طالب الوائلي: الصراع بين دعاة الإصلاح وخصومه في النجف خلال العهد العثماني الأخير
الصراع بين دعاة الإصلاح وخصومه في النجف خلال العهد العثماني الأخير
طالب محيبس حسن الوائلي
كلية الآداب/ جامعة القادسية- العراق
تعد العلاقة بين المثقفين والسلطتين الاجتماعية والدينية، من الموضوعات المهمة التي تناولها بالدراسة عدد من الباحثين العرب والأجانب، باعتبارهما لا تقلان خطرا عن السلطة السياسية في تأثيرهما المضاد وفعلهما، إن لم تكونا أكثر خطورة، وتبدوان أحياناً قوة رادعة طاغية أكثر من أي سلطة أخرى كلما تعززت فيهما قوائم المحرمات، لا بل تبدو السلطة الرسمية متسامحة إلى حد البراءة، إذا ما قيست مواقفها بمواقف السلطتين الاجتماعية والدينية من المثقفين وحريتهم في التعبير عن أفكارهم وعوالمهم عبر إبداعاتهم الفكرية وكتاباتهم وقراءاتهم، في وقت مازالت المكتبة العراقية تخلو من مثل هذه الدراسات على حد علمنا، إذا ما استثنينا إسهامات الدكتور علي الوردي([1])، فقد ركزت معظم الدراسات التي تناولت التجديد ودور المثقفين في الحياة السياسية في العراق خلال العهد العثماني على الصراع بين المثقف والسلطة السياسية، دون محاولة تلمس أو تحديد أثر السلطة الاجتماعية وطبيعة الحراك السلطوي لكل من رجال الدين([2]) ورجال العشائر وأعيان المدن وتحالفاتهم.
لذا فان هذا البحث يحاول متابعة طبيعة العلاقة بين ثلاثة من علماء الدين المصلحين في العراق أواخر الحكم العثماني، شكلوا ثالوثا إصلاحيا، في مواجهة الثالوث السلطوي المكون من السلطة الاجتماعية (الأعراف والعوام)، والسلطة الدينية، التي يمثلها بعض رجال الدين شكلوا ما يسمى بـ(الضد النوعي) في مواجهة أقرانهم من رجال الدين المصلحين([3])، فضلا عن السلطة السياسية، التي تمثلت مرة بالسلطات العثمانية وأخرى بسلطة الشاه القاجاري في إيران([4])، بسبب خصوصية العراق الذي يرتبط بالدولة العثمانية من حيث التبعية السياسية، فيما ترتبط إيران به من حيث تبعيتها المذهبية والدينية له، إذ تجمع بينهما مرجعية دينية واحدة تعد مدينة النجف العراقية مركزا لقيادتها، كما نحاول أن نتلمس كيف ومتى يتمكن المفكر الأصيل من أن يتحول إلى سلطة؟ وذلك من خلال الموقف من الحركة الدستورية في كل من الدولة العثمانية وإيران وما رافقها من أحداث، هذا الموضوع الذي كان جزءا من تيار إصلاحي شامل كتبت عنه الكثير من الدراسات، لكنها لم تتطرق كثيرا إلى موقف ثالوث الإصلاح النجفي منها([5]).
تُعرّف السلطة، بأنها قوة ذات طابع منظم ترتبط بمنصب أو موقع أو وظيفة رسمية معترف بها في المجتمع تخوّل صاحبها حق إصدار القرارات الملزمة للآخرين، وتمنحه في الوقت نفسه حق توقيع الجزاءات على المخالفين([6]). وعليه فإن ثمة سلطات في أي بناء اجتماعي، وهي إلى جانب سلطة الدولة الرسمية، السلطة الدينية المكونة من علماء الدين وزعماء التجمعات الدينية المعترف بها اجتماعيا، فضلا عن السلطة الاجتماعية، التي تتشكل من الأعراف الاجتماعية ورؤساء العشائر والبيوتات والأعيان المتنفذين، وهذه السلطات ربما تتحالف مع بعضها في مواجهة عدو واحد كما ويمكن أن يتحالف بعضها في مواجهة الآخر.
