"ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله"
كنا نستغرب أحياناً عندما كنا نرى بعض التصرفات من بعض الأشخاص الذين يقدمون إلى هذه البلاد. بلاد يتحكم فيها القانون والإنضباط الإداري واللوائح. كنا نسمع عن شخصيات مهمة على مستوى الشقاوة والقوة ، كضباط ونواب ضباط أو جنود أو مجرد أدعياء قوة، تنكس هامة أكبر شارب في منطقتها أو محل عملها في العراق، وأضرب اسماء بعضها من وحي الخيال لكنها تعطي إنطباعاً عن هذه الشخصيات مثل شقي الكسرة، أو شيطان المحلة أو صليلكع ابو الطشار أو عنتر أبو العناتر وغيرهم. يأتي أحدهم إلى هذه البلاد وهو يحمل هذه الذهنية، ذهنية أن السبع يأخذ الحق "بذراعه"، وأن غلظة الذراع تعني في أغلب الأحيان الإنتصار والغلبة. وأن أثر ضربة سكين على العنق أو وشم على شكل ثعبان ملتف يعني أن هذا الرجل لا يمكن أي إنسان أن يتغلب عليه مهما كانت الظروف والأجواء.
لقد لقن الكثيرون من العراقيين هذه الذهنية، ذهنية القوة، من يستقوي يغلب، ومن يضرب ينجح، ومن يصيح يخيف، ومن يقتل ينتصر ومن يغتصب يفوز. وأصبحت عبارة "فاز بالملذات من كان جريئاً" وعبارة" ما أخذ بالقوة يسترد بالقوة" وأمثال تحث على منطق القوة، والبطش هي الفكر السائد لأجيال من الشباب والشياب أيضاً.
أتذكر جيداً أحد هؤلاء الذي كان يفخر أنه ينزل أكبر شارب أمامه، لأنه قوي الشكيمة لا تهمه أكبر رأس. كان يحمل هذه العقلية، ويعتبرها هي الطريقة المثلى لحل المشاكل. ذهب لأول مرة لمقابلة الموظف المسؤول المتابع لحالته. صاح وعربد وتناطح مطالباً بقصر وسيارة وطبابة وإمرأة سويدية جميلة مع راتب مجز. قال للموظف أنه يطالب بحقوقه كإنسان، وهو لم يأت لاجئاً إلى السويد بسبب العوز والفقر، فهو ينزل أكبر شارب بسبب قوته وقوة عشيرته، لكنه مل من الحياة هناك. إستمر السويدي يستمع إليه بهدوئه المعتاد عن طريق المترجم. ولأن صاحبنا لم يتعود على هذا النوع من البرود في ردة الفعل واعتبره لا مبالاة وتبلد شعور عند السويدي أضحى يلح على المترجم أن يشرح للموظف السويدي جدية ما يقوله وبشكل اكثر حدية، مع عبارت إستهزاء لم تستطع إخفاءها تقاسيم وجهه وحركات يديه. إنتهت الساعة ورد عليه الموظف بهدوء كامل سنرى ما ينبغي علينا فعله مع إبتسامة لطيفة متمنياً له طيب الإقامة في هذا البلد الوديع والبارد والمظلم شتاءً.
