خطبة الجمعة للسيد محمد حسين فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
14 ربيع الأول 1424 هـ/ 16 أياّر-مايو 2003م.
--------------------------------------------------------------------------------
في رحاب مولد رسول الهدى الرحمة(ص):
ليكن الأسوة والقدوة في بناء مجتمع متكامل ومنفتح
--------------------------------------------------------------------------------
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
المولد انطلاقة رسالية
في ذكرى المولد النبوي الشريف نولد في رسالته، لأن ولادة النبي (ص) ليست في هذا الوجود الطبيعي الذي يلتقي فيه مع كل بشر، ولكنها ولادة الرسالة التي تنفتح على الناس جميعاً، فلا تختص بجماعة دون جماعة، ولا بجيل دون جيل، بل هي رسالة الله إلى الحياة كلها: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}، وهي الرحمة التي يرحم الله بها العالمين عندما يهديهم إلى ما يجعل من حياتهم عقلاً يتحمّل مسؤولية إنتاج الفكر الحق، وقلباً ينبض بالمحبة، وحركةً تنطلق في خط العدل، من أجل أن يعيش الناس الحضارة الروحية والفكرية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى الحضارة التشريعية.
لذلك، فإنّنا عندما ننطلق لنستعيد ذكراه(ص)، فإنّ علينا أن لا نجمّد هذه الذكرى بالطريقة التقليدية التي يأخذ بها بعض الناس من المسلمين، وذلك بأن يلتقوا ليقرأوا المولد بشكل جامد من دون أن يتحسسوا معناه، أو أن يلتقوا في عملية لهو يبعدهم عن الرسول (ص).. المولد هو انطلاقة رسالية تجعلنا نشعر بحضور رسول الله (ص) فينا كما لو كنا نشاهده ونسمعه ونسير خلف خطواته ونقتدي به، لأن رسول الله (ص) هو الهدى الذي أرسله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ففي كل مرحلة من مراحل حياتنا التي ينتشر فيها الظلام الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي، نستحضر رسول الله (ص) ليعطينا النور من عقله وقلبه وروحه وسيرته: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور}.
الأسوة الحسنة
وإذا تذكّرنا رسول الله(ص)، فإن علينا أن نتذكّر سيرته في أخلاقه وأسلوبه في الحياة، وقد أراد الله تعالى منّا أن نقدّم رسول الله (ص) في حياتنا ليكون القدوة بعد أن كان في دعوته الرسالة: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}، وإذا أردنا أن نعبّر عن حبنا لله، فإن حبنا له سبحانه يفرض علينا اتّباع رسول الله (ص) في كلماته وسيرته: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.
وقد مدح الله تعالى رسوله (ص) بالخُلُق العظيم كما لم يمدحه في أيّ صفة من صفات الكمال في شخصيته، وكل صفاته صفات كمال: {وإنك لعلى خلق عظيم}، لأنّ الله تعالى يريد للإنسان في هذه الحياة أن يعيش أخلاقيته كقيمة يحملها في فكره وقلبه وحياته، لأن الأخلاق تمثّل عمق إنسانيتك، فأنت عندما تكون إنسان الأخلاق فلن تكون أنانياً، بل تحبّ لأخيك ما تحبُّ لنفسك وتكره له ما تكره لها، لأنّ صاحب الأخلاق لا يعيش في زنزانة نفسه، فالأخلاق لا تنحصر في جانب دون جانب، فإذا كنت تؤمن بالخير كقيمة أخلاقية، فإنّ الخير حقك في معاملات الناس معك، كما هو حق الناس في معاملتك معهم، أن تكون إنسان الأخلاق في نفسك، فلا تتحرك في حياتك الفردية إلا بما يؤكد القيمة الأخلاقية، وإذا كنت تتحرك في بيتك فإن عليك أن تحترم إنسانية الذين تتحمّل المسؤولية العائلية تجاههم، أن لا تكون في بيتك الإنسان الذي يعتبر أنه هو الشخص الذي يحترمه أهل البيت وليس عليه أن يحترم الذين معه من أطفال ونساء وشيوخ، لأن الإنسان صاحب الأخلاق هو الذي تنطلق أخلاقيته كما ينطلق الماء من الينابيع بشكل عفوي لا بشكل متكلّف.
وهكذا نجد أنّ الله تعالى وصف رسوله (ص) في تعامله مع الناس وانفتاحه عليهم، وكيف كانت مشاعره تجاههم، كيف كان سلوكه معهم، ونظرته إليهم، وهو سيد الخلق الذي رفع الله درجته بما يميّزه عن الناس. لقد كان النبي(ص) يعيش مع الناس بإنسانية صافية منفتحة، يفكر في كل آلامهم وقضاياهم ومشاكلهم ومتاعبهم، كان(ص) يحضن الناس الذين يعيش معهم بروحه وجهده وبكل ما يملك من طاقة: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم ـ يحرص عليكم حتى لا تقعوا في الجهل، ولا تتمزقوا وتتفرقوا، يحرص عليكم ليربيكم ويحوّلكم إلى مجتمع يتكامل ويتعاون وينفتح بعضه على بعض ـ بالمؤمنين، رؤوف رحيم}، خُلقه الرأفة بالمؤمنين فلا يقسو عليهم ولا يسقطهم، بل يرحم ظروفهم وأفكارهم وأخطاءهم وكل أوضاعهم في الحياة.
