-
أميرة واللهب
أميرة واللهب
(1)
تستيقظ في غمرة الفجر ومع بدء المؤذن بتلاوة الآذان ، النوم لذة من أللذائد العظيمة إلا أن أميرة تقاوم سلطانه القاهر لتؤدي فريضة صلاة الصبح ، تريد النوم بعدها إلا أنها قرأت أن المستحب أن لا تنام إلا بعد طلوع الشمس ، وحينها لا بد أن تذهب إلى الجامعة ! في قاعة المحاضرات تحاول أن لا يغلبها النوم ، تلتفت تارة إلى الدكتورة وهي تشرح درس الفقه وتارة أخرى إلى الطالبات وهن يستمعن لها ، يقطع مسيرتها نحو النوم قيام طالبة سائلة...
- لماذا يا دكتورة يلتزم العلماء بشهادة امرأتين مقابل رجل واحد ؟
يعتري الدكتورة نوعا من الاندهاش والتراجع ، لكنها سرعان ما تتماسك...
- لان المرأة كثيرة النسيان.
- ولماذا ؟
- تلك هي طبيعتها البيولوجية .
- إننا هنا في هذه القاعة جميعنا نساء، هل لاحطتي ذلك ؟
تحوم الإجابة فوق رأس الدكتورة دون أن تستطيع الإمساك بها ، أميرة تفيق من سكرات نعاسها وتنبري لانقاد أستاذتها ..
- قولي لي ماذا يحويه راسك من علم حتى تجادلي العلماء وتسأليهم عن أمور لا تخصكِ؟
- كيف ذلك وهم يفتون بأمر من شئوني ؟
- إنهم أصحاب تخصص دقيق كالفيزياء والكيمياء، هل أنتِ فقيهة مثلهم ؟
- بالطبع لا ولكن....
- ولكنك متطفلة تسألين عن أمور لا تعنيكِ ، عليك بان تنفذي كلام أصحاب التخصص دون نقاش، لو كنت مريضة ووصف لكي الطبيب دواء، هل كنت لتناقشيه أم ستتناولين الدواء وانتِ صامتة ؟
لم تعرف بماذا تجيبها ، تنتهز الدكتورة الفرصة لتغلق باب الحوار وتعود لتلقين الطالبات درسها المعتاد...
في أروقة إدارة الجامعة ، تتوجه أميرة إلى إدارة شئون الطالبات ..
- امتاكدة من أن سوزان لا تغطي وجهها في الحافلة ؟!
- بالطبع، وقد نصحتها أكثر من مرة ولكن دون فائدة.
- حسنا سأتصرف .
وعلى عجل يتم إخطار سوزان بضرورة الحضور إلى مكتب شئون الطالبات
- لماذا لا تغطي وجهك يا سوزان كباقي الطالبات ؟
- أنا.. ( بذهول وتشتت) أنا ...
- أنتِ ماذا؟ أجيبي ولا تخافي ، أنتِ كابنتي .
- عندما أكون في الحافلة لا أجد ضرورة لتغطي وجهي لان جميع من فيها من الفتيات والسائق مشغول بالقيادة وأنا بعيدة عنه ثم انه رجل متقدم في السن.
- هذا ليس بعذر، إن القانون واضح وصريح ولا بد من تنفيذه.
- من أخبركم بأمري؟
- ليس من الضروري أن تعرفي.
- لا بد أنها أميرة .
- ولماذا اتهمتها بالذات؟
- لأنها هددتني أكثر من مرة بإبلاغ الإدارة .
- ادخلي يا أميرة.
- نعم أنا من أخبرتها بالأمر، ولكن هذا لمصلحتك فأنتِ زميلتي التي أخاف على سمعتها.
سوزان تنظر إلى أميرة بغضب وحنق ..
- والآن يا سوزان عديني بان لا تكرري فعلتك هذه أبدا .
بأنفاس محمومة، والغضب كالشرر يتطاير من عينيها
- أعدك بذلك
تنظر إلى أميرة بحقد وتخرج ...
***
تعود أميرة إلى البيت بعد يوم قاس، تحاول أن تستلقي على سريرها لتخلد إلى نوم عميق
- أميرة لا تنامي قبل أن تحضري طعام الغداء من المطعم المجاور.
- ولماذا يا أمي .
- لقد نفد الغاز قبل إعداد الطعام !
في جو حارق ، تخرج أميرة من اجل إحضار وجبة الغداء لأسرتها، المطعم يعج بالمرتادين من الرجال ، تقف بعيدا وسط أشعة الشمس اللاهبة، تنتظر طويلا إلى أن تكرم عليها العامل بالحضور ،عليها أن تصمت الآن، ليس من اللائق أن تعنفه لان هذا كلاما مع رجل أجنبي ليس له مبرر ، تطلب بغضب دجاجة مشوية مع الرز، تنظر إلى الداخل ، الرجال يأكلون بمرح وأجهزة التكييف تحول الأجواء الحارة إلى نسائم منعشة، بينما هي متسربلة في درجة حرارة تتجاوز الخامسة والأربعين ، ولا يمكنها حتى مجرد الدخول للمطعم اتقاء للحرارة العالية، فهذا ليس من الذوق وليس من أخلاق الفتيات المتدينات ، إذا كانت درجة الحرارة مرتفعة فإنها تزداد ضعفين على الأقل عند أميرة لأنها ترتدي عباءة سودا، واللون الأسود يمتص أشعة الشمس لترتفع حرارة الجسم أكثر، علاوة على ذلك ترتدي أميرة قفازات سوداء ! مما جعلها تشعر وكأنها داخل فرن ضخم لا نجاة منه..
.. تعود أميرة إلى البيت مفضلة النوم على تناول وجبة دسمة في نهار لاهب .
في المساء وبعد أن شبعت أميرة من النوم ، وعقب أدائها لصلاة المغرب في القسم النسائي من المسجد المجاور، كانت على موعد مع درس الفقه الأسبوعي الذي تحضره العديد من فتيات الحي والأحياء المجاورة، استمر الدرس لأكثر من ساعة وكان موضوعه يتعلق بالدماء الثلاثة لدى المرأة، الموضع مثير ومهم ورغم ذلك جلست الفتيات بخجل ولم تنبش إحداهن بأي سؤال عابر رغم أهميته ، انتهى الدرس ، خرجت أميرة بصحبة إحدى صديقاتها، الشارع مزدحم بالسيارات والشبان المنتظرين لأخواتهم وزوجاتهم ..
