رحلة في قـرى عراقية لم تدخـل التـاريخ بعد
د. امال كاشف الغطاء
لا أستطيع أن اقول إلا إن آلة الزمن لـ (أج . جي . ويلز) نقلتني عبر الزمن...ليس إلى المستقبل ولكن إلى أغوار الماضي حيث كان يعيش الانسان البدائي ...لقد رأيت البدائية في صورتها الأولى وهي تعيش تناقضات القرن العشرين وبصماته على القرن الواحد والعشرين... أنها قرية (سيد صفر) الواقعة على الحدود العراقية الايرانية في محافظة الكوت، القريبة من مدينة بدرة، وقد أكد من التقيت بهم أنهم ليست القرية الوحيدة فكل قرى الجنوب تتشابه من حيث نمط الحياة والفقر والجهل، والفوارق تنعدم بين هذه القرى، وهي تلتف على عالمها الذاتي مؤكدة قبولها للجديد الذي ترغب فيه دون أن يكون له أثر على نمط حياتها وطبيعة تعاملها مع المجتمع ، انها تعيش حالة فقر أسمية (فقر الحداثة)، فالقرية تملك بعض مقومات القرن العشرين كالستلايت وتفتقد إلى كل مقومات الحياة كالملبس والمسكن والماء والتعليم والصحة والملابس
ويطرح السؤال التالي: ما هو نوع الوعي لدى هؤلاء الذي يجعلهم يقتنون الستلايت وهم محرومون من ابسط مقومات الحياة..؟ربما يكون الجواب فقر الحداثة
العلب الطينية
البيوت مبنية من الطين وهي ليست بيوت بما هومتعارف عليه عالمنا المدني ، فهناك اسس لتشكيل البيت ربما ابرزها ما موجود من مرافق وغرف وفناء داخلي ما شهدناه علبة من طين، لقد قادتني (جميلة) لأرى بيتها وعندما دخلت لم أرى غير التلفزيون والستلايت وبعض الفراش وستائر معلقة فتساءلت: لماذا تضعين الستائر..؟ قالت: ان هناك شباك وعندما رفعت الستارة لم تكن مساحة الشباك تتجاوز قدماً مربعاً واحداً وكان عليّ أن اخرج من هذه العلبة لأسير بضع خطوات إلى الجهة المقابلة في فضاء مكشوف للمطر والحر لأرى المطبخ والحمام، أنها علب مرصوفة إلى بعضها، كان عليّ أن اصعد مرتفعاً عبارة عن كتل حجرية وبدا لي ذلك متعذراً وسألت (جميلة): كيف يمكنك الصعود، قالت: سترين، وصعدت بخفة الغزال... إن هذا عالمها، لقد رأيت المطبخ والحمام لم أجد أي اختلاف لا في البناء ولا المقتنيات… كان هناك تشابه إلى حد بعيد، فالسقوف مصنوعة من الواح من الخشب مغطاة بالنايلون لتقيهم من الشتاء وشمس الصيف الحارقة، الارض عبارة عن اخاديد تسكنها الهوام إلى جانب الانسان، الجدران لا تختلف عن الارض كثيراً من حيث وجود الاخاديد ان ما يميز المطبخ عن الغرفة والحمام هو وجود أواني في المطبخ ، وتلفزيون في غرفة الجلوس ، وأناء بلاستيك يسمى( الطشت ) في الحمام لا يوجد اكثر من ذلك هذا هو بيت جميلة أحدى شخصيات هذه القرية المميزة ثم ذهبت إلى بيت شيخ المنطقة دخلت إلى ساحة دائرية كبيرة جداً مبنية من الطين توجد فيها فتحات مزودة بأبواب من التنك (صفائح علب الزيت) ويشع من هذه الفتحات الظلام فلا يرى الانسان ما هو بداخل هذه الفتحات، وعندما سألت عنها قالوا إنها غرف لأفراد العائلة، ولفت نظري في الساحة الداخلية للمنزل وجود سيارة كبيرة وستلايت وعرفت أنهما وسائط الاتصال مع العالم الخارجي وعندما قمت بالتصوير تساءلوا: على أي قناة سوف تظهر قادتني احد النساء إلى غرفة كان فيها سرير وفراش ودولاب ملابس وكلها من ارخص الاثمان وأسوأ النوعيات ولم يكن في تلك الساحة ولا البيوت ولا القرية إلا مرافق صحية واحدة بعيدة جداً مخصصة لضيوف القرية وعلى الضيوف ان يذهبوا إلى العراء ليقضاء حاجتهم في ظل شجرة قرب المجرى المائي، لقد أعتادوا على ذلك، سألتهم عن الارض فقالوا انها ملك الدولة وقد يهاجرون في الوقت الذي لا يحصلون فيه على غذاء لحيواناتهم... لم يعن وجودي لهم شيئاً في البداية ولم يكن أحد منهم يسعى لعرض مطالبه ولكن اصررت على أن اسمع منهم وأن أوصل صوتهم عبر الأعلام
