حدّثني زميلي عن المعمم والافندي وحديث الجموع الحاشدة!
حوار من زمن الفراغ السيادي
قال: ارأيت الجموع التي خرجت في مدن الجنوب العراقي وهي تستقبل (فلانا) , أرأيت كيف ان هذه الجموع قد ادلت بصوتها واسلست قيادها لفلان.
قلت: لا يغرنك الجموع , لان نفس هذه الجموع استقبلت العلان الافندي الذي خطب في الناصرية في عشرة الاف مواطن , حتى ان الادارة الامريكية اعتبرت الحدث دليل رغبة العراقيين بقبول هذا الافندي وقبول تحرير القوات الغربية للعراق من صدام.
قال: اتنكر على فلان هذا الاستقبال؟
قلت: يا اخي العرب لا استنكر عليه ولا على غيره , ولكن الناس يبحثون عن مخلص ينقذهم مما هم فيه في ظل غياب للسلطة , ولذلك يلتفون حول كل معمم وافندي., ففي الامس استمعوا للافندي وهتفوا له واليوم يستمعون للمعم ويهتفون له , فاذا كانت هذه الجموع حجة للمعمم فان نفس هذه الجموع حجة لذا الافندي.والامر سيان.
قال: ولكنك تخالف الواقع؟
قلت: ولكن الواقع ايضا يحدثنا عن اكثر من نصف مليون عراقي يحتشدون للصلاة في مسجد الكوفة كل جمعة وراء شاب عاب البعض عليه صغر سنّه قياسا لآخرين.
قال: ها..
قلت: اراك عزفت عن الكلام المباح ولم يسفر عن وجهه الصباح.
قال: اذن اين وجه الصواب والفلاح.
قلت: عندما تضع الأزمة اوزارها , ويدخل الأمن الاقتصادي بيت كل عراقي , ويحل السلام ربوع العراق , ويكون صندوق الانتخاب هو الحكم , عند ذاك حدثني عن الجموع الحاشدة وعلاقتها بفلان وعلان.
كثير هم الذين خاطبوا الحسين عليه السلام بقولهم ان اقدم اذ: (ان الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعحل العجل يا ابن رسول الله فقد آخضر الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الارض وأورقت الاشجار فأقدم اذا شئت فانما تقدم على جند لك مجندة).
ولكن اثني عشر الف كتاب من قادة ورؤساء عشائر الكوفة (ثلث العراق آنذاك) لم يثبت منها في ساعة العسرة سوى العشرة او العشرتين.
الالاف كانوا يصلون خلف مسلم بن عقيل سفير الحسين عليه السلام الى اهل العراق, وكانت السلطة الاموية في الكوفة شبه خالية (اشبه بيومنا الان) , ولكنه في ليلة العسرة لم يجد خلفه مبايعا واحدا , ذابوا كلهم وفلح بامرأة (طوعه) سقته الماء وآوته حتى الصباح بعد ان تخلت عنه شوارب اهل الكوفة , ولم يهنأ بصباحه لان ابنها غدر به.
قال: ما هذا التشأؤم رغم ذهاب صدام حسين.
قلت: لست متشاؤما وان كنت اختلف معك في الرأي , لان افكار صدام لا زالت متعششة في الصدور , والا ما بال الناس يرفعون صور فلان وعلان على الحيطان والاجدر , ويتفاخر البعض بان احد تجار بغداد تبرع بطبع الالاف من صور جلان , اما يكفي العراق انه كان وخلال ثلاث عقود يصبح ويمسي على (الخلفه سز) صدام؟
اما يكفي شعارات (بالروح بالدم نفديك يا فلان) التي استهللكت من العراقيين نحو مليوني قتيل وجريح ومعلول في الحرب الاولى , واكثر من نصف مليون في الحرب الثانية , ومئات الالاف في الثالثة , واكثر من سبعمائة الف عراقي غيبتهم السجون خلال ثلاث عقود , (والذي يتحدث اليك هو واحد من ضحايا التعذيب في العراق)!
قال: وما العمل؟
قلت:الناس تبحث عن فطرتها , وفطرتها في الحرية , وتبحث عن امنها , وامنها في السياسة الاقتصادية الناجحة , وعن جناحها الذي تطير به وجناحها هو السلم والامن وقبول التعددية والشورى ورفض العنف والعنصرية والطائفية.
قال: وبهذه السرعة!
قلت: تبدأ انت وانا وهذا وذاك وهو وهي بنشر ثقافة الحرية والامن والتعددية والشورى والعودة الى جذور الايمان ونبذ العنف والانتقام,عند ذاك يمكننا (ربما) نسخ الهوية الصدامية السابقة (الممسوخة) واحلالها بهوية عراقية سليمة (ممدوحة) فيها لله رضا وللناس صلاح.
قال: وماذا عن رجال صدام؟
قلت: العفو عند المقدرة عملا بسياسة النبي الاكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم الذي عفا عن الطلقاء في مكة المكرمة.
قال: ولكن ماذا عن الشهداء والمعذبين , وتزعم انك واحد منهم.
قلت: نحتسبهم الى الله , ونسأل لذويهم الصبر , كما صبر اسوتنا محمد صلى الله عليه واله بمن فقدهم مثل اسد الله واسد رسوله سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عليه السلام , ولا تنسى ان اسوتنا عليه وعلى آله الصلاة والسلام قد كسرت رباعيته وهشمت عظامه في معركة احد , ولكن مناديه في مكة نادى: اليوم يوم المرحمة .. اليوم تصان الحُرَمَه.
قال: وبهذه السهولة تريد نسيان الماضي.
قلت: نتعظ من الماضي لنبني المستقبل , والعفو افضل مرهم لجروحنا , والا فان العنف مجلبة للعنف , ولا اعتقد ان عاقلا يريد لدولاب العنف والانتقام ان يدور الى ما لا نهاية.
قال: وماذا بعد؟
قلت: ندع الحديث لوقت آخر , فقد طال المقام.
