون وثيقة أخرى غير القرآن الكريم . وهي الوثيقة التي يطلق عليها أهل هذا الزمان تسمية " دستور " بمعناها الاصطلاحي .
وهذا ما فعله النبي الأكرم محمد ( ص ) ، وهنا يأتي جوابنا على السؤال الثاني ، وذلك بعدما وصل إلى يثرب ليشرع في تأسيس دولته الإسلامية في المدينة المنورة وذلك بوضعه للوثيقة المشهورة التي سميت بوثيقة المدينة ويطلق عليها المعاصرون أيضا " دستور المدينة " والتي رأى النبي ( ص ) أن يضع الأسس التي يعتقدها مهمة لتنظيم الحياة العامة فيها ، وذلك حتى تتضح الأمور وتتحدد العلاقات وتضبط المسؤوليات التي تترتب على جميع الفرقاء الذين يشتركون في العيش قي مدينة واحدة ، لاسيما وإنهم من أصول مختلفة ويعتنقون أكثر من ديانة ، ولا تجمعهم وحدة الموقف أو المصلحة . وهذه الوثيقة على ما أوردها ابن إسحاق ، هي نص الوثيقة التي كتبها الرسول ( ص ) ، وحدد فيها صورة العلاقات في المجتمع المدني الجديد بفئاته المختلفة وما يترتب من حقوق وواجبات على كل فئة من هذه الفئات . ومما جاء في هذه الوثيقة ، من جملة أمور كثيرة :
" بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه كتاب من محمد النبي صل الله عليه وآله وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم امة واحدة من دون الناس ". وهنا يمكن القول ، إن النبي ( ص ) يحدد ركن الشعب في الدولة .ومما جاء في الوثيقة أيضا ، " إن يهود بني عوف امة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم " . وهنا يبدو إن النبي ( ص ) يتعرض لحقوق الأقليات . وجاء في الوثيقة أيضا ، " وان على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وان بينهم النصح والنصيحة ، والبر دون الإثم ، وانه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وان النصر للمظلوم ؛ وان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ؛ وان يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ...... " . راجع السيرة النبوية لابن هشام ، ط1 ،ج2 ، مصر ، المنصورة : دار الغد الجديد ، 2003 ، ص ص 101- 103.
إذن يبدو بوضوح لا يعتريه أي لبس من هذه الوثيقة إن النبي محمد ( ص ) كان أول من وضع دستورا في الإسلام بالمعنى الاصطلاحي لكلمة دستور .وعلى هذه النحو ، إذا كان النبي محمد ( ص ) أول من وضع الدستور في الإسلام ويجهل رجال الدين ذلك وهم الذين يدعون إنهم علماء الأمة ، فهل نكون قد بالغنا أو ذهبنا شططا إذ ما قلنا " إنما نحن امة ابتليت بجهل بعض علماءها " . [/align]