لورنس لغز الجزيرة العربية - انتوني ناتنغ و لويل توماس
لورانس لغز الجزيرة العربية
انتوني ناتنغ و لويل ثوماس
١٩٨٧
بيروت
مقدمة
ولد توماس ادوارد لورانس في اليوم السادس عشر من شهر آب، عام ١٨٨٨ . وكان الابن الثاني غير
الشرعي للسير توماس روبرت تشابمان من السيدة سارة مادن، التي كانت تعمل في منزله كمربية لبنات ه الأربع،
فأحبها وهجر زوجته الشرعية من أجلها . ثم رحلوا جميعًا من ايرلندا واستقروا في مقاطعة ويلز . وهناك
عاشرها معاشرة الأزواج. وما لبث أن بدل اسم أسرته من تشابمان إلى لورانس.
هذا، وقد أنجب السير لورانس من زوجته الجديدة، سارة خمسة أولاد، هم : بوب، الابن البكر، الذي التحق
بإحدى البعثات الطبية التي كانت تعمل في الصين.
وبقي فيها لغاية عام ١٩٣٥ ، إذ عاد إلى بريطانيا، وكرس حياته لخدمة والدته. وتوماس، الابن الثاني، وهو
الذي غدا تلك الشخصية الأسطورية المعروفة باسم "لورانس العرب".
وويل وفرانك، اللذان قتلا في الحرب العالمية الأولى. وأخيرًا. ارنولد، الذي أصبح أُستاذًا في جامعة كمبريدج
يدرس مادة علم الآثار. وقد اختاره لورانس ليكون وصيًا شرعيًا يرعى حقوقه في مؤلفاته ومنشوراته بعد وفاته.
والجدير بالذكر أنه لم يبق في قيد الحياة من أبناء السير لورانس، سوى اثنين، وهما : بوب ، الابن الأكبر،
وأرنولد، الابن الأصغر. أما ويل وفرانك، فانهما قد قتلا كما ذكرنًا آنفًا في الحرب العالمية الأولى.
وتوفي الوالد أي السير لورانس في عام ١٩١٩ ، وذلك أثر إصابته بوباء الانفلونزا، بينما توفي لورانس
الأسطورة في عام ١٩٣٥ ، وذلك على أثر إصابته في اصطدام حدث لدراجته النارية. أما الوالدة فقد توفيت عام
١٩٥٩ بعد أن عاشت حياة طويلة امتدت إلى ثمان وتسعين سنة.
ومما يذكر أن لورانس كان في السنة الأولى من عمره عندما قرر والده أن يرحل من ايرلندا . وكان أن توجه
منها أو ً لا إلى اسكتلندا.
ثم عاد وانتقل منها إلى جزيرة "مان"، ليعود ويهاجر منها إلى منطقة جوسي ثم إلى فرنسا . وأخيرًا، عاد من
فرنسا إلى بريطانيا حيث استقر نهائيًا في مقاطعة اوكسفورد . وهنا ألحق أولاده بإحدى المدارس الثانوية، ثم
الجامعة.
لقد ظهرت معالم النبوغ على لورانس، منذ نعومة أظفاره، فقد كان شديد الميل إلى الدرس والمطالعة.
٢٢
وكان منذ حداثته يبدي اهتمامًا بالغًا بعلوم الآثار وبالمواضيع المختلفة التي تتفرع عنها، وهي : الهندسة
المعماريّة القديمة والأسلحة والمخطوطات والأواني الخزفية القديمة، وما إلى غير ذلك من الفنون . ونتيجة لذلك
بدأ ير ّ كز اهتمامه على دراسة الحصون والقلاع المتبقية من القرون الوسطى.
هذا ويذكر لورانس في مذكراته الشخصية أنه كان في العاشرة من عمره عندما اعترف له والده بواقع حياته
الزوجية وقصة فراره مع والدته من ايرلندا.
ويذكر أيضًا أن والده كان يرغب الزواج من والدته بصورة شرعية، لو أن زوجته الشرعية السابقة الليدي
تشابمان رضيت بالطلاق منه.
والظاهر أن لورانس تأثر جدًا بما عرفه عن ماضي أُسرته . ذلك الماضي الذي جعل رفاقه في المدرسة
يعرضون عنه وعن مخالطته ومعاشرته كغيره من الطلاب.
من هنا كان أن تولدت في نفسيته نزعة جامحة هي التي كانت تدفعه نحو المعالي، وهي التي كانت تحّثه على
القيام بمثل تلك الأعمال الحارقة التي تمكن بها من التفوق على جميع أقرانه الطلاب، الذين كانوا ينظرون إليه
من زاوية القيم الأخلاقية السائدة في ذلك العصر يقينًا منهم بأن ذلك كان كافيًا لتجريده من جميع الاعتبارات
الاجتماعية. وكأنه كان يريد بذلك أن يقول لهم بلسان الشاعر القائل:
لا تقل أصلي وفصل أبدًا إنما أصل الفتى ما قد حصل
ومما كان يزيد في اعتباره الاجتماعي حرص والديه على تمسكهما بالمبادئ والقيم الأخلاقية، وحرصهما على
بقاء أواصر عائلتهما القوية، متينة، مترابطة.