الطفولة البائسة
لا وجود لمدرسة في هذه القرية وتوجد مدرسة في القرية المجاورة التي تبعد ثلاث كيلومترات وعلى الطفل أن يسير وسط شارع غير معبد تمزق حذاءه المهترىء الاحجار والحصى وان يتحمل الحر والبرد والمطر والغبار ليصل إلى المدرسة ... انها عملية تعذيب منظمة تمارس ضد الطفل وكان الحل الامثل هو ترك المدرسة لهذا بقي الاطفال دون مدارس ان منظر الاطفال يحز في النفس فملابسهم مهلهلة وحين سألتهم من اين تشترون الملابس..؟ قالوا : إنها بالات (ملابس مستعملة) وهذه تشترى من الكوت والجديدة منها من مدينة بدرة، لقد كانت ملابسهم تحمل مالا يستهان به من الاتربة والاوساخ أما شعر الاطفال فهو يبدو كأنه لم يمشط منذ زمن بعيد، إذ انه عبارة عن خصل نافرة إلى الاعلى كأنها حراب وهم حفاة لا يعرفون لبس الحذاء لقد اعتادوا السير على تلك الارض الوعرة سألت الاطفال ماذا يريدون ؟ وكان الجواب غريباً وهو (لا اعرف) ، وأدركت أن هؤلاء الاطفال يفتقدون إلى الحياة التي تتميز بالتنوع والاختلاف، فهم يعيشون عالم التشابه كل شيء يشبه الاخر، البيوت، المقتنيات، الاعمال التي يمارسونها متشابهة، ولكن حسب ما اخبرني احدهم ان لديهم قوة جسمانية بحيث يتمكن الطفل من الذهاب إلى الجاموسة ليمسك الثدي ويرضع منه كما انه قادر على ان يحصل على الحليب من الجاموسة حسب الطرق الاعتيادية الطفل يضرب بأستمرار لسبب تافه فقد ضربت طفلة امامي عدة مرات على ظهرها ولسبب تافه وهو جلوسها الى جانبي اذ اعتبر هذا الامر تحد سافر منها... عللت الامهات الضرب للأطفال بأسباب تافهة منها جحيم الطفولة وشقاوئها... فجمعت الامهات الباقيات وتوسلت اليهن وأخذت عهداً منهن كضيفة لأول مرة أن لا يضربن الاطفال
الفقر امرأة
المرأة تتمتع بالقسط الاوفر من الحقوق وسط عالم لا مقتنيات فيه ، ولا مدنية ، ولا عمران، انها تمارس دور انتاجي وانجابي... المرأة عصب الحياة والرجل هامشي تماماً، يخلد إلى النوم والراحة والجلوس في المضيف وهي المسؤولة عن توفير لقمة العيش حيث تذهب إلى المدينة لتبيع اللبن والقيمر وتشتري بدلا منه ما يقتاتون به، لا استطيع أن اعرف الموازنة بين الحرص على شرف المرأة وعفتها وبين ترك فتيات بعمرالزهور و يسرحن في العراء مع ما قيمته ثمانية ملايين دينار من المواشي ان النساء يعانين من شظف العيش وصعوبة الحياة ، تبدو الواحدة وكأنها تجاوزت عمرها بعشر سنوات وتتزوج عن طريق الخطبة إلى اقاربها ويستطيع ابن عمها أن ينهي عنها ويمنعها من الزواج ... وهناك حرص على عدم تزويج المرأة إلى غريب لأنها أداة إنتاج ... لم ار عانساً بينهم، فالظاهر ان المرأة تفضل الزواج بمعاق أو عاطل على أن تبقى عانساً ولا تلد المرأة في المستشفى وقد يحدث عوق نتيجة الولادة ... (فاطمة) خرساء صماء ولكنها ذكية شديدة الفطنة لها ثلاثة أولاد، واثنتين من البنات، وهي عاملة دؤوب، فهي تعيل زوجها ان سلطة الرجل الذكورية بدت لي محدودة، فالمرأة تضرب الأولاد الكبار لأنهم يذهبون بالحيوانات إلى المرعى ويرفضون ايصالها بالسيارة حيث هو الذي يتولى ذلك ان ما تحرجت بالسؤال عنه الأموال ..! هل هي بيد المرأة أم بيد الرجل ..؟ فهم يذهبون يومياً إلى مدينة بدرة لشراء الغذاء ويملكون ثروة كبيرة من الجاموس ولكن من المسؤول عن ديمومة هذه الثروة ونمائها وجمع المال ..؟، المرأة عنصر إنتاج ولولاها لماتت العوائل جوعاً... ولكن يبقى السؤال قائماً : من الذي يدير الأمور ..؟؟