وعلى أساس هاتين السلطتين وفي ظل حضورهما الفعلي في المجتمع المتخلف يُفرض على المثقف الكتاب الذي ينبغي أن يقرأ، ويحرم عليه ما لا ينبغي قراءته، ويتربع في جمجمة الكاتب ألف رقيب سياسي رسمي، واجتماعي شعبي، وهو يحاول التعبير عن نفسه خلال كتاباته الإبداعية أو الفكرية، كما تقتضي مهمته للبوح بأفكاره وآرائه، أن يتعلم لعبة التورية والمواربة والتقية([7])، وإذا كانت الكتابة تقوم في الأساس على اشتباك الكاتب مع الواقع الذي يحيط به، فإن النص الفكري يأتي في شكله الأخير تسوية لذلك الاشتباك من وجهة نظر الكاتب، ولا يمكن حسم ذلك الأمر على وجه أمثل بالأدوات التعبيرية اللائقة والمناسبة في ظل حضور أي من أشكال الرقابة التي تهدر الإبداع والفكر، فقط، الكتاب المسفّون هم الذين لا تعنيهم تلك المسألة بسبب ذلك القدر الكبير من الخواء الذي تنطوي عليه كتاباتهم المسالمة اجتماعياً وحكومياً... والتي توزع الفضيلة الساذجة، وتبيع السائد اجتماعياً، ولا تشتبك مع مؤسسة الرقابة الحكومية عبر التصادم مع بنية الدولة ومخرجاتها الاجتماعية([8])!!.
وإذا ما بدا للمتابع وجود هذا الأمر البديهي في الساحة الفكرية العراقية، فإنها شهدت ما يخالفه عندما انفرز موقف ديني إصلاحي، فلقد كان لمجتهدي مدينة النجف العراقية، التي تعد المركز الرئيسي للمرجعية الشيعية، مهمة الريادة والقيادة لحركة إصلاح فكري وسياسي نظري وعملي، استجابة لتحديات خطيرة واجهت المجتمع الإسلامي، والفضل هنا يعود لنظام الاجتهاد الذي يستلزم من جميع أتباع المذهب الشيعي ممن لا يستطيعون استنباط الحكم الشرعي من النصوص وسيرة المعصومين أن يعتمدوا في ذلك على العالم الثقة القادر على الاجتهاد وهو المجتهد، فيتصدى للإجابة على أسئلة أتباعه التي تتعلق بالمعاملات أو العبادات أي قضايا الدين والدنيا و أحيانا السياسة. وغالبا ما يُصدِر المجتهد أو أحد تلاميذه مجموعة فتاوى تسمى الرسالة تطابق آراءه الفقهية، فيها إجابة على معظم الأسئلة الخاصة بالعبادات والمعاملات، كما ويصدر بين الحين و الآخر أجوبة تتعلق بمستجدات المسائل كي تكون هذه الاجتهادات استجابة للمستجدات التي تواجه المسلمين، فيما يخول المجتهد نوابه في الأمصار الإسلامية الإجابة على أسئلة أتباعه ومشكلاتهم، وتسلم الحقوق الشرعية منهم وهي الخمس والزكاة وغيرها فيرسَل معظمها إليه حيثما يقيم لينفقها على طلبة العلم و بعض الفقراء وتلبية الحاجات المعيشية لأسرته أو لتطوير حوزته العلمية.
وبالنظر للظروف السياسية التاريخية التي مر بها الشيعة، فانهم يعتقدون أن العالم الديني أولى بالطاعة من الحكام في ظل أي نظام سياسي حتى ولو كان هذا الحاكم شيعيا يدّعي ولاءه لأهل البيت. كما أن نظام المرجعية الدينية أمّن تعدد المرجعيات وتنافسها في كسب اكبر عدد من المقلدين في أنحاء العالم الإسلامي عن طريق مواقف اجتماعية أو سياسية أو علمية متميزة، لأنه يمكن لأتباع مجتهد معين أن يعدلوا إلى تقليد غيره بسبب وفاته أو ثبوت علمية أو تميز غيره([9]) وهذا يعني أن تفاعله مع هموم الناس يظل قويا وأنه مستعد دائما للدفاع عن مصالح أتباعه المشروعة، فضلا عن أنه مؤهل لإصدار بعض الفتاوى الخاصة بتحريم مسألة مدة من الزمن ثم العودة إلى إباحتها تبعا لظرف سياسي أو أمني أو اقتصادي أو اجتماعي([10]). وتبعا لما تقدم فالمجتهد ليس مستشارا دينيا في مسائل الحلال والحرام فقط، بل هو معلم وقائد وموجه، لكن سلطة بعض علماء الدين ورسالتهم القيادية يمكن أن تتأثر بآراء العامة ومصالحهم فتكون توجهاتهم الفكرية والسياسية متأثرة إلى حد بعيد بسلطة العوام.