تسلم صاحبنا شقته مع تلفزيون يعمل 24 ساعة، وقبض بعض الدراهم كي يسير أموره خلالها. وبدأت مسيرة صاحبنا الجديدة في بلاد الظلام. وأصبح في كل زيارة لمقابلة هذا الموظف يتضاءل أمامه رويداً رويداً، يتضاءل أمام اللوائح، والقوانين، والمقررات، والشروط، والتوجيه والتسيير. وأصبحت المساعدة لا تسلم له إلا بشروط وبتواقيع وحضور ومقابلة ونقاش ودون ان يشعر دخل الرجل في الزجاجة التي هيئت له بمحض إرادته وبتوقيعه المؤكد وبصمته. ونجح السويدي في أن يجز شارب صاحبنا بهدوئه، وتحول صاحبنا إلى حمل وديع همه أخبار نوال الزغبي وآخر موديلات النوكيا والأركسون، واصبح حلم صاحبنا أن يزور نيويورك كي ينبهر بناطحات سحابها. لقد نجح القانون والهدوء في إعادة صياغة ذهنية صاحبنا. وبغض النظر عن الآثار السلبية أو الإيجابية لهذا التصرف، إلا أنه أعطى تأثيراً في رجل يؤمن بالقوة والبطش كأساس لحل المشاكل. لقد اتضح لي أن هذه النوعية من البشر يجب أن يشعروا أن يداً قوية فوقهم هي التي تتحكم بالمال الذي يعيشون عليه، وهي التي تتحكم بالمكان الذي يسكنون فيه، والعمل بل و حتى في حياتهم الخاصة أيضاً وتستطيع أن تخنقهم بهدوء متى ما ارادت ذلك. هذا الراي لا يعني تبني دولة جورج أورويل في روايته 1984، لكن في حالة وجود مجتمعات تعرضت إلى عملية مسخ لفكرها وعقلها وضميرها وسلوكها ، فإننا بحاجة لإعادة ضبط لإيقاع النفوس المريضة، والظروف الإستثنائية تتطلب علاجاً إستثنائياً. ومتى ما فهمت هذه النفوس أن لا فائدة ترجى من محاولات فرض الشروط عن طريق القوة، وأن لا تنازلات تعطى لها مقابل كل تحرك عدائي، فإننا نقول أننا كسبنا الجولة الأولى في معركة أنسنة المجتمع العراقي .
العبرة من هذه القصة أن القوة والذبح والتفخيخ والإبادة لا تؤتي بالضرورة أكلاً ذات ثمار مفيدة. وأن من يقوم بضبط إيقاع حياته على نشاز القوة والبطش والتنكيل والترويع لن يجني شيئاً سوى الخيبة والذل والهزيمة. العبرة أن القوة الغاشمة إذا ما قوبلت بقوة أعتى منها هي قوة الصبر الإيجابي الشجاع، قوة الواثق من نفسه ومن واقعه، وقوة الرد بالشكل المناسب في الوقت والمكان المناسبين ستحطم هذه الشخوص الضعيفة الذليلة التي تتلبس لباس القوة والإستقواء على الضعفاء والنساء والأطفال.
الذي نراه اليوم أن المكر الشيئ الذي غزلته أنامل الشر في الواقع الطائفي السني بدأ يحيق بأهله، وبدأنا نشهد رغم عدم إظهارهم هذا الأمر أن الإرتداد أضحى اكثر بروزاً ووضوحاً رغم محاولات إخفائه والتورية عليه، لأن هذا الواقع السني المريض بداء السادية بدأ الدخول في مرحلة الياس في ضرب الواقع السياسي الجديد الذي أصبح أكثر ثباتاً من الفترة السابقة، وبالتالي توجه ليضرب الحلقات التي اسسته واحتضتنه وغذته، وهي الحلقات التي تؤمن بهذا العنف مبدأ وقضية وسلوكاً، وستكون هي الحلقة الضعيفة الجديدة التي سيرتد عليها وبقوة.
يبدو أن الطائفية السنية المسعورة التي تحالفت إرهابياً بكافة مكوناتها بدأت اليوم تذوق العلقم الذي زرعته. إذ أن الشيئ المؤكد أن الرعاش عدنان دليمي، بدأ يذوق ما كان يعد به غيره، وأن محسن حميد كركوكي وطارق هاشمي وشلة البعث المتأسلم بدأت تنهشها ضباع مطلك والخلايلة.
الريح السموم السنية التي نفختها قيادات الطائفة السنية في العراق مستهدفة أهلنا، بدأت تهب بقوة في قصبات وقرى من أعدوا لها تلفح وجوههم التي أصابها تيبس الشعور بعد أن أصاب قلوبهم جمود القسوة والحقد الدفين وتحيل كل شيئ تمر عليه إلى رميم. تسألون كيف هذا... نقول إنها سنة كونية أودعها الله في المجتمع...
"ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله"