الشهيد الصدر مؤرخا ً( مقتطف من كتاب محمد باقر الصدر حياة حافة وفكر خلاق )
[align=justify]لم تصرف مشاكل الفقه والأصول الشهيد الصدر عن الخوض في ميادين المعرفة الأخرى فاتسعت اهتمامات الشهيد الصدر لتشمل أكثر حقول العلم والمعارف الإنسانية، ومن ذلك ميدان التأريخ ليسجل روائع أفكاره وآرائه التي توصل إليها.
ولقد كان الشهيد الصدر شغوفاً بالتأريخ منذ صباه فعالج مشكلة تاريخية من أعقد مشكلات التأريخ وهو في السابعة عشر من عمره وقيل في الحادية عشر ولم يهدف يومئذ من تأليفه إلا الاحتفاظ به كمذكرة لحياته الفكرية ومؤرخاً لتلك المرحلة من عمره - كما أوضحه الشهيد في مقدمة كتابه - وقد احتل الصدراة في المكتبة الإسلامية بأسلوبه الموضوعي وحجته البالغة في تحقيق مسألة الخصومة التأريخية بين الخليفة الأول والزهراء (ع) بنت رسول الله (ص) التي لم تعهد المكتبة التأريخية تحقيقاً بمثل هذا التحقيق ومحاكمة بمثل هذه المحاكمة.
وقد كشف الشهيد عن حقائق تأريخية عدة في كتابه (فدك في التاريخ) ، وأماط اللثام عنها بلهجة علمية واسلوب موضوعي فتناول أكثر من محور في كتابه بما له دخل في معالجة أمر الخصومةن فبحث بأروع ما يمكن معالم سياسية الخليفتين الأول والثاني تجاه أهل البيت وأوضح الأسس التي تقوم عليها، واسهب البحث بشكل لم يسبق له مثيل في أمر السقيفة ، وكذلك عالج بحثاً من أهم البحوث التأريخية وهو أمر الفتوحات الإسلامية فألقى عليها الأضواء الكاشفة. وفي كل هذه الابحاث تجرد عن المواقف المسبقة والعواطف الجياشة التي تؤدي بالباحث إلى متاهات مظلمة.
ولم يقتصر الشهيد على بحث الحقائق التأريخية ودراستها بلغة تاريخية صرفة. فهو المؤرخ الواعي الذي لا يسلم بالحقائق التأريخية بعيداً عن القرآن والسنة والعقل والذوق العام، فقد تناول السيد الشهيد الحديث الذي رواه الخليفة الأول في مقام رد دعاة الزهراء (ع) بالبحث والتحقيق، فذكر عدة احتمالات في تفسير الحديث بما يبطل الاستدلال بالحديث الذي رواه الخليفة الأول لحساب دعواه، وبذلك يفقد الخليفة الأول حجته في خصومته مع الزهراء (ع).
وكذلك تناول السيد الشهيد تفسيرات آيات الإرث التي احتجت بها الزهراء في مقام إثبات إرث الأنبياء بشكل يؤيد دعوى الزهراء ويدحض التبريرات والتأويلات التي حاكها بعض المفسرين.
والحقيقة أن كتاب (فدك في التأريخ) بحث تأريخي استعمل فيه الشهيد أدوات المعرفة من تفسير وتحليل للحديث وفقه وفلسفة بما لا يجعله مجرد سرد تأريخي محض[/align]
[align=justify]كيف يتعامل الشهيد مع التأريخ[/align]
[align=justify]لم يكن الشهيد الصدر من هواة التأليف والتصنيف ولذلك لم يترك في أكثر الحقول التي طرق أبوابها سوى مصنف أو أكثر وعدة بحوث متناثرة ومحاضرات في مناسبات مختلفة، ومن ذلك حقل التأريخ الذي ترك فيه الشهيد كتابه ( فدك في التأريخ) وبحوثاً ومحاضرات تأريخية قدر لها أن تكون مصادر للبحث التأريخي.
ومن ذلك كله نكتشف نهجه في قراءة التأريخ، والتعرف على مظاهر هذا التعامل.
يشترط أن يكون المؤرخ موضوعياً يتجرد من عاطفته ولا يقتضي أثرها ويلبي إيعازاتها، لأن الموضوعية إن كانت شرطاً في كل المحاكمات العملية فإنها في المحاكمات التأريخية أوضح. لذلك يقول السيد الشهيد : " إذا كان التجرد عن المرتكزات والأناة في الحكم والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة. وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ومهما يكن موضعها، فهي أهم الشروط الأساسية لإقامة بناء تاريخي محكم لقضايا أسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكاً للتأريخ ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التأريخي والإجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامة أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث وتكون مداراً لبحثه كالحياة الدينية والأخلاقية والسياسية إلى غير ذلك النواحي التي يأتلف منها المجتمع الانساني بشرط أن تستمد هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات وينشئه التعبد والتقليد، لا من خيال مجنح يرتفع بالتوافه والسفاسف إلى الذوررة ويبني عليها ما شاء من تحقيقات ونتائج ، لا من قيود لم يستطع الكاتب أن يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له اساليب البحث العلمي النزيه.
ولكن اماذا كل هذه الشروط وقد انصرم ذلك الزمن ومضى دون رجعة فقد يكون بود بعض الباحثين أن يغفر لأسلافه ذنوبهم وخطاياهم وقد يحلو له أن على يأتي ذكر شيء من سيئاته أو يحاول تبريرها أو تأويلها؟.
يرى السيد الشهيد أن المؤرخ ليس حراً في أن يغفر لأسلافه تحت ضغوط العاطفة والتعبد والتقليد، لأنه إن فعل ذلك فإنه سيزور التاريخ ويشوه صورته.
نعم ! يحق له أن يكتب رواية يتيه فيها في عالم العواطف والخيال اخصب وليكتب ما يشاء ويغفر ما يشاء ويحسن ما يشاء فإن ذلك ملكه.
يقول السيد الشهيد: " فإذا كنت تريد أن تكون حراً في تفكيرك، ومؤرخاً لدنيا الناس لا روائياً يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب فضع عواطفك جانباً أو إذا شئت فأملأ بها شعاب نفسك فهي ملك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فإنه لم يعد ملكك بعد إن اضطلعت بمسؤولية التأريخ وأخذت على نفسك أن تكون أميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج ".[/align]