وأهم من كل ذ لك أن والدته قضت حياتها شريفة بين الناس، تقية، مخلصة لزوجها، عطوفًا على أولادها،
حريصة كل الحرص على أن تربيهم تربية صالحة وشريفة . وذلك ما جعلها قريبة من أفئدة جميع الذين عرفوها
وعاشروها، وجعلهم بالتالي يتناسون ماضيها.
كذلك كانت والدة لورانس ذات إرادة قوية ، كأنما توقدت من صخور البال في اسكوتلندا، موطنها الأصيل،
والذي يبدو لي هو أن لورانس كان ولدها الوحيد الذي ورث عنها إرادتها الصامدة التي لا تلين.
وهناك من يقول إن انصراف والدة لورانس إلى تربية أولادها تربية حسنة لائقة، وانصرافها إلى الصلاة
وأعمال البر والإ حسان، إنما كان بدافع ما كانت تشعر به من وطأة تلك الجريمة التي اقترفتها بحق مخدومتها
الليدي تشابمان، على تفكيرها وضميرها.
وعلى أية حال، فليس هناك من ينكر أن والدة لورانس عاشت حياة صالحة مفعمة بالرشاد والصلاح.
أما والده فكان على الرغم من ثقافته المرموقة لا يشعر بأي ميل نحو العمل أو طلب الوظيفة . وربما كان مردّ
ذلك إلى نزعته الأرستقراطية التي توّلدت في نفسه من واقع انحداره من أُسرة غنية تملك الأطيان الشاسعة في
ايرلندا.
حتى أنه كان لا يتصور بأن واجباته الأساسية في الحياة تعدو نطاق إدارة شؤون الأسرة وممارسة بع ض
أنواع الرياضة.
٣٣
والواقع أنه كان يملك زورقًا للسباق، ويكثر من الذهاب إلى رحلات الصيد . ومع مرور الأيام أخذ يهوى
ركوب الدراجات الهوائية.
فكان يحاول أن يشبع رغباته منها بالإكثار من النزهات والرحلات البعيدة . ومما يقدر أن لورانس كان يرافقه
في أغلب الأحيان . وكثيرًا ما كان يذهبان في رحلات بعيدة إلى بعض المناطق النائية من الجزر البريطانية،
وبنوع خاص، إلى مقاطعة ويلز، وهناك شاهد لورانس لأول مرة الأثرية . وفي عام ١٩٠٦ ذهب لورانس برفقة
والده في رحلة إلى فرنسا.
وفي شهر تشرين الأول من عام ١٩٠٧ ، التحق لورانس بكلية يسوع في أكسفورد. وهناك سجل لنفسه عدة
اكتشافات رائعة عندما كان يقوم بأعمال التنقيب عن الآثار تحت مياه البحر.
وأبدع في المحاولات البارعة التي برهن بها عن رشاقته وخفته في التنقل من فوق سطوح الأبنية أناء الليل.
كما انه اشتهر بروحه المرحة، وعمق تفكيره ، وسعيه الد ائب في طلب العلم والمعرفة، واهتمامه الزائد
بدراسة أحداث ووقائع القرون الوسطى، وتع ّ شقه لمطالعة القصص الروسية والمؤلفات العسكرية في التكتيك
والاستراتيجية الحربية.
وهكذا استطاع لورانس في غضون فترة قصيرة أن يسترعي انتباه بعض مشاهير علماء الآثار، أمثال ليونارد
وولي وهو غارث.
ولا عجب إذا ما أصبح العالم هو غارث يحدب عليه حدب الوالد على ولده، ويحاول ما استطاع أن يعزّز
ثقافته في شؤون الشرق الأوسط ودراسة آثاره والتعمق في دراسة تقاليد شعوبه.
وقد بلغ اهتمامه بالحصون والقلاع القديمة المنتشرة في إنجلترا وفرنسا حدًا كب يرًا دفعه للسفر إلى سورية
وفلسطين سعيًا لدراسة القلاع الصليبية هناك والاطلاع عليها عن كثب . وبالفعل فقد توجه إلى الشرق الأوسط
في صيف عام ١٩٠٩ غير متزود إ ّ لا بالعلم والمعرفة والجرأة ونكران الذات والإرادة الصلبة التي لا تلين حتى
بوجه الكوارث الطبيعية وأقسى الأحوال الجوية، وحب المغامرة والمخاطرة.
وما أن وطأت قدماه أرض الشرق حتى راح يطوح في مناطقه سيرًا على الأقدام . فكان إذا جن الليل لا يتردد
عن طرق أبواب بيوت البدو ليقضي ليله بينهم.
والمدهش في لورانس أنه كان لا يتوقف ولا يكف البتة عن السفر والتنقل حتى في أشد حالات الإرهاق أو
تعرضه للمرض.
وطبيعي أنه وجد في سحر الشرق وروعته، ولطف شعبه وكرمه، وشهامته، وحسن ضيافته، ما كان ينسيه
مرضه ويخفف عن نفسه شدّة النوبات التي كانت تنتابه أثناء جولاته وتنقلاته.
وثمة سبب آخر دفع لورانس للشخوص إلى بلاد الشرق . وهو أنه كان يستعد لتقديم أطروحته الجامعية، فجاء
يستوحي موضوعها من سحر الشرق وروعة القلاع الأثرية القائمة فيه.