كان النبي (ص) منفتح القلب، كان صاحب القلب الرقيق اللين الواسع، وكان لسانه اللسان اللين الذي لا يصدر منه إلا الكلمة الطيبة الحانية الرحيمة التي تتحرك من أجل أن تفتح قلوب الناس على الله وعلى الحق: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}. وكأن الله تعالى يريد أن يقول لنا جميعاً ـ وهو يريدنا أن نقتدي برسول الله (ص) في أخلاقه ـ إنّ رسولكم كان يحمل القلب المفتوح على الناس كلهم، القلب الذي ينبض بالمحبة لمن حوله، والذي يخفق بالخير للناس الذين يعيشون معه، فكونوا القلوب الطيبة الواسعة التي لا تضيق بأحد ولا تتعقّد من أحد ولا تحقد على أحد، ولقد كان رسولكم ـ أيها الناس ـ لين الكلمة ودافئ اللسان، كان لا يسب ولا يفحش في كلامه، وكان لا يؤذي الناس في ما يصدر عنه من كلمات، كان رحمةً للناس في كل كلماته، كلمته الرأفة والرحمة، والتي كان إذا سمعها الناس ـ في بيته ومسجده ـ كانوا يشعرون بالأمن والطمأنينة.
اختيار الكلمة والأسلوب الأحسن
لقد أراد الله تعالى للنبيّ (ص) في رسالته أن يتوجّه إلى الناس ليقول لهم: إنكم عندما تملكون الشخصية الاجتماعية ـ كلٌ بحسب ما يملك من فكر وقضية وعلاقات بالناس ـ فإنّ عليكم أن تتعلّموا ثقافة الكلمة، فهناك الكلمة السيئة والكلمة الأسوأ، وهناك الكلمة الحسنة والكلمة الأحسن، فإذا أردتم أن تتكلموا في البيت والمجتمع اختاروا الكلمة الأحسن، لأن الشيطان يدخل في الكلمة السيئة ليثير مشكلة هنا ويحرك فتنة هناك من خلال كلمة تقولها: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ـ عندما يتكلمون مع الناس الأقربين والأبعدين، حتى لا يقعوا في حبائل الشيطان ـ إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً}، فكم من كلمة أحرقت مجتمعاً، وقتلت إنساناً، وأثارت فتنة هنا وهناك!!!
ويؤكد الله تعالى على العاملين في سبيل الدعوة إلى الله أن يكون لهم المنهج الذي يعرفون فيه كيف يفتحون قلوب الناس على كلمة الله والدعوة إليه، فلا يكفي أن يكون للداعية إلى الله ثقافة الفكرة، بل أن يكون لديه ثقافة الأسلوب، لأن هناك أسلوباً يفتح القلب وآخر يغلقه، كما أن تكون له ثقافة الكلمات التي يطلقها، لأن هناك كلمة "تحبب" وكلمة "تبغّض"، وكثيراً ما نردد المثل الشعبي: "كلمة بتحنن وكلمة بتجنن" والفارق بينهما نقطة، وفي بعض الحالات نحتاج أن نضع النقطة على هذا الحرف وفي وقت آخر نحتاج أن نحذفها، وليس معنى ذلك أن لا نقول كلمة الحق، بل أن نختار الأسلوب الأحسن لنعرف كيف نصوغ كلمة الحق وكيف نُلبسها للآخرين..
ثم، يؤكد الله تعالى في كتابه الكريم ـ مما كان النبي (ص) يدعو إليه ـ على مسألة الحلول السلمية بدلاً من الحلول العنيفة، فيقول تعالى: {ولا تستوي الحسنة ـ وهي الأسلوب السلمي الذي يحبِّب ولا يبغّض، ويوحّد ولا يفرّق ـ ولا السيئة ـ وهي أسلوب العنف والقسوة ـ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ـ أختر الأسلوب الذي يحوّل عدوّك إلى صديق، بدلاً مما نعمله نحن من تحويل أصدقائنا إلى أعداء ـ وما يلقّاها إلا الذين صبروا ـ لأن هذه المهمة ليست سهلة، لا سيما عندما يغرق الإنسان في توتره وانفعالاته ـ وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم}، حظ عظيم من الوعي والإنسانية والتقوى.
الاهتداء بالقرآن
لقد كان خلق رسول الله (ص) هو القرآن، وأرادنا أن نأخذ بالقرآن كله، أن نقرأه لنهتدي به ونستنير به، وقد كان خلقه خلق المحبة والسلام والخير والعدل، فإذا كنتم تحبون رسول الله (ص) فاقتدوا به، وانفتحوا عليه، وادرسوا كل سيرته.. لقد كان (ص) رحمة للعالمين، وعلينا أن لا نضيّع هذه الرحمة، وأن لا نبتعد عنها، ولا نجمّد فكر رسول الله (ص) في تقاليدنا، بل أن نجدده في كل مرحلة من مراحل حياتنا، لأننا بحاجة إلى رسول الله (ص) الذي كان يقول: "ما أُوذي نبي مثلما أُوذيت"، والذي كان يجلس بين يدي ربه والدماء تسيل من وجهه ليقول: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي"، أن نحمل هذا الشعار، أن نقول الكلمة الحق بالمنهج الحق، والأسلوب الحق، والموقع الحق، ولا ننظر إلى الناس هل يقبلوننا أم لا، بل أن نحدّق بالله تعالى هل يرضى عنا أو لا يرضى، لأننا إذا انطلقنا مع الله الواحد بالكلمة التي يرضاها فإننا لن نسقط، أما إذا عشنا مع الناس ليرضوا عنا فسندخل في متاهات، لأن هناك من يرضى وهناك من يغضب، وهناك من يلاحظ مصالحه ومطامعه. وقد قال بعض الشعراء وهو يصوّر هذه الحالة:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
"إن الله وملائكته يصلّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليما".