جدلية المزج و الفصل بين السياسة والثقافة وموقع الجعفري منها - الحلقة الأولى
جدلية المزج و الفصل بين السياسة والثقافة وموقع الجعفري منها - الحلقة الأولى
أرض السواد : زهير الزبيدي
الثقافة مفردةٌ تحمل في حروفها الأربع معناها الواسع الذي هو كل نتاج العالمي المبدع لها، وهي مفتوحة في مدرسة الحياة العامة لكل شعب، تحمل في تفاصيل معانيها، مساحات تتسع بسعةالأبداع للفنون والعلوم، وتضيق وتتسع بحجم الموروث لكل نوع منها، وأحيانا أخرى تختنق به. فهي لايحدها فكر، ولايتفرد بها عرف، ولايحتكرها شعب بعينه، بل هي مساحة مفتوحة تتسع العالم بأسره، وتتلون بألوان ابداعاته رغم أنها لاتتخصص باختصاص واحد، بل تنطلق من كل الثقافات الى كل الآفاق الرحبة، لتستلهم منها خلاصة الأنسانية الفذة، التي تؤسس للعدل والخلاص من الظلم. فتعبر شواطئ الأستئسصال والألغاء للآخر ، وتدور بحدود المباح لتصل حدود المستباح ليفصل بين نوعينها، الأول: ثقافة الأنسانية، والثاني ثقافة الضد لها. وبهذا المعنى فهي تستقر في المفهوم القرآني أو قريب منه، ليجمعها وعاء واحد في تجويفين متجاورين كالأذنين في القلب، أذنين يحمل الحياة وآخر يجدد لها بآلية ميكانيكية رتيبة، ما ان يعتل أحدهما مات ليميت بموته الآخر، وهكذا التقوى والفجور، فهما وسط وعاء النفس الأمارة بالسوء،حيث يقول جل من قائل: .( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)) ( الشمس) فوعاء القلب ذي الأذنين المتجاورين، بتعافيهما يتعافى الجسد، وباعتلالهما يعتل ثم يموت، ووعاء النفس بتجاور تجويفيها المفترضين داخل النفس بفجورها وتقواها كذلك. فان تعافى جانب التقوى أوقف جانب الفجور فيها، وبالعكس ان مات جانب التقوى تغلب الفجور على التقوى ليميت النفس فيحولها الى آفة بشرية تحمل ثقافة الضد الأنساني . وهكذا الثقافة بمفهومها الأوسع وفق المنهج التربوي لها، أن تحمل الأضداد ظمن الشعب الواحد، فيسعى دائما جانب الحياة المليئة بالقيم لاستمرار ديمومة الحياة المتعافية النظيفة النّظرة، يتضائل المثقف فيها مهما عظم أمام عظمة شعبه وحاجته للحياة المتعافية، فيفرح بفرحه ويحزن لحزنه. ويسعى الضد لها، باتخاذ الطرق الملتوية الضالة لافسادها، كي ينعم بها لوحده فتبرز لديه جانب الفجور المتمثل بالأنانية القاتلة ، وان جاع الشعب كله.
فالمثقف هو الشخص المتخصص بشئ، و يعرف من كل شئ، مبدع باختصاصه، ومنفتح على الأختصاصات الأخرى، بمقدار يساعده على فهم الآخرين. المثقف ليس موسوعة عامة انما هو عمق لتخصص واحد، قد يكون عملاقا تعيش في ظله نباتات نظرة الا أنها لاتتطفل على اختصاصه ذاك، بل تعيش من آنية أخرى، تتوازى معه بالأتجاه العام لاختصاصه، حيث تكامل المجتمع الأنساني .
فلا يمكن لنا أن نسمي الطبيب مثقف، أوالمهندس مثقف، بل لايمكن أن نسمي المدرس الذي يمتهن التربية بمادته لليافعين والشباب مثقفا حتى، انما نطلق صفة المثقف على ذلك الطبيب، والمهندس والمدرس، الذي يجب أن يكون بارعا باختصاصه، ملما بعض الشئ من الأختصاصات الأخرى بالقدر الذي يجعل منه محاورا عندما يلتقي صدفة بمحاورين عن الفلسفة مثلا، أو الدين، أو الرياضة، وان كان الحديث يسير بالعمق من ذلك الأختصاص فهو يفهم أطراف الحديث على الأقل ليكون عنصر مساعد يتفاعل معها، لاعنصر أساس يؤسس لها،انما متفاعل مع الحوار يستلهم المكمل لاختصاصه .
بعد هذه المقدمة نسمع كل يوم ــ لاسيما بعد السقوط للصنم والبربرية البعثية ــ أحاديث تفصل بين عناصر الثقافة لتجمدها بقصد مرة وبدون قصد مرة ثانية، فالحديث في فصل الدين عن السياسية كان قديما وتجري اليوم محاولات تأصيله، وسابقا كان النظام يأخذ خطا بيانيا نحو الدين غير مستقر ، فهو يصعد عندما يضعف النظام أمام حجة الدين ، ويتنازل حد الضمور عندما يتمكن منه ، وهكذا فمتى احتاج الدين، ربطه بالسياسة بل وصار الدين هو من يقودها وان بالشكل ، وعندما يكون الدين معوقا له ضربه ضربة تميت بعض أدواته من المؤمنين وهكذا .
بالأمس كان الكلام يكثر في فصل الدين عن السياسة، واليوم يزداد اللغط فيه، رغم أن الدين و المتعاطين به، والعاملين فيه سياسيا وثقافيا أسقطوا كل رهاناتهم بالفعل الميداني والتجربة السياسية الحية، والأصلاحية المبدعة حتى أعادت للمسلمين الى حقيقتهم الأصيلة ــ ونحن نتكلم عن التجربة لابد من استثناء المنظمات التي اتخذت من الدين قناعا لتخفي حقيقتها خلفه، كحزب البعث، والقاعدة، والسلفية التكفيرية، فالأسلام من هذه براء ــ هذا الفعل الميداني الأسلامي الأصيل أسقط كل النظريات العلمانية والليبرالية، بما ادعت به عن هذا الفصل الظالم للدين عن السياسة وبالتالي عن الدولة، وظلت لوحدها شامخة في عالم السياسة النبيلة بالبعد القيمي الأسلامي الأنساني، ما حدى بالليبراليين الجدد، التركيز اليوم أكثر على فصل الثقافة عن السياسة. وهنا يطرح سؤال نفسه بقوة هل السياسي غير مثقف ، أم المثقف غير سياسي ؟
لو عدنا الى بداية حديثنا نرى أن الثقافة مساحة واسعة وحديقة غناء تتلون فيها روائح الورود بتلون أنواع العلوم والفنون والقيم، لكن تنقسم أحيانا بالفعل بقوة خارجة تزرع الطفيليات بين أشجار هذه الحديقة الغناء لتعتاش على مفاهيمهاالمبدعة القويمة بعد أن تتلاعب بمعاني مفرداتها لتسوقها مصالح شخصية وفئوية محصورة بقوم دون قوم، وبفئة دون أخرى وبحزب دون آخر بل وبأمة دون امة، من هنا تتغير الثقافات بتغير الأهداف الأنسانية، والتي تنحصر، اما بالتقوى التي ينحصر طريقها بالحق الناصع البهي. أو بالفجور بطرقه المتعددة السحيقة.
فالأولى تتخذ من الوسيلة آلية نظيفة نزيهة بنظافة الهدف ونزاهته ، والثانية تتخذ من الغاية وسيلة لتحقيق الهدف وأحيانا تكون الوسيلة أبشع من الهدف ذاته، لأن الهدف دائما ما يكون حقا يراد به باطلا.
ومن هنا تتعدد الوسائل النبيلة في الثقافة ذات البعد الأنساني ووفق مستوى قيمها ، وثقافة الضد والتي تتعدد بها السبل لتحقيق الهدف العدواني.
فاذن هناك ثقافة عامة تنقسم الى نوعين ثقافة الشر وثقافة الخير. وبانقسامها هذا تسقط ما تحمل من مضامين ومفاهيم، على خلفية الشخص الفكرية وأداءه، أو الحزب أو الفئة وتتحاور لتلقي بالمشتركات وحسب النوايا وخلفيتها الثقافية.
وخلاصة القول، ولكي لانكون متمردين على موضوعنا نقول، ووفق ما وصلنا اليه ، أن المجتمع كله مثقف يستوحي ثقافته من خلفيته الدينية والمذهبية والفكرية لكن بمستويات متباينة، ووفق نوعين من الثقافة، وكل نوع فيه التباين بالمستويات واضح، بعضها مقصود به خير، الا أنه يفرز لنا الشر، وبعضه متعمد للشر فينتقم من الجميع باستخدام البالي من العادات وتوظيف ضعاف النفوس، وبعضه الآخر كثير الخطأ يضخ لنا من خطأه الشر مصرا على خطأه .
أما الجمع بين السياسة والثقافة فطبيعة لايمكن تجاوزها ، لكننا نستطيع القول بأن هناك مثقف منتمي ومثقف غير منتمي، وعدم الأنتماء للمثقف لايعني أنه ليس بسياسي، وحتى هذا النوع سياسي بالمفهموم الفلسفي للأنتماء أي أن المستقل هو منتمي كذلك، فالأستقلالية انتماء وانحياز للرأئ الواحد ، أو لممارسة الشخص المستوحي فكره من خلفية واحدة، أو من مجموعة خلفيات الا أنها تصب في النهاية في المشهد السياسي والثقافي العام للشعب.
فلا يمكن للمثقف أن ينئى بنفسه عن السياسة شاء أم أبى، ولا السياسي يوجب عليه أن لايكون مثقفا، واذا كان السياسي كذلك هنا وقعت الكارثة. لهذا فالمثقف نوعين منتمي وغير منتمي، واذا اعتبرنا الأستقلالية انتماء فلا يبقى في المجتمع مستقل، فكثيرا من المستقلين لعبوا أدوارا مهمة في بناء الدولة والمجتمع، وهم كانوا من ألمع المثقفقين .
أما موقع الجعفري في مقالنا، هذا ما سنأتي به في الحلقة القادمة انشاء الله.