والحقيقة أنه وضع تلك الأطروحة ونال بها درجة بكالوريوس في العلوم . ثم نشرها تحت عنوان "القلاع
الصليبية". وقد ضمنها العديد من الصور والرسوم والخرائط التي التقطها ووضعها بنفسه.
٤٤
وعلى أثر ذلك، وبإيعاز من الدكتور هو غارث وتوصياته بلورانس وهب منحة دراسية ليتسنى له أن يتابع
دراساته وأبحاثه الأثرية.
وعلى الرغم من إلمام لورانس باللغة العربية، فقد التحق بمدرسة تابعة للإرسالية الأميركية في مدينة جبيل
اللبنانية، حيث انضم إليه الدكتور فيما بعد.
وبعد مدة غادرا تلك المدرسة وسافرا من لبنان إلى إحدى المناطق السورية للقيام بأعمال التنقيب عن الآثار
فيها.
وفي شهر آذار من عام ١٩١٣ ، وصلا إلى مدينة جرابلس "كركميش" فبقي لورانس هناك مدة ثلاث سنوات
يقوم بأعمال التنقيب والبحث وجمع الأواني ا لخزفية وتصنيفها حسب عهودها. والجدير بالملاحظة أن لورانس
أبى إ ّ لا أن يعيش بين العمال والأكراد الذين كانوا يساعدونه في أعمال الحفر، فتعّلم منهم لغاتهم ولهجاتهم
المختلفة إلى حدّ الإتقان، وتعمّق في دراسة تاريخ أسرهم وطبائعهم.
وفض ً لا عن ذلك، كان ينظر في مشاكلهم وخلافاتهم ويعمل على حّلها بمنتهى التجرد والإنصاف والإخلاص.
وحدث أن بلغ القيظ أشده في عام ١٩١٩ ، فتضايق لورانس لشدة ما كان يسببه له من الإرهاق . فأوقف
عمليات الحفر والتنقيب عن الآثار، وقفل عائدًا إلى سورية مشيًا على الأقدام . ولم يكن نصيبه من رحلته هذه
سوى المشقة والإرهاق والمرض.
ومن سورية سافر إلى بريطانيا فأمضى فيها فترة نقاهة استعاد فيها نشاطه وعافيته . ثم غادرها عائدًا إلى
كركميش حيث تابع أعمال التنقيب.
وقد كان للتجارب التي مر بها لورانس واختبرها في سورية أثرها العميق في نفسه . وكان إلى جانب هذا كله
يكره الأتراك كرهًا شديدًا كما لو أن هذا الكره كان متأص ً لا في ذاته . وأشد ما كان يحز في نفسه رؤية الأتراك
يتحكمون بمصير الشعب العربي العظيم في سورية.
ومن هنا آلي على نفسه أن يشترك في النضال مع الشعب السوري بغية طرد الأتراك من سورية وتخليصه
من طغيانهم وإرهابهم و تسلطهم حتى تعود إليه حريته، وتتاح له الفرصة كي يعمل من أجل بلاده وازدهارها،
فتعود إلى تبوء المركز الذي يليق بها، وتستعيد سابق عهدها، دولة عربية حرة أصيلة.
في هذه الأثناء، كانت دول أوروبا الوسطى منهمكة في استعدادها لخوض غمار حرب بدت وشيكة الوقوع بعد
التوتر الذي ساد العالم . ومن الجهة الأخرى، كان اللورد كيتشنر في مصر بصفته المقيم البريطاني هناك يحصن
مداخل قناة السويس لأنه كان يتوقع أن تنضم ألمانيا إلى تركيا في أية حرب قد تقع.
والسويس، كما هو معلوم، كانت بمثابة العمود الفقري للمواصلات البريطانية . أما صحراء سي ناء، فكانت
الحصن الطبيعي الذي يحمي مصر من الخلف.
وكانت سيناء في تلك الأيام خاضعة لحكم الأتراك، وليس لدى الإنجليز غير خرائط تدل عليها . وإذ ذاك ش ّ كل
الإنجليز فرقة من السادة : وولي ولورانس والقائد نيوكومب عهدوا إليهم مهمة القيام بوضع خرائط على شبه
جزيرة سيناء بعد أن يتوغلوا متخفين . وبالفعل، قام أُولئك بالمهمة على خير وجه، ووضعوا تقريرًا عن حملتهم
بعنوان "صحاري زن".
٥٥
ثم نقحوه ووسعوه في اوكسفورد، ونشروه بكتاب يحمل نفس الاسم . وكانوا ما يزالون منهمكين في وضع
خرائط هذا الكتاب عندما اندلعت نار الحرب العالمية الأولى.
وانصرف لورانس في السنة التالية، إلى كتابة دليل عن منطقة سيناء بأسرها كي تستعمله الجيوش أثناء
تنقلاتها وتحركاتها في المنطقة.
وفي أواخر العام نقل لورانس ونيوكومب وولي إلى مكتب الاستعلامات البريطاني في القاهرة.
هناك كان لورانس يتولى رسم الخرائط فض ً لا عن ا ستجواب أسرى الأتراك توص ً لا إلى معرفة أماكن قواتهم
وعددها.
