جدلية المزج و الفصل بين السياسة والثقافة وموقع الجعفري منها - الحلقة الثانية والأخيرة
جدلية المزج و الفصل بين السياسة والثقافة وموقع الجعفري منها - الحلقة الثانية والأخيرة
أرض السواد : زهير الزبيدي
بعد أن لخصنا معاني الثقافة ودورها في التأريخ الأنساني، ودورها في خلق المفاهيم الأنسانية ومساحتها عبر العالم، نرى وللأسف بأن المثقف يدعُ ويطالب، دون أن يسعى ذاتيا لترك بصماته على المشهد العام، محتجا بالضعف وعدم الدعم من الحكومة، وبديهية المثقف أن يكون هو الداعم الأول، والمبادرالأول لرفد العملية أي عملية كانت ومهما تعقدت ظروفها، وهذا ما ينتظر من المثقف المعطاء. فعلى المثقف أن يتمرس على العطاء بالسبق الى المبادرة لتغيير الواقع نحو الأفضل، وليس أن يطالب الآخرين المبادرة بالعطاء له.
لقد شوه النظام المقبور كل مفردات اللغة حتى صارت معيبة لمن يحاول اليوم تحقيق معناها في واقع العراق الجديد الذي لايمهل الآخرين كيف يفكروا ومن أين يبدأوا ، ومن هذه المفردات القيمية الرائعة مثل القائد الضرورة ، وحفظه الله ورعاه ، والجيش العقائدي، ونكسب الشباب لنظمن المستقبل. ، ومعنى الحضارة والثقافة والتمدن، وكثيرة من مثل هذه المفردات، التي صار ذكرها معيب في مجتمعنا العراقي اليوم بسبب الأساءة المتعمدة لاستعمالها من قبل أزلام النظام ورأسه والنافخين في بوقه، استعمالا صار سماعها مقززا للعراقي ،ويصدمه ترديدها كلما مرت على أسماعه وان كانت صادقة.
فهناك الكثير من الرجال في شعبنا، استطاعوا أن يترجموها بكل ثقة وابداع، في ظل النظام وهم يصارعوه، واليوم وهم يحتلوا مكانه في ظل الفوضى التي سببها الأحتلال متعمدا ، الى واقع تطبيقي في أدائهم السياسي والحكومي للمفردة المعبرة عن العمق الحضاري والأنساني ، بغض النظر عما أثير من هنا وهناك في المسارات غير الشريفة للمنافسة السياسية.
فمثلا من شعارات المرحلة التي حكمها البعث بالحديد والنار، هو شعار حكيم وموضوعي يمكن العمل به في كل المراحل وهو ( اعمل بالممكن ولاتنسى الطموح) ولعل المرحلة التي نمر بها اليوم، حيث المحتل الذي يتلاعب بكل شئ، (والمقاومة) التي تتحالف معه بالليل وتحاربه بالنهار، والأرهاب القادم من خارج الحدود، أو كان بين أحضان النظام بعد أن جاء وافدا زمن النظام المقبور واستغله النفاق السياسي اليوم، لعل المرحلة التي نمر بها، ينبغي أن نمارس فيها هذا الشعار الحكيم، بل ونجعله من ستراتيجية العمل بكل الأتجاهات، وهو أن نعمل بالممكن لكن دون أن ننسى الطموح، حيث العمل بالممكن يزيد المثقف عزما واندفاعا ً للبحث عن الحل، الذي تجد فيه المثقف دائما يطالب به الحكومة، بل يمكن له أن يكون النسغ الصاعد لها، وهي لم تؤسس لنفسها بعد، في ظل جو ملغوم بالمبهمات من الأمور.
هذا الشعار الذي دمره النظام، برفعه والعمل ضد ما يشير اليه، صار كما ذكرنا معيبا على الآخرين ذكره، وهنا على المثقف أن يبدع بتطويره والعمل على تفعيله عمليا، لتفجير مكامن الابداع، وأن لايقف اليوم مدعوما من حكومة كبل يديها المحتل، ومن يتساوق معه من التكفيريين والمنافقين السياسيين ، بل أن يكون داعما لها برفد الثقافة بالفكر النير والمشاريع الثقافية الواعية، وتفعيل مصاديقها على الأرض من خلال المتاح له من الاعلام ، وايصال صوته اليها للتأثيرعلى مسارالأحداث بالشكل الذي يرفد العملية السياسية، ثم يأتي دور السياسي ــ السياسي رجل الحكم وليس قائد الحزب ــ ليحقق له التسهيلات لابداعه، فالأبداع ما لم يأتي من قلب المتاعب والمصائب، لايمكن أن يرقى الى مستوى الأبداع، وما لم يبدأ ذاتيا لايمكن وصوله الى مسامع المسؤولين، والا كيف كان يعطي المثقف في ظل القمع البربري، وكيف كان يعطي وهو في منافي الفقر والفاقة، وكيف كان يعطي وهو على قمم جبال شمالنا الأشم وهو يحمل سلاحه.
لقد تعددت المفاهيم اليوم أكثر من أي وقت مضى، لتجزّء بين عناصر الثقافة لدرجة الحد من تقدم الفعل الحضاري لكل عنصر من عناصرها. فبعد أن كثرت النظريات في فصل الدين عن الدولة، ظهرت اليوم ــ وبعد الكبت السياسي المدمرــ دعوة فصل الثقافة عن السياسة، ثم نسمع اليوم التفريق بين رجل السياسة ورجل الحكم ــ أي الأداري ــ ومن ثم التكنوقراط. لكن الأصل ان كل هذه المسميات والمفردات التي يراد بها التفريق والتباعد، ثم التضاد والتناقض، انما يريدوا بها شل الحياة ووقف ديمومة استمرارها ، بمنمقات ثقافية ووجوه يراد منها حضارية، أو لغاية ما لايريد أن يعرفها الآخرون كأن تكون للأبتزاز السياسي أو المحاصصة على المناصب.
وقد يكون الأكاديميون، الذين ملؤوا الأعلام العراقي هذا اليوم، بعد فترة طويلة من كم الأفواه والخنوع بعد الخضوع للفكر الواحد، يريد هؤلاء أن يقتصروا الطريق على تعريف الثقافة وأخواتها المكملات لها، ليرموا للشعب الذي رزح عقود، من الحصار الثقافي الحضاري، يرموا بنظرياتهم التي ظلت في صدورهم لينطلقوا اليوم بها، ليزيدوا المشهد الضبابي ضبابية، وليعقدوا الأمر أكثر مما هو معقد. فنجدهم يتوقفون عن توضيح حالة التكامل التي يجب أن تكون بين هذه العناصر، لتفرز لنا شخصية نادرة، أو قل شخصيات لايتعدوا العشرات أوالآحاد في بعض المجتمعات، ومجتمعنا ولود لها بامتياز، رغم المحن والمشاكل، التي لو وزعت على شعوب الأرض كلها لماتت.
وعليه، على من يتطرق بمناسبة أو بدونها لتمزيق معنى الثقافة، والسياسة والحكم، والدين، والمذهب، والعلمانية ، هذا الكل المكون لثقافة أي شعب من شعوب الأرض، لابد له من أن يفلسف تكاملها بايجاز ليحولها الى أنساغ صاعدة تكمّل الحاكمن والحكومة التي
تفيض بخيرها على المحكومين، وتبني الدولة القوية ، ومن ثم ينزل النسغ النازل منها
ليدعم كل عناصرها الصانعة لهذا الكل، وليكمل الواحد الآخر، عندها سيُدعم المثقف
والسياسي والحاكم ، ويكون كل متكئ على بعضه، بل كالجسد الواحد اذا مرض أحد أعضاءه تداعى له الجميع بالسهر والحمى، وبدل أن يفكك لنا عناصرها بلؤم، حتى يعرف الشعب المظلوم لمن يصوت في القادم من الايام، هذا ان أبقى المحتل على الديمقراطية التي يريدها الشعب، وليس ديمقراطية عرجاء تحمل لنا التقزيم للعراق بتقزيم مكوناته التي ان أكمل بعضها الآخر، صار الشعب عملاقا، وصاربوجه المحتل عقدة يصعب عليه فكها، وبالتالي سيسقط العراق كل المشاريع التي جاء بها المحتل بجعبته، ولم يبق لنا الا (قبضة) من الصبر الذي اعتاده عدة عقود، وهو يكبت تصوراته الجريئة والحقيقية عن العراق، كشعب موحّد لاتجزءه أطماع المحتلين، ولا دنائة الطفيليين والمرتزقة، ونتمنى للأكاديمي أن ينطلق من مبادئ الديمقراطية والحكم والسياسة، اذا عرفنا أن بعض من يتصدر السياسيين في عراقنا الجديد هو لم يكمل مبادئها فيها، فكيف بالفرد العادي الذي طال انتظاره لتذوق نتائج هذه الديمقراطية التي وعدوه بأنها ستبيض له بيضا من ذهب.
وعندما نقرأ الحدث العراقي الجديد، ونتفحص السياسيين الجدد، سنجد أكثر من أن يتصور المثقف والأكاديمي الذي هو بالضرورة مثقف ، سيجد ان في العراق رجال عدة، وليس رجل واحد، وامتازعلى كل هؤلاء الرجال بامتياز، رجل واحد، سعى قطاع الطرق أن يوقفوه عن مسيرته، التي قدم لها جيشا من الشهداء، وحمل خشبته على كتفه أربعين عاما، باحثا عمن يصلبه عليها، أو أن يعيد للشعب كرامته. ولم يكن يوما من طلاب الكراسي أو الحكم، فقد عرضت عليه عندما كان في العراقن فمنعته عنها مبدئيته التي عاش من أجلها، وعرضت عليه في ايران، فمنعته وطنيته التي حاور كل الأنواع من الرجال من أجلها، تنازل لكن بشموخ ، انه الأشيقر الجعفري ابراهيم.
نعم الدكتور الجعفري قدم للعالم النموذج المثقف ، والنموذج السياسي ، والنموذج الحاكم ، والنموذج عالم الدين، والنموذج الأبن البار للعراق. فلم تكن لديه نقطة ضعف في تأريخ ولاجغرافيا، ولافن ولا سياسة، فابدع في كل شئ وأحب في العراق كل شئ. ناسه حيث أحبوه جميعا فدخل قلبوهم بدون استئذان، لأنه لم يفرق بينهم بدين، ولا بمذهب، ولا بقومية.
حاور دبلوماسيي العالم فرفعوا قبعتهم له باحترام، حتى قال له فريدمان النائب السابق لالكور، لم أجد فيك وأنت أمامي قائدا عربيا، بل كنت قائدا أمريكيا تعلمنا منك تأريخ أمريكا السياسي. وحاور العرب فغير لديهم الصورة التي كانت مشوهة لديهم، وأرادوا أن يشوهوها أكثر، حتى قال ناصر القدوة السفير الفلطسيني في الأمم المتحدة لعمرو موسى وهو يحاور الجعفري الكبير: أسمع واحفظ سعادة الأمين العام ، أنه كلام لم نسمعه من قبل.
وحاور الأوربيين حتى أخرسهم جميعا ولم يستطع أحدا منهم الرد على طروحاته في بروكسل، وحاور فاروق الشرع وعلمه ماذا تعني القومية فردعليه لو كنا نعرف فيك هذا لكنا لغيرنا موقفنا معكم 180 درجة . وحاور ابن الموصل وابن الأنبار ، وابن البصرة والسماوة، وكل العراقيين حتى دخل الى أعمنقهم فأحبوه وخرجوا له مظاهرات ولايزالون يسموه بالقوي الأمين .
نعم هناك من أعترض عليه، فلم يأتي هذالاعتراض والتهريج والاعلام المسييس اللئيم، الا مصداقا للقانون الأجتماعي الذي يقول لكل قاعدة شواذ ، فكان من رد عليه واعترض بالباطل، وهو رد بالحب الصادق، مصداقا لهؤلاء الشواذ، حتى كاد الجعفري أن يكون للجوقة السياسية، التي شرجت وغربت تبحث عن مثلبة ترميه بها، صار لهم الجعفري المحك الذي كشف حقائق معادن الناس، فتنازل للعراق ولم يتنازل لهم، من أجل أن يبقى العراق موحدا بكل ما للكلمة من معنى، وليس كما يطلقها الآخرون كلمة حق يراد بها باطل.
لكن اليوم الخميس \ 05 \ 200 \2005 نعم اليوم وعلى شاشات التلفاز انبرى لهم ليقيم المسيرة فاعطا لكل واحد حقه من التقييم، ليسلم العراق من خبثهم، وعلى الشعب أن يتذكر هذا العملاق كلما ألمت به مصيبه ، لنرى ماذا قال لهم عنّفهم بكل حب، ليؤدبهم بكل وطنية، فقال وهو يطلع الاعلام على ما دار في اجتماع مجلس الوزراء: اتفق الجميع على الأجحاف الاعلامي الذي حصل، والاعلام سيحاكم بمحكمة التأريخ ، وستتضح حقيقتان ، ان التقصير الاعلامي الذي انطلق من رئاسة الوزراء ومن المكاتب الخاصة وما شاكل، ذلك انهم كانوا يعملون ولكن لايعبروا عن أعمالهم ونشاطاتهم ، وكذلك هناك كان تصيّد وتسقّط من هنا وهناك . آفة الاعلام، الاحتراف الاعلامي الانتفاعي، وليس الاحتراف الفني ، هناك الكثير ممن كتب كما يحلو ويشتهي ، وهناك الكثير ممن أخذ الصورة مجتزئة ، أخذ الزاوية التي يريد ، ولأنه أسير ثقافة اللعنة، فيبحث عن نقطة حتى يلعن، وعددهم ليس قليل ، ولذلك يبرع في مثل هذه الأجواء .......... وبعد أن أطرى على النزيهين ممن حملوا القلم بموازات البندقية، وعبروا عن الاعلام بأنه رسالة قال : التأريخ لن يُنحَر، وانا على يقين، ان الذين زيفوا وساهموا بتزييف بعض الحقائق، سيخجل ابنائهم مما عملوا، أما أحفادهم وأسباطهم سيلعنوهم.
هذا هو الجعفري يا شعبي العراقي المظلوم ، بدأ بنقد فريقه الذي إئتمنه على مكاتبه التي تقوّم العمل ليتكامل ، فانطلق من داخله الذي فشل لكي لايرمي اللوم كله على الآخرين من خارج مكاتبه، ثم جاء ليرسم خارطة اللؤم الذي أصاب القوم، وما سيناله هؤلاء من جيلنا الحاضر والأجيال القادمة، وكيف استثمروا تقصير مكاتبه التي كان لابد لها من أن لاتعطي الثغرات للمتصيدين والمسقطين.
هذه الثقافة التي نريد ، وهذا الحاكم الذي نريد ، وهذا العراق الذي نريد ، فهل لدى الآخرين اعتراض . نحن نقيم ما رصدناه ووضعنا نصب أعينا العراق وشعبه ونحن نرصد، فكما قال الجعفري بأن عمر الحكم طويل وعمر السياسي قصير، ولكي يظل العراق نظيفا، على الآخرين احترام حجمهم، ولنا أن نقيم لتنتعش الحياة السياسية ، وبانتعاشها يزداد المثقف عطاءً ليحصل على دعمه، ويزداد الشعب وعيا ليعطي هو الآخر للعراق .