الوضع الصحي
ربما معظم القرويين يتمتعون ببنية قوية جداً، ولكن لا وجود لأثار الشباب، المرأة بعمر المراهقة وتبدو كأنها بعمر الكهولة نتيجة العمل المرهق والولادات المتكررة والحياة الصعبة ونرى أثر ذلك على الوجوه التي تملؤها التغضنات والتجاعيد، ويبدوا أن الطبيعة أخذت بشكل كبير، فالحياة للأقوى وللأضعف الفناء البنية الضعيفة لا تستطيع أن تقاوم قساوة الحياة، فلا وجود للماء سوى عن طريق التناكر (السيارات الحوضية) الذي وعندما ينفذ يستعملون ماء المجرى لغسل الاواني والملابس وعمل اللبن (الرائب) وحتى للشرب وفي هذه الحالة يتعذر عليهم غسل أجسامهم لقد رأيت مولدات واعتقد ان المولدة للتلفزيون والستلايت اغلب الذين رأيتهم فقدوا الكثير من اسنانهم والظاهر ان الاسنان لا تعالج وانما تصل إلى حد وتقلع، وطبعاً لا وجود لفرشة اسنان ومعجون... ان طعامهم الذي قدم لي عبارة عن خبز ورز ولحم وكان من أردء الانواع وعندما طلبت اللبن والقيمر لم يكن لديهم فالكمية كلها تباع في المدينة والغاز منذ ثلاثة اشهر لم يصلهم فهم يطبخون على الخشب والحطب
قرية التناقضات الثقافية
إن الثقافة بمفهومها الحديث هي مجموع الخصائص من مقتنيات ومعرفة ونظم حياة لذلك المجتمع ، لقد قالوا جميعاً بصوت واحد نريد مدرسة نريد مسجداً انهم محرومون من مصادر المعرفة، لديهم تلفزيون وستلايت وسيارة وكتاب الله الكريم (القرآن) لا يعرفون عنه شيئاً لأنهم لا يقرؤن ولا يكتبون ولا يوجد مؤذن ينبه للصلاة، والوعي السياسي معدوم لديهم وربما لا حاجة لهم به فحياتهم نادراً ما تتأثر بتطورات المدينة، لقد ذكروا ان هذه حياتهم منذ الآباء والاجداد
الخلاصة
إن هذه المجتمعات صاحبة فضل على الدولة فهي انتاجية وليست استهلاكية، فضلا عن الزراعة تقوم برعاية الثروة الحيوانية وبيع منتجاتها وهي لا تستنزف عصب الاقتصاد القومي انهم اثرياء مادياً ولكنهم فقراء ثقافياً لعدم توفر المدارس انهم اغنياء نفوس ولكنهم فقراء من الناحية البيئية فهم يفتقدون أبسط مقومات الحياة انهم اقوياء جسدياً فالواحد منهم يستطيع ان يمسك الثور من قرنيه كما اخبروني ولكنهم ضعفاء في قدرتهم على المطالبة بحقوقهم لأنهم لا يعرفون التنوع والأختلاف، أنهم أذكياء ولكنهم محرومون من الوصول إلى مصادر المعرفة أنهم مجتمع متكامل يعيش الاكتفاء الذاتي ولكنه يفتقد إلى التواصل الاجتماعي وايجاد مصادر الوعي الانساني كالمسجد والنادي والجريدة والمجلة والكتب اطفالهم يملكون الوقت الكافي ولكن لا يملكون قلماً ودفتراً ولعبة ومجلة يقتلون بها الزمن لديهم تلفزيون وستلايت وسيارة ومولدة ولا يملكون مطبخاً ومرافقاً صحية لأنهم يفتقدون القدرات الثقافية لتطوير حياتهم انهم لايملكون الحدث أو تنوع الحدث فلا يحتاجون الى الساعة لتسجيل الزمن انهم احباؤنا وابناء وطننا قدموا الضحايا من اجلنا ولم نقدم لهم قطرة ماء ولا كتاب مدرسي ولا ومضة نور أن هذا المجتمع الذي يطلق عليه (الريف) محروم من التمتع بالجهد الذي يبذله فهو يبذل من طاقاته أضعاف ما يحصل عليه وفائض الجهد يتمتع به أبن المدينة، أننا نستقبل الجهد المبذول منهم دون مقابل
وهم لا يكلفون الدولة شيئاً لأنهم انتاجيون وليس مستهلكين ان تغيير نمط حياة هولاء وزجهم في حياة المدينة سيشكل هدراً كبير للثروة الحيوانية والدخل الحاصل منها وتدمير للاقتصاد الزراعي للبلد وإنما المطلوب تشجيعهم بتوفير العلف الحيواني والماء الكافي فقد كانت هناك شكوى مريرة من عدم توفر العلف والمراعي وعند عدم توفر المراعي لا حل سوى الهجرة إلى مناطق آخرى.