والمعلوم أن الإمبراطورية العثمانية كانت يومئذ تسيطر على شبه الجزيرة العربية وغيرها من الدول العربية
التي غدت الآن مستقلة وهي : العراق، سورية، لبنان، المملكة الأردنية الهاشمية، المملكة العربية السعود ية،
اليمن، بالإضافة إلى فلسطين.
وفي ذلك الحين، كانت المنظمات العربية السرية الموجودة في العراق وسورية متحدة دومًا للعمل ضد
الأتراك، ومتأهبة لشن ثورة عارمة حالما يتراءى لها أن الفرصة مؤاتية لذلك.
وكان الشريف حسين وأولاده الأربعة : علي وعبد الله وفيصل وزيد، بين أُولئك القادة العرب الذين كانت
قلوبهم تخفق بحمى النضال والحماسة والاندفاع في سبيل القضية العربية ونصرتها.
وكان الشريف حسين الذي ينتسب إلى سلالة النبي محمد (صلعم)، رئيسًا على بني هاشم.
وهي عشيرة دعيت باسم رائدها الأول هاشم الذي كان زعيمًا عظيمًا في ا لقرن السابع . وكان أيضًا الجد
الأكبر للنبي محمد (صلعم).
فمنذ أيام النبي محمد (صلعم) كان يجري تعيين أمير مكة من إحدى الأسر التي تنتسب إلى النبي (صلعم )
بصلة القربى والدم.
وقد ظل هذا التقليد شائعًا ومعمو ً لا به حتى في الفترة التي حكم فيه الأتراك المقدسات الإ سلامية في الحجاز،
مع فارق واحد وهو أن ذلك الأمير كان من وقت إلى آخر يتلقى أوامره من الحاكمين في استنابول.
وفي الفترة القصيرة التي سبقت اندلاع ثورة عام ١٩١٩ ، تلك الثورة التي قام بها زعماء منظمة تركية كانت
تطلق على نفسها اسم "جمعية الإصلاح والترقي "، ونجح القائمون بها في خلع السلطان عبد الحميد عن عرشه،
قام الأتراك بنقل عدد من أفراد أشراف الهاشميين من الحجاز إلى استنابول.
وطبيعي أن يكون الشريف حسين وأولاده الأربعة من بين الذين نقلوا . غير ن ذلك الانتقال كانت له بعض
الحسنات بالنسبة إلى الشريف حسين وأولاده، إذ أ نه أتاح لهم أن ينهلوا المعارف من كليات استانبول ومعاهدها
العلمية، فتعززت ثقافتهم وتوسعت آفاق معارفهم ومعلوماتهم الأمر الذي مكنهم في المستقبل من أن يقودوا
الجيوش العربية ضد الأتراك ويحققوا أعظم الانتصارات.
وفي عام ١٩١٤ ، أي عندما اندلعت الحرب العالمية الأول ى، حاول الأتراك أن يستميلوا العرب إلى جانبهم
لمعاونتهم في شن حرب مقدسة ضد البريطانيين والفرنسيين بغية طردهم نهائيًا من كافة الأراضي الإسلامية.
٦٦
إ ّ لا أن الشريف حسين رأى ألا يورط نفسه في مثل هذه المغامرة التي كانت فوائدها ستعود ولا ريب على
الأتراك وحدهم.
ولذا فقد أبدى معارضته للفكرة، وخاصة بعد أن أدرك أن هدف الأتراك من وراء ذلك لا يرمي إلى تطهير
الأراضي الإسلامية المقدسة من الأجانب، وإنما لتعزيز نفوذ الأتراك في المواقع التي كانوا يسيطرون عليها.
ومن الأسباب الأخرى التي دفعت الشريف حسين إلى معارضة الفكرة وخوض غمار مثل تلك الحرب، أنه
كان يستعد للقيام بثورة شاملة ضد الأتراك، بالتعاون مع المجاهدين العرب في الولايات المتحدة الأخرى حالما
تسنح لهم الظروف.
وعليه فلم يجد الشريف حسين إ ّ لا أن يخفي مظاهر الاستعداد للثورة التي كان يزمع القيام بها ضد الأتراك
بإظهار الولاء لهم عندما فاتحوه بموضوع إعلان الحرب المقدسة ضد الأجانب.
والدليل على ذلك أن الشريف يوم أوفد ابنه الأمير فيصل للتفاوض مع الأتراك في كيفية خوض مثل تلك
الحرب، كان قد شدد عليه بضرورة الاتصال سرًا بالزعماء العرب في سورية بغية الاتفاق معهم بخصوص
الثورة العربية المتوقعة والوقوف على مدى الاستعدادات والمساعدات التي يمكنهم تقديمها لتحقيق مثل تلك
الثورة.
وفي نفس الوقت أوفد ابنه الأمير علي إلى المدينة المنورة للقيام بمساع سرية لدى شيوخ القبائل هناك بغية
تشكيل جيش عربي قوامه الفلاحون ورجال القبائل في الحجاز.
كذلك أوف د ابنه الأمير عبد الله إلى القاهرة بغية الاتصال بالإنجليز للحصول منهم على ضمانات وتأكيدات
بمساعدة الثورة في حالة إعلانها.
ويومئذ، كانت القيادة البريطانية ترى أن وجهة الحرب تسير في اتجاه معاكس لمصالحها وأمانيها، وذلك على
الرغم من أن جميع الدلائل كانت تبشر بإمكانية نجاح الثورة العربية.
وعلى ذلك فقد أبدى الإنجليز تحّفظهم بالنسبة إلى المساعدات التي تطلب منهم تقديمها لمساندة الثورة العربية.
وفي تلك الأثناء، كانت القوات البريطانية مثخنة بالجراح إثر اندحارها في معركتي الدردنيل وكوت العمارة .
كذلك كانت القبائل ال سنوسية في صحراء ليبيا تهدد من الخلف مواقع القوات البريطانية الموجودة في مصر ومع
ذلك، لم يكف الشريف حسين عن متابعة استعداداته ووضع خططه لإعلان ثورته ضد الأتراك.
أما الأمير فيصل فيوجد نفسه في دمشق في مركز حرج للغاية . فقد بث الأتراك العيون حلوله، وراحوا
يحصون عليه حركاته وسكناته.
وأشدّ ما كان يحز في نفسه رؤية الطاغية جمال باشا يلجأ إلى التنكيل بالمجاهدين العرب هناك ويعذبهم أشد
العذاب، ظنًا منه أن ذلك يكفي لتجريد سورية من قدرتها على الثورة.
وأدهى من كل ذلك، أن فيصل وجد أن الفلاحين الذين يعتبرون عصب الثورة وع مودها الفقري، ينخرطون
في صفوف الجيش التركي بسبب كساد المواسم الزراعية وتفشي المجاعة في صفوفهم.
وبناء عليه بعث فيصل إلى والده الشريف حسين برسالة نصحه فيها أن يتريث في إعلان الثورة ريثما تميل
كّفة الحرب إلى صالح الإنجليز.
٧٧
هذا ما ذكره الكاتب انتوني نانتنغ ع ن حياة لورانس ونشأته. وهانحن الآن نسرد عليكم بعضًا مما دونه المؤلف
لويل توماس في هذا الصدد.
يقول توماس في كتابه أن لورانس ولد في مقاطعة غالدواي الواقعة على الشاطئ الغربي من ايرلندا.
كان لورانس يتحلى بقوة جسدية خارقة، شأنه في ذلك شأن جميع أهال مقاطعة غالد واي المشهورين بقوة
بأسهم واحتمالهم للمشقات إلى حد يفوق مقدرة الشعوب الأخرى.
وكان يجري في شرايينه دم هو مزيج من الدم الايرلندي والاسكتلندي والإنجليزي والأسباني وغيره.
كذلك كان لورانس ينتسب بصلة القربى إلى السير روبرت لورانس الذي كان قد رافق الملك ريشارد ق لب
الأسد إلى الأراضي المقدسة قبل سبعمائة وثلاثين سنة، والذي كان قد حقق لنفسه شهرة واسعة أثناء اشتراكه
في الحصار الذي ضربه الملك قلب الأسد على مدينة عكا، تمامًا كما حدث للورانس إذ رافق اللورد اللنبي إلى
الأراضي المقدسة وحقق لنفسه الشهرة والسمعة البعيدة المدى إذ ساهم مساهمة فعّالة في تخليصها من الأتراك.
وكان من سلالته أيضًا الأخوان السير هنري والسيرجون لورانس اللذان يعتبران من الرّوّاد الذين شيّدوا
صرح الإمبراطورية في الهند.
وكان والده، وهو السير توماس لورانس، أحد الملاكين الكبار في ايرلندا فض ً لا عن كونه رياضيًا بارزًا.
ولكن حدث أن خسر جميع أملاكه إبان الفترة التي كان غلادستون خلالها رئيسًا للوزارة البريطانية، فنقل
أسرته من ايرلندا إلى مقاطعة ويلز.
لقد صرف لورانس السنوات الخمس الأولى من عمره في جزيرة شانيل . وما إن بلغ العاشرة من عمره حتى
عاد والده وهاجر من تلك الجزيرة إلى شمالي اسكوتلندا حيث بقي وأُسرته هناك مدة ثلاث سنوات.
ثم انتقل إلى فرنسا حيث أُلحق لورانس بإحدى المدارس التابعة للآباء اليسوعيين.
وأخيرًا عاد الأب وانتقل وأسرته من فرنسا إلى مقاطعة اوكسفورد في بريطانيا.
وطبيعي أن يترك الجو الثقافي الرفيع في اوكسفورد أثره في نفسية لورانس، وعلى مستقبله.
فقد وصفه أحد أصدقائه في المدرسة الثانوية باكسفورد بقوله : كان لورانس رغم تحول جسمه وضعف بنيته
يتحلى بإرادة جبارة وميل كبير إلى المغامرات.
كذلك كان لورانس في حداثته محبًا لتسلق الأشجار والمرتفعات وأسطحة الأ بنية، كما لم يجرؤ على ذلك أحد
سواه.
ومما يؤسف له انه كسرت إحدى ساقيه عندما كان يقوم بمحاولة لتسلق سطح إحدى الأبنية . ويعزو أقاربه
قصر قامته إلى هذا الحادث فيقولون إنه قد أّثر على نمو جسمه فيما بعد.
والغريب أن جسمه لم يكتسب نموه الكافي منذ ذلك الحين، الأمر الذي يعزز حقيقة قول أقاربه في هذا الصدد.
ومما يذكر أن لورانس كان يسلك في حياته السبل التي هي أقرب إلى الحياة في الصحاري منها إلى حياة
المدن.
٨٨
كان غريب الأطوار في سلوكه، حاد الذكاء، ثاقب البصيرة، قوي الإرادة، صلب العود، عميق التفكير وقد
اكتشفت بأنه أنهى ا ستعداده لشهادة بكالوريوس علوم قبل الفترة المطلوبة منه بسنة واحدة وبدون أن يحضر
محاضرة واحدة من المحاضرات الخاصة بها.
فكان في بعض الأحيان يشترك في النقاش مع الأساتذة، بينما كان يقضي معظم أوقاته في التنقل والسفر مشيًا
على الأقدام، أو كان يغرق نفسه بمطالعة آ داب القرون الوسطى . وحتى يضمن لنفسه الوحدة، كان ينام سحابة
النهار ويستيقظ آناء الليل.
ومن المؤلفات الأخرى التي شغف لورانس حبًا بمطالعتها والتعمق في دراستها واستيعابها، كتب الدراسات
العسكرية ووقائع الحروب.
فطالع في هذا الموضوع كتبًا تروي وقائع سنحاريب وحرو ب نحو تمس ورمسيس ونابليون وولنجتون
وجاكسون وفون مولتكي. ومن الكتب المفضّلة لديه كتابه "مبادئ الحرب" بقلم المارشال فوش.
إ ّ لا أنه أخبرني عندما كنت أُرافقه في الشرق أن كتاب يوليوس قيصر والمؤرخ اليوناني كسينفون كانا أكثر
أهمية بالنسبة إلى حملته في الصحراء من أي كتاب آخر.
وذلك لأنه كان يتحتم عليه أن يطبق في حملاته وهجوماته التي قام بها في الصحراء ضد الأتراك مثل ذلك
التكتيك الذي كان مناقضًا تمامًا لما ضمّنه المارشال فوش مؤلفه عن مبادئ الحرب.
هذا، وقد اختار لورانس موضوع الهندسة المعمارية العسكرية التي شيد الصلي بيون قلاعهم بموجبها موضوعًا
لأطروحته الجامعية.
وعليه، فاه ألحّ على ذويه أن يسمحوا له بالذهاب إلى الشرق الأوسط بغية الحصول على معلوماته من
مصادرها الأساسية، وليدرس عن كثب الجهود الهندسية التي بذلها الصليبيون في إشادة قلاعهم وحصونهم.
وحدث أن شجعه على ذلك أ ستاذ مشهور في جامعة أوكسفورد هو الدكتور دافيد جورج هو غارث . وقد كان
لهذا الأستاذ تأثير كبير على مجرى حياة لورانس. ويذكر أنه أي الدكتور هو غارث دفعه إعجابه
بلورانس إلى أن يذهب إلى مصر أبان الحرب العالمية الأولى ليقوم بصفة مستشار خاص له أثناء حملاته
البارعة ضد الأتراك.
وتردّدت والدته في السماح له بالسفر إلى الشرق، ولكنها ما لبثت أن سمحت له بالسفر إلى سورية وزودته
بمبلغ مائتي جنيه لتغطية نفقات سفره وإيابه ومصروفه.
أما أن والديه قد سمحا له بالسفر إلى سورية فلأنهما كان واثقين من أن لورانس سيعود إلى بلاده و يستقر فيها
نهائيًا بعد أن يختبر قسوة الحياة في الشرق وخشونتها، وحرارة الطقس.
ولا مندوحة عن القول إن لورانس شعر بالقرف من الراحة التي يستظل بها المسافرون فور أن وطأت قدماه
ارض بيروت.
فتوجه لتوه منها إلى دمشق مشيًا على الأقدام . وأغرب ما في ذلك أنه كان يسير حافي القدمين في الطريق
دون أن تراوده أية فكرة في ركوب العربة إلى هناك.
٩٩
وفي سورية راح يطوف في الصحراء بنفسه، ويدرس بدهشة ولهفة عادات وتقاليد الجماعات القاطنة في
الممرّ القديم الواقع بين بلاد ما بين النهرين ووادي النيل.
ولما عاد إلى اوكسفورد لتقديم أطروحت ه، بعد مرور حوالي عامين، كان لديه مائة جنيه استطاع أن يوّفرها
من المبلغ الذي زودته به والدته.
وقبل عدة سنوات من اندلاع نار الحرب العالمية الأولى، نظمت جامعة اوكسفورد بعثة برئاسة صديق
لورانس الأستاذ هو غارث، عالم الآثار المشهور، أوفدتها إلى الشرق للقيام بأ عمال البحث والتنقيب عن الآثار
في وادي الفرات، وذلك سعيًا منها لكشف النقاب عما تبّقى من آثار الحثيين هناك.
وقد عيّن لورانس في هذه البعثة رئيسًا على فرق العمل التي كانت تتألف من الأكراد والتركمان والأرمن
والعرب.
والجدير بالملاحظة أن النجاح كان حليف البعثة إذ عثرت على بقايا مدينة كركميش التي كانت قديمًا عاصمة
الإمبراطورية الحثية.
ويمكن القول بأن لورانس ورفيقه الدكتور وولي توصلا بالفعل إلى إزاحة النقاب عن آثار أثبتت أنها كانت
الحلقة المفقودة في سلسلة الحقائق التي تربط ما بين الحضارات التي ازدهرت في نينوى وبا بل، وبداية
الحضارة اليونانية في جزر البحر المتوسط.
تلك الآثار التي يعود عهدها إلى خمسة آلاف سنة مضت . هذا ويضم متحف اشمولين في اوكسفورد الكثير من
الآثار التي وهبها لورانس له لعرضها فيه قبل أن يبلغ العشرين من عمره.
وعندما اجتمع ممثل بريطانيا وألمانيا وفرنس ا وروسيا وتركيا في عام ١٩١٢ واتفقوا على إعطاء الألمان حق
الإشراف على ميناء الإسكندريون، ذلك الميناء الاستراتيجي المهم، وسمحوا لهم أيضًا أي للألمان بمتابعة
بناء الخط الحديدي الذي كان سيربط بين بغداد وبرلين، اشتم لورانس من ذلك تهديدًا جريئًا يوجهه الألم ان
لسلطة الإنجليز ونفوذهم في آسيا.
وما أن سمع عن ذلك الاتفاق حتى أسرع في الذهاب إلى القاهرة وطلب على الفور مقابلة اللورد كيتشر.
وأثناء المقابلة سأله لورانس عن الأسباب التي دفعت الإنجليز إلى السماح للألمان بالإشراف على ميناء
الإسكندريون، وهو الميناء "إن الذي يسيطر على مرفأ الإسكندريون يستطيع في يوم من الأيام أن يقرر مجرى
السلام في العالم".
فرد عليه كيتشنر قائلا: "لقد حذرت الحاكمين في لندن المرة تلو المرة دون جدوى . وأغلب الظن أن حربًا
ستقع بعد سنتين من الآن. وما حيلتنا أيها الشاب المتحمس طالما ليس هناك من يصغي إلينا؟"
ويروي لنا لورانس قصة طريفة مثل حوادثها بنفسه أثناء مغادرته القاهرة وعودته إلى مركزه في سورية
لمتابعة أعمال التنقيب هناك، فقد قال انه لم يطق رؤية الألمان يشرفون على أعمال بناء الخط الحديدي الذي
كان من شأنه أن يهدد نفوذ الإنجليز في منطقة الشرق الأوسط دون أن يدبر ضدهم مقلبًا يقلقهم ولو لفترة
قصيرة، فينتقم منهم لنفسه التي استبد بها اليأس من الخطوة التي أقدمت عليها حكومته في لندن، وكانت مخالفة
لتيار تفكيره، ومناقضة لأحكام التاريخ كما خبرها وسبر غور معارفها.
١١٠٠
يذكر لنا لورانس أنه عاد إلى مقر عمله وأ مر بعضًا من عماله بنقل بعض الأنابيب الضخمة على ظهور
البغال والجمال من مكان التنقيب إلى التلال الرملية القريبة من منشآت الألمان، تلك التلال التي كانت تطل على
المنشآت كأحد المراكز الاستراتيجية والمهمة التي أرادت الطبيعة أن تتوج بها قلب الصحراء المنبسط.
وما إن وصلت الأنابيب إلى هناك حتى بادر لورانس إلى تركيز فوهاتها صوب منشآت الألمان ليدخل في
روعهم أن هناك من يقوم بتحصين التلال لتهديد أعمالهم فيها.
وبالفعل، فقد تصور الألمان أن الإنجليز كانوا يحصنون التلال بتركيب مدافعهم فوقها، واستولى عليهم الذعر،
وعلت الجلب ة بين صفوفهم، فأوقفوا سير الأعمال، ثم أبرقوا إلى استانبول وبرلين قائلين للحاكمين فيها أن
الإنجليز يقومون بتحصين التلال المطلوبة على منشآت الخط الحديدي.
أجل، لقد حدث كل ذلك بمعرفة لورانس ورفيقه وولي . وبينما دب الذعر في صفوف المهندس الألمان، غمر
الفرح قلب لورانس وطفق هو ورفيقه الدكتور وولي والعمال العرب يضحكون ويسخرون منهم.
وقد روى لنا لورانس أيضًا حكاية طريفة من نوعها، ولكنها تدل على مدى حنكته وكياسته في التغلب على
الأزمات إذا ما اشتدت وتعّقدت.
فهو يحدثنا أن الألمان كانوا سيستخدمون في أعمال الخط الحديدي ذاك عددًا كبيرًا من الشبان المحليين . غير
أنهم لم يكترثوا بمعرفة أسماء أولئك العمال بل اكتفوا بدمغ أرقام على سترهم من الخلف للتمييز بينهم وبين أي
غريب قد يندس بينهم لسبب من الأسباب.
وكانوا أي الألمان بدافع تحمسهم لإنهاء العمل بأقصى سرعة ممكنة لا يهمهم من أمر العمال أو
مشاكلهم المحلية شئ.
من هنا بدأت المشاكل تبرز في وجههم، إذ وجد بعض العمال الفرصة سانحة للثأر من بعضهم البعض، بد ً لا
من الانهماك في حفر الخنادق وغيرها من مستلزمات العمل.
وتوالت أعمال الثأر إلى درجة أن الألمان لم يعرفوا كيف يضعون حدًا لها.
وأدهى من ذلك أن الألمان وجدوا أنفسهم بعد فترة قصيرة، هدفًا لهجوم من العمال الأكراد للفتك بهم . وكم كان
حظ الألمان وافرًا إذ هرع لورانس وزميله وولي إلى نجتهم في الوقت المناسب فاستطاعا أن يحولا دون حدوث
مذبحة رهيبة كانت على وشك أن تقع بين لحظة وأخرى.
ونتيجة لأعمالهما البطولية فقد انعم عليهما السلطان بوسام المجيدية الرفيع . وقد حدث ذلك في أوائل عام
١٩١٤ ، أي قبل اندلاع نار الحرب العالمية الأولى وبروز شخصية لورانس فيها.
ولا بد أخيرًا من الإشارة، في ختام هذه الكلمة، إلى قصة حقيقية ضمنها الدكتور وولي كتابه، عن لور انس.
يروي لنا الدكتور وولي أن خادمهما أحمد عاد ذات مرة إلى المنزل مغمومًا.
وسأله لورانس عن سر بكائه فأخبره بأن أحد المهندسين الألمان أمسك به ثم أمر أحد رجاله بجلده جلدًا
مبرحًا.
وذكر أحمد بأنه عندما أمسك به ذلك المهندس الألماني كان يتحدث إلى أحد العمال و يطلب منه أن يرد إليه
مبلغًا من المال استدانه منه قبل مدة طويلة.
١١١١
وإذا بالمهندس الألماني ينتهره دون أن يسأله عن سر تحدثه مع ذلك الرجل، وأمر أحد رجاله بجلده.
وما إن انتهى أحمد من سرد حكايته حتى نهض لورانس عن مقعده وتوجه لتوه إلى مركز ذلك المهندس وقد
صمم على ألا يعود إ ّ لا وقد أرغم ذلك الألماني على القدوم إلى القرية والاعتذار لأحمد أمام الناس.
أما إذا رفض فقد صمم لورانس على أن يثأر لأحمد من ذلك المهندس بإحضاره إلى القرية وجلده أمام جميع
سكان القرية.
وصل لورانس إلى منشآت الألمان وتوجه على الفور إلى مكتب رئيس بالمهندسين، فقص على مسامعه ما
حدث لأحمد على يد أحد مهندسيه وطلب منه إما أن يأمر هذا المهندس بتقديم الاعتذار علنًا أمام سكان القرية
وإ ّ لا فسيرى نفسه مضطرًا لسوقه إلى القرية وجلده هناك.
وحاول رئيس المهندسين أن يدخل في روع لورانس أن مهندسه لم يوجه أية إساءة لأحمد، كل ما في الأمر
أنه جلده.
وهنا اغتاظ لورانس وقال بحدة:
وماذا تسمي ذلك إذا كنت لا تعتبر عملية الجلد إهانة؟
لا شئ ! فنحن نض ّ طر في معظم الأحيان أن نجلد السكان المحليين لردعهم عن القيام بأعمال تخلّ بأنظمتنا
العملية وأوامرنا… وليس هناك من سبيل إلى ذلك سوى هذا الأسلوب.
وضحك لورانس ساخرًا، ثم ردّ عليه بتهكم ظاهر يقول:
يبدو أنك تجهل كيف يجب أن تعامل سكان البلاد الأصليين . لقد مضى على وجودنا هنا فترة أطول بكثير
من الفترة التي قضيتموها أنتم…. ومع ذلك لم نجلد أحدًا، وليس في نيتنا أن نحكم على أحد بالجلد في المستقبل.
وخلاصة القول أنه ينبغي على مهندسكم الذهاب إلى القرية والاعتذار لأحمد هناك أمام جميع سكان القرية…
هنا ضحك رئيس المهندسين وقال له:
هكذا؟…
أعتقد بأن القضية انتهت عند هذا الحدّ.
وردّ لورانس عليه: هكذا! ثم أشاح بوجهه وهو يقول:
بل العكس هو الصحيح… فإذا لم تفعل كما قلت فسأتولى معالجة القضية بنفسي.
وتطلع إليه رئيس المهندسين وقال بجدية:
ماذا تعني؟
سترى! إنني سأنقل المهندس إلى القرية رغمًا عنه وأجلده هناك.
عندئذ صرخ رئيس المهندسين الألماني بغيظ وقال:
لن يكون بوسعك أن تفعل ذلك.
فردّ لورانس يقول:
سترى بأُم عينيك! سترى ما إذا كنت أجرؤ على القيام بمثل هذا العمل أم لا.
١١٢٢
وهنا أدرك رئيس المهندسين أن لورانس كان يعني ما يقول، وانه مصمم على تنفيذ تهديده . فما كان منه إ ّ لا
أنه طلب من مهندسه أن يذهب مع لورانس إلى القرية ويقدم اعتذاره لأحمد هناك بصورة علنية.