وعندما شهد العراق أواخر الحكم العثماني، مثله مثل بقية بلدان المنطقة، تحولا خطيرا باندماجه بالسوق العالمية، وازداد إقبال الناس على المدارس العصرية التي أضحت مصدرا لإنتاج الفئة المثقفة العراقية، استطاعت المؤسسة الدينية في العراق أن تُخرج من تحت عباءتها عددا كبيرا من المجددين، أسهموا في معالجة القضايا والمستجدات الملحة التي طرحت على الساحة السياسية والثقافية في العراق خلال تلك السنوات والتصدي لها برؤى عصرية و إصلاحية أصيلة، وإذا كانت أوضاع العراق قد هيأت الأرضية الملائمة لميلاد الفئة المثقفة، فإنها كانت أعجز من أن تخلق ظروف تطورها السريع ونموها، لتترك للعوامل الخارجية أن تؤدي الدور الحاسم في هذا المجال([11]). وكان الاحتكاك بالحضارة الغربية والأجانب الذين دخلوا العراق قد ولّـد الكثير من الأسئلة الملحّة فـي أذهان عراقيي المدن ـ لاسيما الشباب منهم ـ عن كيفية التعامل مع ما أبدعه الغربيون (الكفّار) من مكتشفات ومدارس وعن إمكانية تعلم لغاتهم ونظمهم السياسية والتمثيلية وتقاليدهم الفكرية، مما احتاج إلى إجابات شافية تلبي هذه الحاجات، في وقت لم تكن الخطوات الإصلاحية التي صدرت من السلطة العثمانية كافية، فخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اقتنعت السلطة السياسية العثمانية بضرورة إجراء بعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية، إلا أنها ظلت محدودة مقارنة مع حجم الهم الوطني في العراق وغيره، لاسيما في مجالات التمثيل النيابي والسياسي وإصلاح شؤون التعليم والصحة والمرأة وغيرها، لأسباب متعددة كان من أهمها تصدي المؤسسة الدينية العثمانية، ممثلة برأسها أبي الهدى الصيادي([12])، لهذه الإصلاحات، بعد أن تحالف مع السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) الذي عطل الدستور وخنق الحريات مما أدى إلى ظهور تيار سياسي داخل الدولة العثمانية عموما وفي العراق بصورة خاصة يعارض ديكتاتورية عبد الحميد ومشروعه السياسي والفكري، وساعدت الحركة الدستورية في إيران على بروز هذا التيار، بعد أن تجاوزت الحدود الجغرافية نحو العراق، بل وشملت الدولة العثمانية بأسرها. على أن الجغرافيا لا يمكنها أن تفصل بين المسلمين إذا ما كانت تجمع بينهم مرجعية دينية واحدة([13]).
وكانت حركة “المشروطة”([14]) الإيرانية، قد اندلعت عام 1905 بقيادة بعض المراجع الدينيين([15]) والمثقفين الليبراليين([16])، بالتحالف مع تجار البازار([17])، فاعتصم عدد منهم في بلدة السيد عبد العظيم([18])، وطالبوا بتشكيل محاكم عدلية تطبق القوانين الإسلامية وعزل بعض الموظفين، فاضطر الشاه مظفر الدين (1896-1907) إلى الموافقة على المطالب فأمر الميرزا([19]) عبد الحميد عين الدولة صهره ورئيس وزرائه (1904-1909) بتلبيتها، لكن الأخير التف عليها ولجأ إلى القوة لمعالجة الاعتصام، فشن حملة قمع و اعتقالات ضد بعض رجال الدين وشخصيات أخرى وسقط على أثرها العشرات، عندها قرر علماء الدين واتباعهم ترك العاصمة طهران للاحتماء بمدينة قم، وخلال شهر تموز 1906 التجأ أكثر من عشرة آلاف معارض إلى مقر السفارة البريطانية في طهران لإحراج الحكومة أمام الدول الأخرى، وخلال وجودهم في مبنى السفارة طرأ تطور هام على مطالب المعتصمين نحو الحرية والمساواة والدستور([20])، فقدموا مذكرة معنونة إلى الشاه، تضمنت المطالبة بتأسيس مجلس الشورى([21]).
هنا جاء دور المرجعية الدينية في العراق، عندما طلب علماء الدين في داخل إيران من نظرائهم في النجف([22])، مساندة الحركة الدستورية وإرسال برقيات إلى الشاه تطالبه بتشكيل مجلس الشورى([23])، وهذا ما حصل، إذ أصدر بعض العلماء فتوى موحدة تؤيد مساعيهم وتدعو المسلمين كلهم إلى التصدي لتأييد الدستور، فساعدت هذه على إجبار الشاه مظفر الدين في الخامس من آب 1906 على الاعتراف بالدستور وإعلانه، فشكل أول مجلس شورى في إيران (شوراي مِلّي)([24])، لكن السلطة السياسية تحالفت مع عناصر من رجال الدين في مقدمتهم فضل الله النوري([25])، كي تستفيد من مبدأ قديم في السياسة البريطانية هو مبدأ (الضد النوعي)، أي استخدام رجل الدين ضد رجال الدين الآخرين، فآتى هذا التحالف أكله، فبعد أن فشل النوري في الوقوف ضد الحركة الدستورية الكاسحة التي كان من أنصارها في البداية، حاول الالتفاف عليها وإفراغها من محتواها الديمقراطي، فبذل جهودا مضنية حتى تمكن من الحصول على موافقة البرلمان، بإضافة مادة متممة للدستور تقضي بان يقوم خمسة من فقهاء كل عصر بالإشراف على لوائح المجلس وقراراته، "حتى لا يصادق على تلك التي تخالف الإسلام!"([26])، أي انه تمكن من ضمان نقل ديكتاتورية السلطة السياسية إلى السلطة الدينية، بل واضطر إلى الوقوف ضد الدستور والحرية فيما بعد ووصفهما بأنهما "سراب لا ماء" وانه وجد، "أن الهدف من التظاهر بالحرية هو الانحلال والتجرد من الضوابط الشرعية والقوانين الإلهية وبالتالي إقصاء الإسلام عن جميع الجوانب … والأخذ بالأنظمة الإلحادية"([27]).
فافتتحت جلسات مجلس الشورى في 7 تشرين الأول 1907([28])، و بذا تكون حركة “المشروطة” الإيرانية قد تركت انعكاسات سياسية وفكرية مهمة على بنية العراق. ولعل من أخطر ما واجهه المصلحون الدينيون ـ السياسيون، رفض فكرة الدستور من قبل السلطة الدينية ممثلة ببعض علماء الدين (الضد النوعي)، والسلطة الاجتماعية ممثلة بعدد من رؤساء العشائر والبيوتات والكثير من أتباعهم من العوام و بسطاء الناس من المقلدين، في كل من العراق وإيران و أنحاء أخرى من الدولة العثمانية، على الرغم من شرعية مطالب التيار الدستوري، فوقفت المؤسستان الدينيتان الإيرانية والعثمانية على حد سواء، ضد الحركة، لاسيما بعض أطراف الحوزة العلمية في قم([29]). فمثلا كان الهدف المعلن لـ(جماعة المشورة)([30]) مقاومة الدعوة إلى الدستور، تحت شعار إعادة أحكام الشريعة الإسلامية ومناهضة الاتحاديين.
وساعدت ظروف الدولة العثمانية السياسية المناهضة للتوجهات الديمقراطية والدستورية والمؤيدة لاستبداد عبد الحميد، السلطة الدينية في النجف من أنصار “المستبدة” (الضد النوعي)، بزعامة السيد محمد كاظم اليزدي([31])، على استلام زمام المبادرة في التأثير على الهيئة الاجتماعية، وتسخير سلطتها وسطوتها إذ لم يتردد في إدخال العشائر لدعم موقفه، فطلب حضور العشائر العراقية إلى النجف، فجاءوا مسلحين والتفوا حوله بأهازيجهم وهتافاتهم المنددة بالمشروطة([32])، بغية التأثير على أنصارها، بزعامة الملا محمد كاظم الخراساني "الآخوند"([33])، على الرغم من نيله تأييد المرجع الأعلى حسين الخليلي([34])، وهو ما يعني أن المؤسسة الدينية انشقت على نفسها بين مؤيد للدستور ومعارض له، فمارس كل جناح منهما سلطته على أتباعه من عناصر الهيئة الاجتماعية، من جماهير العراق وإيران، لاسيما في الكاظمية و كربلاء والنجف، والتي انقسمت بدورها إلى شقين بين مؤيد متحمس للمشروطة ورافض أكثر حماسة، تبعاً لانشطار الرأي والموقف من لدن العلماء والمجتهدين، فحصل نزاع فقهي بين الفريقين، تخللته أحيانا صدامات عنيفة.
أي أن تحالفا قام بين السلطتين الدينية والاجتماعية بالاستفادة من مغازلة السلطة السياسية وغطائها ضد المثقفين وعلماء الدين وأتباعهم من ممثلي الرأي الآخر (أنصار المشروطة)، الذين أعلنوا موقفهم المعادي للسلطان وتأييدهم للحركة الدستورية، عندما أرسل الآخوند برقية مطولة إلى عبد الحميد، تضمنت إنذارا وتهديدا ونصيحة معا، بضرورة الاستجابة لمطالب الدستوريين([35])، في وقت أصبحت الكلمات السياسية والاجتماعية مثل: الاستبداد، والحرية، والدستور، والانتخاب، ورأي الأمة، محل أخذ ورد، هذا كله بعث مناخاً مشحوناً بالنزاع امتزجت فيه الأفكار بالمناورات([36])، لاسيما خلال السنوات من 1907 حتى الانقلاب العثماني عام 1908 عندما وصل الاضطهاد ذروته. وبغية حماية عناصرهم وتنسيق المواقف، اضطر أنصار الدستور منذ أوائل عام 1908 إلى تشكيل "هيئة العلماء"، التي ضمت ثلاثة وثلاثين عضوا من كبار المجتهدين من علماء المدينة، ورجال دين شباب أقل مرتبة، وعدد قليل من السادة والوجهاء([37])، هم كل من كان يصلي خلف الآخوند، في وقت كان الآلاف يصلون خلف اليزدي، من بينهم أبناء العشائر والمحلات النجفية الأربع([38])، المنقسمة بين حزبي النجف المعروفين "الزقرت و الشمرت"([39]).
وإذا كان البعض يرى أن معظم العناصر التي التفت حول الخراساني هم من الإيرانيين، فيما التف العرب حول اليزدي([40])، فإن هذا القول بحاجة إلى إعادة نظر، وأنه لا ينبغي الاعتماد على الانتماء القومي لمثل هذه القضايا، إنما القول الأكثر دقة، أن المثقفين والمتنورين من علماء الدين ومثقفي المدن هم الذين وقفوا إلى جانب المشروطة، فيما وقفت العشائر والمحلات النجفية وبعض رجال الدين وغيرهم إلى جانب اليزدي، وهو نتيجة الطبيعة المعقدة للعلاقات الاجتماعية المختلفة بين الأرياف والمدن، فلقد كان الدافع وراء الانضمام إلى الحركة الدستورية الوعي بفوائد الديمقراطية، فيما لابد أن يقف أبناء العشائر والفلاحين إلى مؤيدين لجناح المستبدة، إما بسبب قلة وعيهم الفكري وعدم حصولهم على قدر مهم من التعليم، أو عدم رغبتهم في مخالفة رؤسائهم أو أولياء نعمتهم، وأن قراء المراثي الحسينية الذين كانوا يذهبون إلى الأرياف كل عام، كانوا يتولون نقل وجهات نظر المؤسسة الدينية التقليدية التي تتّبع غالبا المرجع الأعلى، فضلا عن أن رؤساء العشائر هم الذين يتولون استدعاء هؤلاء الخطباء، فيرسلون في طلب العناصر التي تمثل وجهات النظر الموالية غالبا لجناح السيد اليزدي المهادن([41])، والتي لا تعمل على تثوير الريف لصالح مشاريع الإصلاح السياسي الخطيرة، وربما نتفق مع ما يراه أحد المفكرين الإسلاميين، من أن عناصر السلطة الاجتماعية يمكنها مشاركة المؤسسة الدينية في سلطتها والتدخل في قراراتها باستخدام عوامل الضغط المالي من حقوق شرعية وهدايا مالية وغيرها، إذ يرى: أن أصل هذه المشكلة هو النظام المالي الذي يعطي السلطة المالية للعوام على العلماء، فيجعل المنظومة الدينية تسير خلف القافلة بدلا من أن تكون طليعة لها([42]). كما يرى آخر، أن سبب انتماء البعض إلى هذا التيار أو ذاك، التنافس بين الأسر النجفية، فمثلا أضحى تحول محمد حسين آل كاشف الغطاء (ت 1954) وأخيه من جماعة المشروطة نحو تيار اليزدي، سببا في انضمام آل الجواهري وآل بحر العلوم إلى جماعة المشروطة([43]) ،على أن عددا لا يستهان به من أتباع الآخوند (أعضاء هيئة العلماء الثلاثة والثلاثين) هم من العرب([44]).
ويروى أن طلبة العلوم الدينية من أنصار "المشروطة" لم يستطيعوا الخروج من النجف لأداء الزيارة سنة كاملة خوفا من أنصار المستبدة([45])، وهنا يصف هبة الدين الشهرستاني([46])، أحد أنصار “المشروطة”، الخصومة بينهم وبين أنصار “المستبدة” بقوله:
"بلغت منتهى الوحشية، حيث إيذاء العوام لأخوتنا وهيئتنا، وبتسميم أفكار العوام في أننا نريد الحرية التي هي ضد الدين ... وكانوا يجتمعون لتدبير الأعمال ورسم الخطط، بصورة سرية في سراديب النجف خشية العوام و أنصار اليزدي"([47]).
ولما كان من المفروض أن تكون النجف وأتباعها أكثر المتحمسين للمشروطية أو “المشروطة” سواء في الأستانة أو في طهران، لما تحققه من المساواة بين الناس جميعا بعد قرون طويلة من الاضطهاد العثماني أو الشاهنشاهي؛ أضحى المنادون بالدستور أقلية عدتهم العامة زنادقة([48])، عذرهم في ذلك أن الحرية ضد الدين([49])، أو كما ينقل أحد المعاصرين عن أنصار “المستبدة”:
"أن الدستور سيجعل المسلم وغير المسلم إخوانا في الوطن وأنه سيحد من سلطة السلطان عبد الحميد وهذا ما لا يرضاه أحد منهم"([50]).
وبينما عاشت جماعة “المشروطة” في النجف ظروفا قاسية وتعرضت باستمرار لمضايقات خصومها، فان انتصار “المشروطية” في الدولة العثمانية وتحولها إلى سلطة سياسية، مكن من تفتيت السلطة الاجتماعية وتحول عدد من عناصرها من وجهاء وأعيان ورؤساء عشائر، فضلا عن بعض العلماء ممن كان يعارض الدستور، أو ممن كان يقف متفرجا في أحسن الأحوال، إلى مؤيدين للمشروطية، واخذوا يتهافتون على الانتماء إلى جمعيات الاتحاد والترقي([51])، لكن انتماء الهيئة الاجتماعية لجماعة “المشروطية” لم يكن انتماء أصيلا، وأن تحولهم لم يأت بفعل القناعة بالدستور أو بما دعا إليه الإصلاحيون من فوائد الديمقراطية، بل تقربا للسلطة السياسية لكسب المغانم. وهكذا انعكست الصورة وانقلبت العامة ضد أنصار “المستبدة”، فبدأت عناصر الاتحاد والترقي تهدد اليزدي بالنفي، ما لم يعلن تأييده لها، مما دفعه إلى الإعلان عن انصرافه إلى الشؤون الدينية وتركه الشأن السياسي([52])، وبدأت الغالبية العظمى من العلماء و المقلدين من العامة تلتف حول الآخوند الخراساني زعيم التيار الدستوري([53]).
وسط هذا الجو المشحون بالعداء والتنافس، كان على المصلحين العمل وتوجيه الناس نحو السلوك الواعي ونبذ الخرافات، خطوة أولى في طريق نشر الوعي السياسي وتقبل الديمقراطية. ويحدد أحد علماء الاجتماع المعاصرين شروطا ثلاثة ينبغي مراعاتها لإنجاح الإصلاح الاجتماعي، أولها أن ينبعث الإصلاح من الداخل، أي أن يأخذ أبناء الطوائف على عاتقهم النهوض بالإصلاح، لأن الإصلاح القادم من الخارج سيثير الخصومات بين الطوائف ويجعل الطائفة المقصودة تزداد تعصبا لعقائدها، وأن يدعو المصلحون لأفكارهم بالحسنى والابتعاد عن الإرغام، لأن استعمال القوة من شأنه أن يؤصل العقائد الخاطئة ويثبتها، فضلا عن وجوب مراعاة ظروف المجتمعات وتقاليدها وخصوصياتها، باعتبار أن العقائد هي ظواهر اجتماعية اكثر مما هي أفكار مجردة([54]).
ولملاحظة مدى تطابق هذه الشروط مع تحركات مصلحينا، نرى انهم حرصوا أولا على العمل من داخل المؤسسة الدينية التي كان يمكنها فعل الكثير بالنظر لما تملكه من قابلية روحية في التأثير على طلبتها وأتباعها، باستخدام سلاح الفتوى الذي أثبتت التجارب أنه من أكثر الأسلحة مضاء في التأثير على المجتمع والعوام وتحقيق الأهداف المرجوة منها سواء في ما يخص محاربة البدع أو التأثير على الخصوم وتحقيق أهداف سياسية أكثر خارج إطار الواجبات الدينية، إلى جانب استخدام التأثير على البسطاء من العامة من خلال خطباء المنبر الحسيني الذين يفدون على القرى والمدن الأخرى للوعظ والخطابة في مراسم عاشوراء، فينقلون آخر تصورات المؤسسة ومواقف علمائها بأسلوب يختلط فيه الفكر بالعاطفة الدينية، لكن تحقيق الشرط الثالث وهو مراعاة الخصائص الاجتماعية، أمر يصعب تحقيقه بسبب ارتباط العقائد الدينية بالمصالح الدنيوية لدى العامة، وهو يعني بالنتيجة استعداد الكثير من الناس للموت في مواجهة أي تيار يحاول تحجيم هذه المعتقدات أو تحديها.
وكانت السلطة الدينية من دعاة "المشروطة"، ترى أن الحياة الدستورية أمر لابد منه في سبيل تحقيق طموحات الشعب والنهوض بالأمة من تخلفها وضعفها وضمان حقوق الرعية، فقدم الميرزا حسين الخليلي و الآخوند الخراساني وغيرهم دعمهم للدستور والمجلس ورأوا في إلغائه تجاوزا على حقوق الشعب الإيراني، وعدّوا قوانينه مقدسة ومحترمة وأنها فرض على جميع المسلمين، وأن الوقوف ضدها "بمنزلة الإقدام على مقاومة أحكام الدين الحنيف"([55])، وذلك بعد وفاة مظفر الدين شاه ووصول ولده محمد علي شاه (1907-1909) إلى الحكم في إيران، فكان هذا متأثرا بالروس، ويكره الحياة البرلمانية والدستور. وبهدف قطع الطريق على الروس في التأثير على الشاه وكسبه إلى مخططاتهم، بادر الآخوند إلى إرسال بعض النصائح المكتوبة للشاه، أطلق عليها "الوصايا العشر" يدعوه فيها إلى انتهاج سياسة مستقلة و التمسك بمجلس الشورى. ومما لاشك فيه إن هذه الوصايا على درجة كبيرة من الأهمية والعمق، تصلح معهما لتكون منهاج عمل أو برنامجا سياسيا لأي سلطان أو رئيس دولة، كما وتنم عن مقدرة سياسية متقدمة ورؤية فذة، يقال أنها أجبرت الشاه على الاهتمام بها فعلقها في بلاطه([56])، مع أنه كان يسير في الاتجاه المضاد للدستور والحرية.
تضمنت الوصايا دعوة للالتزام بمبادئ الإسلام والمواظبة على الفرائض والعمل على النهوض بالدين، وانتخاب المستشارين المخلصين لاسيما في الشؤون الدينية، والابتعاد عن طلاب الدنيا والأنانيين من المستشارين الفاسدين، وهو شرط أساسي لعدالة الحاكم الذي يبتغي قيادة الدولة والرعية بعدالة ومساواة، فكم من حاكم عادل سقط بسبب المستشارين الفاسدين والبطانة الظالمة، ودعوة للاهتمام بتصنيع البلاد وتربية أبناء الأمة وتشجيعهم على ممارسة الحرف والصناعات كي لا تبقى البلاد بحاجة إلى الدول الأخرى، ولم يتردد الخراساني في أن يجعل (ميكادو اليابان) مثلا يقتدى من الحاكم المسلم الذي ينبغي أن يسعى إلى نشر العلوم والمعرفة بين أبناء الأمة للوصول إلى المستقبل المنشود، كما رفض التدخل الأجنبي في شؤون البلاد لأن في تدخلهم نشر للفتنة، ودعا إلى المساواة بين المواطنين كافة إلى الحد الذي يتساوى فيه "شخص السلطان نفسه واضعف فرد من أفراد الرعية في الحقوق و أحكام القانون"، على أن تكون المحبة والرحمة أساس العلاقة بين السلطان ورعيته، فأوصى الشاه أن يحب الناس ليحبوه، بل دعاه ليكون قدوة صالحــة للشعب، فرأى ضرورة أن يرتدي ما تصنعه أيدي الإيرانيين من لباس، ليقتدي به رجال البلاط ومن ثم يكونوا قدوة للبسطاء من الناس، فيشجعهم على ارتداء ما تصنعه بلادهم ويشجع بذلك الصناعة الوطنية، ودعاه إلى قراءة التاريخ بجد وتفكر كي يكتشف أن قوة الأمم تكمن في عدالة حكامها، وأن الدول تسقط عندما ينغمس أولياء الأمر في الملذات، فيتبعهم رجال الدولة في ذلك، فتتردى البلاد والعباد، وختم الآخوند رسالته بالدعوة إلى الاهتمام بالعلم والعلماء المصلحين العاملين، وأن التقصير بجزء من هذه الكليات يعرض البلاد للمهالك وذهاب الدولة فيحدث الندم بعد فوات الأوان([57]).
وعندما وجدت السلطة الدينية أن كل هذه الوصايا لم تجد نفعا مع الشاه، أثبتت مرة أخرى([58]) قدرتها الهائلة على التأثير في الحياة السياسية وتحريك السلطة الاجتماعية وتسخيرها لصالح برامج التغيير والإصلاح السياسي، فبعد أن أصدر أوامره لضرب البرلمان بالمدفعية و مطاردة رجال المشروطة ونفيهم وتعطيل افتتاح المجلس، واعتبار "افتتاح المجلس وتحقير الدين شيء واحد"([59])، أرسل له الآخوند رسالة شديدة اللهجة وصفه فيها بالضال وأعرب عن خيبة أمله في إجراءاته، ورفض في رسالته فكرة معارضة افتتاح المجلس للدين الحنيف واتهمه بمحاولة رشوة علماء الدين ليقفوا معه ضد الدستور والبرلمان، كما ندد بموقف فضل الله النوري المساند للشاه([60])، ثم اشترك الآخوند مع الميرزا حسين الخليلي والشيخ عبد الله المازندراني([61])، في إصدار فتوى دينية تعد إسقاط الشاه واجبا دينيا، وتدعو المسلمين إلى عدم دفع الضرائب وبذل الجهود لإعادة المشروطة، واعتبار ذلك بمنزلة الجهاد([62]).