رؤية نقدية ... ما معنى المادة؟
[align=center]
رؤية نقدية ... ما معنى المادة؟ [/align]
يبدو هذا السؤال في ظاهره سؤالا بسيطا من السهل صياغة إجابة عنه. إذ أول ما يتبادر الى الذهن هو كيف لا نعلم ما المادة التي نحسها بأيدينا وننظر إليها بأعيننا ونطأها بأقدامنا، مع أن العلم اليوم بلغ في تطوره إلى الغوص في أعماق البحار وجاوز نطاق الأرض إلى استكشاف كواكب بعيدة؟ فهل مع هذا يصعب على الكائن الإنساني أن يجيب عن هذا الاستفهام الأولي: ما معنى المادة؟
مع التطور الذي شهدته الفيزياء في بداية القرن العشرين، وخاصة مع بروز نظرية النسبية لأينشتاين ونظرية الكوانتا اتضح أن البساطة الظاهرة للسؤال تكتنز عمقا خطيرا ينم عن أي استدخال وتسطيح لحقيقة المادة في دلالة مقفلة. يقول لوي جونزاليس ميستريس إن سؤال ما معنى المادة؟ لا نعرف علميا إجابته اليوم، ثم يتساءل:”لكن هل نستطيع أن نجيب عن السؤال يوما ما؟” ثم يجيب “لا أحد يعرف”.
لكن ما الذي يجعل السؤال بهذه الصعوبة؟
إنها أولاً طبيعة السؤال ذاته، فهو سؤال ماهوي، سؤال أساسي، والى الآن لم يستطع العلم أن يجيب عن أي سؤال أساسي من الأسئلة الكبرى التي تشغل الوعي الإنساني.
لكن رغم صعوبة السؤال هل من إجابة أولية ننطلق منها؟
إن الإجابة الحذرة التي نستطيع تسجيلها هنا هي أن المادة ما تتكون منها الأشياء. وسؤال تكوين الأشياء هو سؤال تكوين الكون. من هنا لا غرابة أن نجد مختلف الباحثين يشير إلى أن سؤال “ما المادة؟” ارتبط دائما بسؤال تفسير الكون وتحديد أصله؛ لأن السؤال يؤول في النهاية إلى ما هي المادة التي تكوّن منها الكون؟ أي تلك المادة التي لها قابلية التشكل فتتمظهر منها كائنات وأشياء العالم؟
هذه المادة الأولية التي تكوّن منها الكون كانت مطلب الفلسفة في القديم، كما هي مطلب الفيزياء والكيمياء في اللحظة العلمية المعاصرة. وبما أن الأشياء الملحوظة في الكون أشياء مركبة كان لابد من انتهاج منهج التحليل للخلوص إلى المادة الأولية للكون. لكن إذا كانت الفلسفة في القديم قد قالت بالذرة كمكون أولي لا يتجزأ، فإن العلم المعاصر تبين له إمكان تجزئتها، بمعنى أنها هي أيضا مكونة. فالذرة تتكون من جسيمات صغيرة هي البروتونات والنيوترونات والإلكترونات. إذ في سنة 1897 سيكتشف طومسون الإلكترون، وبذلك سيتم تشييد تصور حول عالم الذرة بوصفه كيانا تتمركز في وسطه نواة موجبة تدور من حولها الإلكترونات.
ومن الجدير بالذكر أن الفاصل بين الإلكترون والنواة فاصل فراغي، ومن ثم يجوز لنا أن نقول إن المساحة الكبرى للذرة هي مجرد فراغ. وبالقياس الرياضي يجوز القول إن الفراغ يشكل أزيد من تسعين في المائة من العالم المادي. هذا إذا لم يتوصل العلم يوما ما إلى استكشاف كينونات أخرى تشغل هذا الفراغ.
وفي سنة 1932 سينكشف شيء آخر داخل نواة الذرة ذاتها، حيث سيجد جيمس شادويك أن النواة ذاتها مكونة من جسيمات أخرى، فبالإضافة إلى البروتون هناك جسيمات تقارب البروتون في الكتلة لكنها ليس لها أي شحنة، فتم تسميتها بالنيوترونات.
ثم ازدادت الكشوفات غوصا في بنية الذرة، حيث انكشف سنة 1956 جسم آخر هو النيوترينو. وساد التصور بأن هذه الجسيمات الدقيقة المذهلة في الصغر كالبروتون والنيوترون هي جزيئات غير مكونة، بمعنى أنه لا توجد عناصر تكونها، فهي العناصر البنائية الأولى للذرة ومن ثم للكون. لكن اكتشاف غيل مان سيقلب هذا التصور، حيث اكتشف أن هذه الجسيمات الدقيقة المذهلة في الصغر هي بدورها مكونة مما يصغرها. حيث اكتشف ان البروتون مكون من جسيمات سيسميها بالكوارك.
وهكذا سيتأسس في الفيزياء المعاصرة تصور جديد لمكونات الذرة يقول بوجود ثلاث كواركات تكون البروتون، وثلاث أخرى تكون النيوترون.
لا يستطيع العلم أن يجزم في شأن هذه الجسيمات تحت الذرية.فلا أحد بإمكانه الجزم بكون الكوارك عنصر أولي غير مكون من عناصر أخرى.
كما أن علم الفيزياء ما زال منذ بداية القرن العشرين أمام معضلة معرفية عويصة، وهي الافتقار إلى نظرية كلية قادرة على تفسير عالم الكوانتا، أي العالم الأصغر، وقادرة على تفسير العالم الأكبر، ولذا تقوم الفيزياء باستعمال نظريتين متخالفتين، النظرية الكوانتية لتفسير عالم الذرة، ونظرية نسبية اينشتاين لتفسير العالم الكبير. من هنا فإن سؤال وجود الكون هو عود إلى العالم الأصغر، حيث كان الكون “في حدود مقياس بلانك”، وهنا لابد من الاشتغال بالنظرية الكوانتية لا بالنظرية النسبية. لكن بمجرد امتداد الكون وانفلاته من حدود الحجم الكوانتي يصبح من اللازم الانتقال من قوانين الكوانتا إلى قوانين النسبية.
لكن يظل السؤال قائماً كيف يسلك العالم الكبير وفق قوانين مغايرة للقوانين الناظمة لمكوناته الصغرى؟
هنا استشعر العلماء ضرورة البحث عن نظرية موحدة، وما زال هذا البحث لم يسفر عن إجابة.
لذا ما يمكن قوله هو أن ماهية الكون أمر لا يزال بعيد المنال أمام الرؤية العلمية.
كما لابد من التوكيد ضد الرؤية المادية للكون أن هذه الرؤية غير متماسكة في راهن البحث العلمي، فمع نسبية اينشتاين انقلب التصور الكلاسيكي للمادة، فلم تعد هي تلك الكتلة الثابتة الجامدة، بل أصبحت المادة طاقة، طاقة مكثفة. وهكذا تنحل المادة إلى كينونة روحية منفلتة من التحديد بمقاييس الكثافة. د.الطيب بوعزة
tayebbouazza@yahoo.fr