- من فضلك يا آنسة ما الذي يجري هنا؟
أميرة وصديقتها، تنظران إلى بعضها البعض وتهمان في السير وكأن احد لم يكلمها..
- لماذا لم تجيبيه يا أميرة؟
- ماذا؟ اجننتي؟ أتريدين أن اكلم شابا؟ .
- ولكنه مجرد سؤال وردك مجرد إجابة .
- ولماذا يتوجه بالسؤال ألينا نحن الاثنتين؟ لماذا لا يسال احد من الرجال المتجمهرين؟ إن علينا عدم إتاحة الفرصة لهؤلاء الشبان بالتحدث إلينا لكي لا يحدث ما لا يحمد عقباه، يجب أن نسير في الطريق بحشمتنا الكاملة دون الالتفات إلى هؤلاء الصبية الذين ينتهزون أية سانحة فرصة للإيقاع بنا ، الم تستمعي للشيخ في خطبة الجمعة الفائتة!؟
**
في آخر المساء تذاكر أميرة بعض المحاضرات وهي مستلقية على الفراش، إلا أن الهاتف يخرج عن رسم صمته ليقطع عليها خلوتها
- الو أنتِ أميرة ؟
ينتابها الصمت وتعتريها الدهشة..
- أرجوكِ جاوبيني، أنتِ أميرة ؟
تتمالك دهشتها لتجيب بصوت خافت وحازم..
- نعم من أنت وماذا تريد ؟
- أرجوكِ لا تفهميني خطا، أنا سامي، شقيق صديقتك زينب ؟
.. بغضب ترتفع حدته
- ماذا تريد مني وبأي حق تكلمني ؟
- أرجوكِ سامحيني أن أنا اخطات، ولكن قصدي شريف، فانا أريد أن اطلب يدك
- أظن أن عندي أب وأم .
- اعرف ذلك بالطبع ولكني أريد أن أتفاهم معك على بعض الأمور.
- تفاهم مع أبي ، انه ولي أمري .
- اعلم ذلك، ولكنك أنتِ من سوف تتزوجين وليس هو، ارغب فقط بالاتفاق معك على نقاط محددة لأطلبك من أبيك وأنا مطمئن.
- أرجوك، أخلاقي وديني لا تسمح لي بالتحدث إلى رجل غريب.
- أميرة، أنا سأكلمك في موضع الزواج ليس إلا.
- آسفة، إننا في مجتمع لديه عاداته وتقاليده، وما تريده أمر خارج عن قيم المجتمع الذي نعيش فيه.
- أميرة أرجوك...
تغلق السماعة في وجهه، تحاول الحفاظ على هدوئها وتماسك أعصابها، تريد العودة إلى وضعها السابق، إلا أنها لم تستطع، في الصباح تخبر إحدى صديقاتها..
- وماذا في ذلك يا أميرة، لماذا لم تمنحيه فرصة شرح موقفه ؟
- لم استطع، انه لأمر مرفوض أن اكلم شابا غريبا.
- انه لم يعرض عليك صداقته، كان سيتحدث إليك بشان الزواج ليس إلا، عليك أن تكوني أكثر تلقائية.
- ظننتكِ ستؤيدين موقفي، على العموم ، إذا كان يريدني سيخطبني على جري العادة !
ولكن بعد أسابيع، كتب سامي عقد قرانه على فتاة أخرى ، تقبلت أميرة الأمر وكأنه لا يمسها بشي ، ولم تفشي ما جرى لأحد غير صديقتها ، تلحظ في عيني زينب أخت سامي كلاما تريد أن تقوله لها، تقترب منها والبسمة الغامرة تملئ تغرها
- لقد عقد أخي على فتاة اخترتها له بنفسي، وسينهي الزواج بعد أسابيع لأنه سوف يغادر البلد لإكمال دراسته الجامعية في أمريكا
تبتسم أميرة في وجهها بامتعاض قائلة: هذا أمر لا يعنيني ولكن أتمنى له التوفيق!
**
تعود أميرة إلى ممارسة هوايتها المفضلة ، في يومي الثلاثاء والأربعاء من كل أسبوع تفتح المكتبة العامة أبوابها مشرعة للنساء فقط ، إذ إن بقية الأيام مقتصرة على الرجال ، أميرة تقضي وقتها بين الكتب كل الثلاثاء ، تلمح عينيها فتاة محجبة ولكن على خلاف الحجاب المألوف ، فلم تكن ترتدي خمارا يحجب وجهها أما عباءتها فقد كانت مزركشة بخطوط ذهبية فاقعة ! تقترب منها أميرة لعلها تحظى منها بكلمة فاتحة لكلام طويل بينهما!
- هل تبحثين عن كتاب معين ؟
- نعم ابحث عن كتابي تحرير المرأة والمرأة الجديدة لقاسم أمين.
- ومن هو قاسم أمين ؟
- انه كاتب مصري عاش في بداية القرن العشرين.
- هل هو رجل دين؟
- كلا انه مثقف يدعو إلى تحرير المرأة من الاستعباد.
- وهل المرأة مستعبدة في المجتمع الإسلامي؟
- وهل لديك رأي آخر؟
- بالطبع، إن المرأة تعيش بكرامتها وسط أهلها ومجتمعها.
- قول لي هل تستطيعين القدوم إلى هذه المكتبة دون موافقة ولي أمرك؟
- ( بذهول) كلا
- هل تستطيعين مواصلة دراستك دون موافقته؟
- ولكن هذا لمصلحتي، فهو أدرى بها يا عزيزتي
- أليس ذلك ظلم وإجحاف بحق المرأة ؟
أميرة ينتابها غضب عارم، لقد ناقشت الكثيرات من المناوئات للنظام الحاكم في بلادها وتعرف كيف تتصرف...
- اسمعيني جيدا، هل الحرية في أن اكشف وجهي للرجال؟ أين غيرتي ، أين مرؤئتي، أين اقتدائي بزوجات النبي وبناته؟ هل من الحرية أن ارتدي عباءة فاقعة اللون، وكأنها رداء منزلي وليست عباءة تستر جسدي؟ هل من الحرية أن اترك فتاوى الفقهاء الكبار الدين سخروا أنفسهم من اجل خدمة الدين والمجتمع لكي اقرأ لكتاب علمانيين يريدون إفساد الرجال والنساء ؟
الفتاة تستمع لها ببرود ، وما أن انتهت أميرة من كلاهما المشحون بنبرات الغضب ، حتى بدأت بالرد عليها والهدوء مسيطر على جوارحها ...
- على رويدك يا عزيزتي، إن ما أشرتِ إليه ليس فيه ما يخالف الشرع، فانا من حقي أن اكشف وجهي وارتدي رداء بخلاف العباءة، وأقود السيارة والطائرة والقطار و...
- اجننني تريدين النساء يقدن السيارات لينشرن الفساد على ناطق واسع في البلاد؟
- هل المجتمعات التي من حولنا فاسدة؟ اوليست مجتمعات إسلامية هي الأخرى!؟
... تتطلع إليها أميرة باحتقار قائلة:
- أنتِ فتاة لا تستحق الاحترام للأسف الشديد، منذ أن رايتك لأول وهلة عرفت من أي عينة تكونين والى ما تهدفين.
- انتظري قليلا..لا تطعنيني في شرفي وديني ، أنا كل ما أطالب به هو أن اظفر بحياتي لأعيش إنسانة سوية و...
- أنتِ تريدين أن تعيشي كما تريدين لتسرحي وتمرحي دون رقيب ، نصيحتي إليك أقراي سيرة زوجات النبي والصحابيات الكريمات وماجدات تاريخ الإسلام واقتدي بهن ، ذلك أفضل لكِ من أن تسيري في الشارع ووجهك مكشوف للجميع . !
**
يبدوا أن النقاش في المكتبة اثر على أميرة، شعرت بإرهاق شديد، والغد هو الأربعاء، موعد محاضرة مهمة في مقرر الفقه ! لا بد إذن من ذهابها إلى المستشفى لتلقي العلاج السريع..
- اذهبي أنتِ يا أميرة إلى الاستقبال للتسجيل بينما ابحث عن موقف مناسب للسيارة.
منذ زمن وأميرة لم تراجع مستشفى، فصحتها دائما جيدة..
- اسمك من فضلك.
تقف أميرة والصمت يعتريها والخجل ينال من شخصيتها المتدينة... هل من الضروري أن اذكر اسمي كاملا على مسمع من الرجال !؟
- اسمك لو سمحت.
- اسمي أميرة .
- اسمك بالكامل أرجوك.
- هل لا بد من ذلك ؟
- بالطبع، إضافة إلى رقم التلفون والعنوان.
- لماذا علي أن اذكر اسمي كاملا، إن هذا أمر مخجل، ماذا لو التقط احدهم اسمي وتلفوني، سأكون فتاة معروفة في أوساط الشبان الفاسدين! هاتفنا الذي لا يعرفه إلا القليل لن يتوقف عن الرنين ! لا .. لا يمكن أن اخبره باسمي كاملا...
يقطع حيرتها قدوم أبيها الذي تولى تسجيلها وسط غضب بدا ينتشر في أوساط المراجعين وموظفي الاستقبال!!
بعد الآم متصاعدة وانتظار طويل ، جاء دور أميرة في دخول العيادة ..
- انه رجل يا أبي.
- من فضلك يا دكتور أليس هناك امرأة تتولى الكشف على ابنتي؟
- للأسف يا سيدي الطبيبة انتهت فترة عملها.
- لا باس يا بنيتي سأكون معك.
- كلا يا أبي، إنني ارفض أن اكشف وجهي للرجال كما تفعل بعض الفتيات المائعات
فما بالك بمس جسدي من قبل رجل أجنبي وان كان طبيبا !
اضطر والد أميرة مراجعة مستشفى خاص ودفع المال من اجل ابنته ،تناولت أميرة الدواء وغرقت في بحر النوم ....
(2)
كان على أميرة بعد انتهاء الأسبوع الدراسي أن ترتاد الأسواق ، فليلة الجمعة ستقام حفلة زفاف كبيرة لأبنت عمها ويجب عليها الحضور ، لا بد من شراء أدوات ماكياج جديدة وملابس لهذه المناسبة، ورغم حرارة الأجواء لم تتراجع عن التزامها بكامل حجابها وارتداء القفازات السوداء التي تحجب يديها ورجليها عن الأنظار، تواجه أميرة صعوبة في النظر إلى الملابس المرشحة للشراء بسبب الخمار الأسود الذي يغطي وجهها والقفازات التي تجعل معاينة الأقمشة صعبا وغير دقيق ، أما الملابس الداخلية فإنها اشد إحراجا ، أميرة تشعر بان أعين العاملين تتجه إليها رغم أن المحل مليء بالنساء والفتيات، الحرارة لاهبة والأجواء متعنتة والعرق يتصبب من جسدها ، إلا أنها تصر على الالتزام بالدين وتحارب المناخ القاسي بحمل قارورة ماء باردة تخفف عنها تبعات الصراع بين الالتزام بدينها وحرارة الصيف ! وبعد زيارة أكثر من محل اختارت أميرة فستان السهرة بملابسه الداخلية أخيرا، إلا إنها سرعان ما أعادت واستبدلت بعض القطع لكونها ضيقة بعض الشيء.. بعد ساعات شاقة من التسوق أصبح كل شي على ما يرام ، ستحضر أميرة الحفلة بعد أن حلف أكثر من يمين بأنه تم إلغاء الاتفاق مع إحدى الفرق الغنائية التي ستحول العرس إلى مجلس طرب فاضح ومزعج وسوف تكتفي العروس بترديد الأناشيد والأهازيج الشعبية والدينية المتعارفه .. الخيمة كبيرة وتبعد مسافة ليست بالقصيرة عن خيمة الرجال ، الحضور كثيف ومليء بالفتيات والأطفال الذين بدئوا بترديد الأناشيد ، أميرة ترتدي ملابس جديدة زاهية وساترة أيضا، فالتبرج غير مقبول سواء على المستوى العام أو في داخل المجتمع النسائي المهترء ، انضمت أميرة للمنشدات بحذر، بدأت آحادهن بالرقص ، وسرعان ما طلبت منها مشاركتها إلا أنها رفضت بالطبع ، فهذا عمل غير لائق! العروس تنظر إلى الحفل بابتهاج وهي مرتدية ملابس الزفاف الفاتنة والمتبرجة، طالما طلبت منها أميرة أن لا تكون ملابس العرس كاشفة لجسدها لكنها على ما يبدوا لم تعمل بنصيحتها ! سمعت أميرة أصوات ذكورية بالقرب من الخيمة، استفسرت على عجل عن سر تواجد الذكور ، فطمأنتها إحدى المشرفات على الحفل بأنهم جاءوا ليتأكدوا من إجراءات السلامة ، إحدى الحاضرات قامت وهي مفزوعة ، قائلة يا بنات الحمايل شاهدت هاتفا نقال مزودا بكاميرا ! ضجت الخيمة بنسائها، شكلت أميرة على الفور فرقة بحث جابت أنحاء الخيمة للتأكد من عدم حمل أحداهن جوال الكاميرا، عدو المرأة في المجتمعات المتدينة! وبعد الاطمئنان على كل شي شرع في تناول طعام العشاء الفاخر، تعارك الحضور على المائدة بعد ساعات من الجوع والتعب والعطش، أميرة رغم جوعها الشديد إلا أنها رغم ذلك تناولت وجبتها باتزان.. لا احد خارج الخيمة ، الرجال في خيمتهم يتناولون هم أيضا طعام العشاء ، السكون غير معتاد وكأنه يندر بقرب حلول فاجعة رهيبة ، القمر وان كانت السماء صافية إلا انه يبدوا متواريا عن الأنظار وكأن السحب تحجبه ، الهواء الحار المشبع بالرطوبة توقفت زخاته فجأة، كل شي يوحي بقرب حلول قدر مكتوب على جبين أهل هذا العرس من قبل ولادتهم ، بدأت النيران بالاندلاع بهدوء، لا احد يشعر بها، وكأنها عابر سبيل سيعود إلى متابعة سفره إلى مقصده في الأرض الواسعة ، إلا أن النيران بدأت في التهام المزيد من أجزاء الخيمة ، سعيرها بانت ملامحه وغضبها تدفق في لحظات عاتية، السكون الرهيب تحول إلى صراخ وعويل يدك الوجود ويسبح في الفضاء عله يصل إلى من ينقد المئات من الأرواح التي حشرت في خيمة عرس بيضاء ، تدفقت النيران كمارد من نار يحرق كل من يقف في طريقه، البكاء انتشر في كل مكان من الخيمة الحزينة ، الأطفال يصرخون صراخ الموت والنساء والفتيات يتطايرن كالفراشات المحترقات ، كل واحدة منهن تمسك بطفلها أو ربيبها وتحاول إخراجه من الخيمة، العروس استطاعت الفرار إلا انه تذكرت أختها الصغيرة فعادت للخيمة بحثا عنها فوقع عليها عمود محترق لينهي حياة لم تبدأ بعد، كثير من الفتيات خرجن من الخيمة، لم يستمعن لنداءات النساء الأخريات اللاتي حثثتهن على ارتداء العباءات قبل الخروج حتى لا يراهن الرجال وهن متبرجات فيعشن بقية عمرهن في عار وفضيحة، الكارثة تزداد واللهب الحارق يقتل كل من يجده ، حتى النساء اللاتي صرخن بأعلى أصواتهن بضرورة ارتداء العباءة نفذن بجلدهن ! أميرة... ظلت حائرة وسط الجموع المحتشدة ، كانت تخرج الأطفال الصغار من الخيمة وتعود بسرعة مرة أخرى خشية من أن يرها احد الرجال وهي بدون عباءة ، تصرخ في وجهها احد الفتيات ، هيا اخرجي من الخيمة قبل أن تتساقط عليك أعمدتها المشتعلة ، أميرة تجيبها وهي تبكي بكاء تائها في غمرة المأساة .. كلا لا استطيع أن أقف عارية أمام الناس، أرجوك احضري لي ما يستر جسدي .
- لا وقت لهذا ، هيا أميرة النيران قادمة .
- كلا مستحيل ! .
تخرج الفتاة بسرعة لتبقى أميرة وحيدة حائرة وسط النيران والجثث المحترقة وبقايا حطام بشري، لم يبقى بينها وبين النيران سوى بضعة أمتار
- يا الهي إن خرجت سيطاردني العار ما حييت وان بقيت ستحرقني النيران، ماذا افعل ؟ ... النيران قادمة يا أميرة .. لا يمكن أن أخون مبادئي وان كان الموت يدك حصون حياتي... قد تكون الخطيئة عمل نبيل عند الضرورات يا أميرة، انفذي بجلدك.. لا سأنتظر علني انجوا بجسدي وشرفي في آن واحد.
النيران الغاضبة تقترب من أميرة ، الدخان المتصاعد يكتم أنفاسها ، القلب الزاخر بالحيوية يبدأ بالخمود ، تضع يد على صدرها ويد أخرى على فمها ، أوجاع الكارثة المدوية في كل مكان من جسدها، تسمع في الخارج بكاء جماعي رهيب، سيارات الإسعاف والمطافئ باتت قريبة، الدخان يحجب الروية ويحول الحياة إلى كابوس من الجحيم، تلسع النيران جسد أميرة ، الآلام الرهيبة بدأت بالاستيقاظ ، تخرج صرخة الموت من ثغرها ، أميرة تعيش اللحظات الأخيرة من كوميديا اللهب ، لا تستطيع المقاومة أكثر ، تتمرغ على الأرض والنيران تشتعل في جسدها الغط ، تتقلب اليمين والشمال ، على ظهرها ،على بطنها، على جنبها ، على معجزة تريحها من سياط النيران المجنونة التي لا تعرف الرحمة ، إلا أن النيران هاجمت فمها وأحرقت لسانها ليقضى على آخر أمل لها في النجاة ، لقد قضى ما يستدل به على وجودها بين الأحياء ، تحلق أميرة في سماء الخيمة، ترى جسدها تلتهمه النيران ، والنساء والأطفال ما بين ميت ومحترق ومرعوب، الرجال المكلومين يحيطون بالنساء المفجوعات وسيارات الإطفاء تكافح النيران الهائجة ، والمسعفين يحاولون انقاد ما يمكن أنقاده من الأرواح الطائرة ، عل احدها يرجع إلى جسده المدمر، تنظر أميرة إلى محيطها الحي وتغادره دون إرادتها ، نسائم الملكوت تهب على روحها المذهولة من هول الفاجعة ، تشعر بأنها ميتة ولن ترى أهلها مرة أخرى ، تتأمل جسمها فتجده شفاف على النقيض من جسدها الذي الفته واعتادت عليه ، تسمع نداء مجهول .. لقد غادرت اليوم أميرة الحياة إلى عالم الرحمة ...
(3)
أميرة شهيدة العفة والطهارة... أميرة ضحت بنفسها من اجل القيم الخالدة.. أميرة قدوة نساء هذا المجتمع ... معاشر النساء اتخذن أميرة قدوة لكم، اجعلن حياتكن كحياة أميرة، على جميع الفتيات اللاتي لم يلتزم تماما بالحجاب والعفاف أن يبادرن إلى ذلك، ولتكن أميرة أمامهن دائما... .. لم تكن أيام عزاء عادية ، تلك التي أقيمت حدادا على روح أميرة، فقد تبارى الخطباء والشعراء والكتاب في تمجيد العزيزة الراحلة، التي ضحت بنفسها حفاظا على الشرف والحياء ، ملصقات في كل مكان تحث النساء على الالتزام بالعباءة والخمار، وان يتذكرن أميرة وتضحيتها العظيمة ، فقد كان باستطاعتها الخروج من الخيمة وان تبقى حية، إلا أنها فضلت الموت على الحياة في العار ... أصبحت أميرة حديث الأمس واليوم والغد، أميرة في كل مكان وعلى كل لسان، الكل يمجدها ، الجميع يترنم بسيرتها وكيف كانت ملتزمة بحجابها ، بعباءتها، بتغطية كامل وجهها ، بلبسها القفازات حتى في درجات الحرارة عالية ، الكل يلهج بسيرة أميرة في جامعتها ، في بيتها، مع عائلتها، صديقاتها، في الشارع، في السوق، وفي كل محفل شرفته بحضورها، خطباء المساجد يثنون عليها ويدعون لها بالمغفرة ، ويرغبون الناس في تربية بناتهن بمثل ما ربيت عليه أميرة، يحثون النساء والفتيات لان ينهلن من مسيرة حياتها، من تضحيتها العظيمة .... تحولت أميرة إلى أسطورة أنثوية وذات عظيمة، ومثال للتضحية في سبيل العفة، قبرها لا تنقطع عنه الزوار.. حسرت على شبابك يا ابنتي ماذا كان سيحدث لو انك خرجت من الخيمة كباقي الفتيات.. تتسابق النظرات الغاضبة لتلك المرأة التي تفوه لسانها بهذه الكلمات... يتطلع إليها احد الذكور بحنق وغضب شديدين.. ماذا تقولين يا امرأة؟ لقد ضحت هذه الفتاة بنفسها حفاظا على شرفها وطهارتها، لقد رأيت بأم عيني فتيات هاربات من الخيمة المشتعلة وهن عاريات كاسيات، هل تعتقدي باني سوف أتزوج بأحداهن في يوما ما أم غططت الطرف عنهن واختلقت لهن الأعذار؟ إن عريهن سيبقى عارا يطاردهن إلى الأبد ولن تغفر لهن روح الطهارة والهة العفة جنايتهن مهما قدمن من مبررات، ما الذي جعلهن يتعرين داخل الخيمة، لماذا لم يكن محتشمات ؟ أين كانت عباءاتهن؟ هل الحشمة فقط أمام الرجال ؟ اجيبي ! لماذا أنتِ صامتة؟ وكأن روح شريرة مستك ... تبكي المرأة بغبن شديد ، لتبكي معها النساء المحتشدات، كأنهن يردن قول رأيا مناهضا لما قاله هذا الرجل ، إلا أنهن مكبلات بقيود لا يمكنهن الفكاك منها، يقطع بكائهن نداء من حنجرة أنثوية مقموعة : فلنقرأ جميعا آيات الرحمة على روح أميرة لتنعم بالسكينة ...
كانت أميرة بعيدة عن الجميع، في عالم جديد، تبكي لفراق أحبتها ومغادرتها الحياة في سن مبكرة، كانت صلوات أهلها وذويها تصلها فتخفف عنها آلامها، إلا أنها تعود للبكاء مجددا، لدغات اللهب الرهيبة ما تزال تشعر بها لينتابها حزن شديد وهم عارم ..
- كيف تشعرين الآن يا أميرة؟
تسمع صوتا جبهريا ولكنها لا ترى شخص أمامها..
- من أنت، أرجوك اظهري نفسك، مند أن أتيت إلى هذا المكان وأنا وحيدة فريدة.
- حسنا يا أميرة إن كان ذلك سيريح نفسك المعذبة.
تظهر لها سيدة عجوز تحيطها هالة من النور..
- هل أنت ملاك؟
- كلا يا أميرة أنا بشر مثلك.
- اخبريني أين أنا وهل سأعود إلى دياري؟
- كلا يا أميرة، لقد مت .
ذهول يعقبه صمت مجلجل، بكاء ونحيب يخرج من روح أميرة تسمعه الأرواح الأخرى فتسبح الله عله يغفر لها...
- اهدئي يا أميرة، كل الناس ستموت .
- (ببكاء ) ولكني مت محترقة.
- أنت من قصمتي عمرك ، كان مكتوب لك أن تعيشي سبعين عاما، وها أنت تغادرين الحياة ولم تبلغي الخامسة والعشرين، لماذا فعلت ذلك يا أميرة ؟
- أرجوك اخبريني، هل أنا مخطئة؟ كنت أظن أنهم سينقدونني.
- كنت تستطيعين الخروج من الخيمة ولكنك كنت ذاتا ضعيفة ونفس مستسلمة للغطرسة الحاكمة .
- ماذا تقصدين ؟
- تعالي معي .
تمسك السيدة العجوز بيدها ، بإشارة منها تجد أميرة نفسها في مدينة كبيرة يتوسطها نهرا كبير وتحيط بها البساتين الرائعة والأشجار المثمرة والحدائق الجميلة والإعشاب الخضراء ، والناس في مرح وسعادة وسرور...
- ما هذه المدينة الرائعة؟
- إنها مدينة النور يا ابنتي ، تعالي نسيح فيها .
تسير أميرة بخطى يسيطر عليها الخوف..
- لماذا تمشين وأنت خائفة يا أميرة ؟
- كنت في حياتي الدنيوية امشي وأنا احمل مقدار من الخوف .
- مما كنت تخافين؟
- من رجل يطاردني ، لم تكن الشوارع مأمونة على كل حال، وكنت أتجنب السير بمفردي بقدر الإمكان ، لم أكن ارتاد الأسواق إلا لحاجة ملحة، ولا اخرج من البيت إلا قليلا.
- الم يكن هناك ما يشغل وقتك يا أميرة ؟
- حياتي كانت رتيبة ، كل شي تقريبا في عداد المحظورات، التلفزيون ما برح رجال الدين يحذرونا منه ، حتى الألعاب الرياضية وكرة القدم يفتون بشأنها ليقولوا بان فيها إشكالا شرعية لان المرأة سوف تشاهد رجالا يرتدون ملابس تبرز جزء كبير من أجسادهم ! لم يكن في مدينتي أية أماكن ترفيه كالسينما والمسرح والسيرك والنوادي الرياضية ، كل شي كان ممنوعا علينا نحن النساء في المقام الأول، وفي مثل هذه الحياة الكئيبة المملة كنت اشغل وقتي بالقراءة وحضور المجالس النسائية الفارغة في معظمها للتسلية وتضييع الوقت ، اقترحت علي بعض صديقاتي مراسلة إحدى الصحف المحلية والكتابة فيها إلا أني رفضت لأنها تشترط أن تكون مساهماتي باسمي الحقيقي .
- وهل اسم المرأة محظورا في بلادك يا أميرة؟
- كان يشكل عيبا وايما رجل يكشف اسم أخته أو زوجته أو ابنته يواجه الملامة وتلاحقه العيون الساخرة .
- لو قدر لك وعشت وتخرجت من الجامعة، ماذا كنت ستعلمين؟
- فرص العمل في بلادي قليلة، اغلب الظن باني سوف أتزوج وأعيش مثل باقي الفتيات.
- الم يكن لديك طموحا بان تكوني إنسانة ذو قيمة؟
- أنا امرأة، لم اعرف نفسي وذاتي وكياني إلا بهذه الكينونة، وان مهمتي في الحياة المحافظة على جسدي وتسليمه إلى زوجي المرتقب دون أن يمسه رجل آخر .
- الم تشعري بالأسى لهذه الحياة الفارغة ؟
- أحيانا كثيرة كنت اشعر بإحساس غريب، ينتابني رفض لحياتي واشعر بان ليس لها معنى أو قيمة ، كنت أتضايق كثيرا من العباءة التي ارتديها والقفازات التي تستر يداي ورجلاي خاصة في فصل الصيف ، أتساءل أحيانا عن سر منعي من العمل بحجة كوني امرأة ، وهل أنا فعلا فتنة وسلاحا للشيطان كما يقولون؟ لماذا أهمش لدرجة أني عندما اذهب إلى مطعم احرم من دخوله لأني فتاة وعيب عليها أن ترتاده لتأكل كباقي الناس، مرة ظهرت نتائج الفصل الأول من الجامعة على الانترنت ، ولم أكن امتلك جهاز حاسب آلي ، ذهبت إلى اقرب مركز للانترنت لأعرف نتيجتي إلا أن الموظف صدني قائلا" ممنوع دخول النساء!! .. كنت اظهر بعض علامات الاحتجاج إلا أن الواقع الذي أعيشه مطبقا علي بصورة لم أكن إطلاقا قادرة على رفضها، لم كان اعرف في حياتي غير النظام الذي كنت أحياه ، لم يكن مسموح لأحد بان يعيش على غير هدى ما يعيشه الجميع ،وما نشاهده في المجتمعات الأخرى كان ينظر إليه على انه فسادا وانحرافا عن إرادة الله .
- وماذا لو قلت لك يا أميرة أن حياتك لم تكن سوى سراب، ولم يكن ليباركها الله في يوم ما؟
- ماذا ؟؟؟؟؟؟
- نعم يا عزيزتي، كنت تعيشين في صحراء قاحلة، ليس فيها واحة خضراء تنقدك من حيواناتها المفترسة وعطشها الشديد ووحشتها الرهيبة.
تبكي أميرة بكاء مرا، تضرب بيديها على رأسها، تهيم في أرجاء المدينة، تنادي على أبيها، أمها، أهلها، صديقاتها، ولكن لا احد يسمعها، .... انظري يا أميرة إلى من حولك جيدا، إنهم بشر مثلك ، يعيشون حياتهم السوية ، لم يحرموا أنفسهم من شي ولم يكن الدين بما يدعو له من أخلاق رفيعة وقيم نبيلة حائلا بين الإنسان ونصيبه من ملذات الدنيا كما كنت تعيشين سابقا ، انظري إلى الجامعات ، الفتية والفتيات يتلقون محاضراتهم إلى جانب بعضهم البعض، انظري إلى الشوارع ، هناك نساء متحجبات وأخريات غير ذلك، الكل في سبيله ، لا حق لأحد فرض قيمه على الآخر، ومع ذلك لا يمكن أن ترين امرأة أو رجل يشهر تبرجه ويسير في الطرقات والشوارع مستعرضا مفاتن جسده ومثيرا لغرائز الآخرين ، لان هناك نظاما محكما ونهجا قويما نابعا من الضمير والآمال العريضة في حياة مغمورة بالنور ... انظري يا أميرة إلى الطرق المعبدة، المدارس، المستشفيات، الجامعات والمعاهد، إلى كل شي، سوف تجدين الرجل إلى جانب المرأة يعملان سويا من اجل خير البشرية..
- (ببكاء نحيب) .. لقد لقنوني منذ صغري أن الاختلاط حرام، يغضب الرب، وسبب حلول النقمة والعذاب
- يا لمأساة ما تعلمته يا أميرة، إن الإنسانية رجل وامرأة، فلا بد إذن من التقاءهما في مرضاة الله، هل كنت في دنياك تستطيعين السير برجل واحدة؟ فإذا ما فعلت ذلك كانت خطواتك عرجاء تتخبط هنا وهناك ، كذلك المجتمع الإنساني لا بد أن يسير بالجنسين معا لتحقق أهداف السماء، ولا يمكن ذلك من غير لقاء في الله ، انظري يا أميرة إلى هذه المرأة ، إنها تخرج من منزلها دون أن إذن زوجها! إنها إنسانة تعيش حياتها حرة كريمة كما خلقها الله، لم يأمر الله بالزواج لكي يستعبد الرجل زوجته أو أن تكون المرأة فيه اقل شانا من زوجها،، انظري يا أميرة إلى الرجال والنساء وهم يمشون في الأسواق ويرتادون كل ما تنشده الحياة الحرة الكريمة الهانئة دون فصل بينهم أو قوانين عرجاء أو أنظمة مجحفة تفرضها العقول المريضة والنفوس الذائبة في الظلام .. انظري يا أميرة إلى حفل الزفاف هذا، لم يكن الرجل ليدفع مهرا يعتبره ثمنا لجسد المرأة ومباركة لاستحلاله كما يحدث في مجتمعك البائس ، إنما الزواج عقد ورابطة بين حرين كريمين يسعى للمحافظة على النسل وبقاء الكائن الإنساني إلى ما شاء الله .. انظري يا أميرة إلى كل شي فلن تجدي غير النور حاكم على العقول والقلوب والأرواح..
تلمح أميرة مجموعة من الفتيات قادمات نحوها.
- من هؤلاء ..
- لا تخافي إنها أرواح سبقتكِ إلى هذا العالم...
تكلمها إحداهن ..
- مرحبا أميرة ، أتمنى أن تكوني بخير ؟
أميرة تلوذ بصمتها والدموع ما برحت عينيها..
تسألها أخرى ...
- أميرة سمعنا انك غادرت الحياة محترقة، أصحيح هذا ؟
- نعم هذا ما حدث .
- ولماذا لم تتقي النيران، الم تحاولي يا عزيزتي ؟
تنفجر بالبكاء الذي يدوي في إرجاء المدينة .. تتطلع إليهن وهي تشعر بالعار..
تجيبها بعد أن سكن روعها قليلا...
- كنت اشعر باني خالفت ديني وتجرأت على معصية خالقي إذا ما ظهرت إحدى يداي لأي رجل غريب ، كنت اعنف نفسي دائما ولا ابرح منزلي حتى اشعر بان الله قد سامحني ، أما الآن فانا اشعر باني كائن ممسوخ ، مشوه، ولست إنسان طبيعي ، إن تصرفاتي الحمقاء حرمتي بهجة الحياة ونضارتها.. يا أخواتي كنت استطيع الخروج من الخيمة واتقاء شر النيران إلا أني لم افعل ....
الفتيات في اندهاش، جميعهن يسألنها" كيف ذلك وهن في حيرة من أمرها.... تنظر إليها السيدة العجوز وكأنها تحثها على مواصلة حديثها..
- كنت اعتقد بان خروجي من الخيمة وأنا غير محتشمة عمل غير مقبول وسيغضب الله وسيلحقني به العار ما حييت! لذلك قررت أن أبقى في الخيمة، فاحترق جسدي وانتقلت روحي إلى عالمكم...
الفتيات جميعهن بكين من كلام أميرة ...
- يا لبؤس ما رويته لنا يا أميرة، تضحين بحياتك وتقصمي أجلك من اجل قيم بلهاء وآراء متحجرة، وسلطة متعنت، لا تجد في الإنسان سوى أداة لتحقيق مصالحها؟!
- أرجوكن لا تشعلن مجددا الأمي وأحزاني
تقول لها إحداهن ..
- أتعرفين كيف مت يا أميرة؟ كنت فتاة مقبلة على الحياة إلا أن المرض الخبيث داهمني، قررت تحديه فكانت بيني وبينه جولات من الصراع المحتدم ، واستمر عمري لأكثر من10 سنوات من مرضي ، وما غادرت الحياة حتى تزوجت وأنجبت وتمتعت بعمري القصير ما استطعت، وأنت تضحين بعمرك وشبابك وقبل ذلك إنسانيتك لأفكار سوداء معتمة حكمت حياتك وحولت إلى مجرد امة ليس له وزن في الحياة .
تبكي بناء مرا، وتبكي معها الفتيات حسرة على عمرها الذي أضاعته في لحظات حمق متوقدة.. إلا أن رجل دو صبغة ملائكية يقترب منهن..
- أنت أميرة، أليس كذلك
- (تنظر إليه ببؤس) إذا كنت تقصدني فنعم أنا أميرة، مجرد اسم سيختفي من ذاكرة الزمن قريبا.
- لا تحزني يا ابنتي، إن الرب رءوف بك وبنا وبجميع خلقه، انك ضحية حلقات متراكمة في عمق التاريخ من الأخطاء الفادحة التي نرفض الاعتراف بها فضلا عن الالتفات إليها.
- ومن تكون أنت يا ترى؟
- أنا رجل دين ، سخرت عمري لبلوغ مرتبة عليا في تحصيل العلوم الدينية ، وكنت أفتي الناس بالحلال والحرام،أنا يا أميرة من جملة من أفتوا ضد إنسانية المرأة وحقها المشروع في الحياة ، أنا من قلت بان الزواج نوعا من الرق، وان المرأة رقيقة للرجل، أنا من افتيت بجواز حبس المرأة مؤبدا من قبل زوجها ، أنا من افتيت بان خروج المرأة من بيتها لا يجوز من دون إذن زوجها وكأنها امة لا زوجة، أنا من أفتى بان الأب يجوز له أن يزوج ابنته وهي طفلة رضيعة لا تعي ما يدور حولها ولا تهتدي لرشاد، أنا من جرحت في شهادة المرأة وقلت بنقصان أهليتها للشهادة وكأنها ليست إنسان يمتلك ما يمتلكه الرجل من بصر وبصيرة وجوارح ، أنا من خطبت على المنابر وخططت الكتب التي ساهمت في تحطيم شخصيتك وحولك إلى إنسان ليس له قيمة أو ثمن إلا بمقدار ما يتمتع به جسدك من سحر وفتنة ! أنا السبب الأول في فناء عمرك وحلول أجلك قبل أوانه، سامحيني يا ابنتي أرجوك..
تعانقه ليبكي الاثنان بكاء الجزع والخوف والتوبة، تبكي معهما الفتيات والسيدة العجوز كذلك....
- عندما استقريت في هذا العالم حاولت الاتصال بأقراني رجال الدين إلا أني لم استطع، مرة واحدة فقط تمكنت من لقاء احد اعز أصدقائي وأسررت له اعترافي بانحراف فتاواي عن الحكم الواقعي ، وطالبته بنشرها في أوساط رجال الدين إلا انه اعتبر ما سمعه مني اضغاط أحلام !
تلفت أميرة إلى السيدة العجوز
- أليست ثمة طريقة لأعود إلى الدنيا واخبر أهلها بما هم عليه من رق واستعباد ؟
- إن هناك طريقة واحدة يا ابنتي
- ما هي؟ اخبريني بها أرجوك.
- عليك أن تعودي إلى القبر الذي يضم جسدك، وهناك تطلبي منه السماح والغفران ، فان قبل منك ذلك عدتي إلى الحياة لتقضي ما تبقى من عمرك الذي حددته لك السماء من قبل ميلادك .
بدموع تنهمر من عينيها .. أيجب علي أن ألج في تلك الحفرة المظلمة ؟
- هذا هوالحل الوحيد يا أميرة ، لا بد لك من ذلك
- ما رأيك يا سيدي ؟
- اذهبي يا أميرة لعلك تبلغين مرامك وتنقدي نفسك وتكفري عن خطيئتك
- نعم أنا موافقة.. سأذهب
... تهب ريح عاتية، تمسك أميرة بيدي السيدة العجوز ورجل الدين، إلا أنها تجدب أميرة بشدة، تمسك الفتيات برجليها ولكنها تطير في السماء الحمراء.. .. تناديهم أميرة وسط بكاء الفتيات ودموع رجل الدين ..أرجوكم ساعدوني لا تدعوني أغدو وحيدة
- لا بد من ذهابك إلى القبر يا أميرة، حولي ظلامه إلى نور يشع في العوالم، فلتكن تلك الحفرة المظلمة جنة غناء..
- كيف ذلك يا سيدتي؟
- بالحرية يا ابنتي يغدو الظلام نور والعتمة ضياء والليل البهيم يزدان بالكواكب البراقة التي تنير للسائرين الدرب الطويل...
(4)
القبر موحش، سكونه رهيب، كل شي بداخله يوحي بالانهاية ، جحافل الظلام تسيطر على الحياة في عالم الموت ، الجسد أسير قطعة قماش بالية لم يعد لها جدوى أمام الكائنات التي تنهش في بقايا جسد أنثوي، تشعر أميرة بإقدام الإحياء الذين جاءوا لزيارة قبرها، تسمع كلامهم بشأنها،وهم ما بين مادح وقادح ، كلما أنصت لهم تزداد آلامها وتبكي ..تصرخ داخل القبر وتعلن بأعلى نبراتها عن توبتها ورغبتها الصادقة في التكفير عن ذنبها، فجأة تهتز الأرض ويشرق ضياء من أعماق المجهول، لم تستطع أميرة النظر أكثر، تغرب بوجهها عن كل شي لتسمع صوتا حانيا وحزينا يخاطبها...
- ماذا تريدين يا أميرة؟ لماذا ايقطتني من سبات العدم؟
- من أنت ؟
- ألا تعرفيني يا أميرة، أنا رفيقتك أثناء حياتك، أنا روح جسدك.
- هل أنت حقا روح جسدي؟
- نعم يا أميرة ، لماذا عدتي إلى القبر، ماذا تريدين ؟
- أريد أن اكفر عن خطيئتي واغسل ذنبي العظيم بحق جسدي.
- لقد انتهى كل شي، لا يمكنني العودة إليك.
- أرجوك ساعديني، أنا في عذاب مهول.
- أميرة انظري إلى هذا الجسد، كيف يمكن إصلاحه وعودته إلى الحياة من جديد؟
- حاولي أرجوك.
- لا يمكن.. انظري جيدا إلى هذا الجسد المسكين، لطالما حمل روحك وكان لك نعم المعين ، انه نعمة عظيمة من نعم الله عليك ، كان من المفترض أن تحافظي عليه ، انه الآن لا يصلح لشي ، لقد تكالبت عليه الكائنات الصغيرة واخدت تنهش فيه، وسيغدو عظاما ليس لها قيمة بعد أيام قلائل .
- أميرة والدموع تنهمر من عينيها .. أرجوك لا بد من وسيلة لتذب الحياة في أجزائه
- كلا يا أميرة، لقد أنهيت عمرك بنفسك، لا يمكن لهذا الجسد أن يعود من جديد، لقد رميتي به إلى النيران بكامل إرادتك، لماذا فعلت ذلك يا أميرة؟ هؤلاء الذين ضحيتي بنفسك من اجل قيمهم المجنونة وذكوريتهم المستبدة وعقائدهم الممسوخة ويحكمون أرضك ووطنك وشعبك بها يعيشون الآن بين نسائهم وأبنائهم مستأنسين بكل مباهج الحياة ، كانت بنات بعضهم في ذلك العرس الدامي وقد حمدوا الله كثيرا وخروا له سجدا لان فلذات أكبادهم فررن بجلدهن من النيران المتلاطمة ..
تبكي أميرة بحرقة، تشعر بيد حانية تمتد إليها.. هذه يدك يا أميرة برغم ما فعلتيه بها آثرت على نفسها أن تخفف آلامك وتدخل السرور على قلبك ، وداعا يا أميرة والى الملتقى في يوم الحرية العظيم ...
تغادر أميرة قبرها والبكاء لا يفارقها حتى أضحت تعرف به بين الأرواح ، تحلق في فضاء الدنيا ، تعرج على منزلها ، أبي أمي أنا أميرة ،حبيبتكما الغالية، ضماني لحظة إلى صدركما الدافئ عل عويل الفراق يفارقني ولو للحظة واحدة ، هي كل ما أتمنى بعد أن غدوت روحا هائمة في هذا الوجود ..... لكنما لا يسمعانها، وعلامات الحزن وآلام الفراق بدأت على محياهما ، لا تستطيع رؤيتهما أكثر من ذلك ، تغادر المنزل وهي تدعوا الله بان يحفظهما من كل سوء ، تسير في شوارع مدينتها المكبلة ، تشاهد النساء وهن منشغلات بحياتهن الرتيبة ، تجوب المدينة فلا تنظر امرأة واحدة تناضل في سبيل النور الذي اكتشفته بعد فوات الأوان .. أيتها النساء لم تخلقن لتكن إماء للغطرسة الحاكمة، إنكن تمتلكن طاقة خلابة وقدرت هائلة تدك عروش الكبرياء ليغدو الإباء حاكما على العقول والقلوب ، اعملن من اجل حياة مليئة بالنور ، تزخر بالعطاء ، كن ماجدات كما خلقن الله ، ما قيمة الحياة في الهوان والذل ، إن الدين رحمة للإنسان ولم يكن أبدا في يوما ما مجافيا لحريته التي حباه الله بها، إن فهمكن للدين يصب في مصلحة ملوك المال الذين يحكمونكن ويتحكمون بمصيركن ... لا احد يسمعها ، لا احد يجيبها، الجميع خاضع للسلطة الحاكمة ، الكل مستسلم لقوى الشر .. تنهمر من أميرة بضع دمعات، تشعر بنسائم غريبة تهب عليها من بعيد...أميرة أنا مخلوق رباني خلقني الله من دموعك لأكون معك في حياتك الجديدة، لقد غفر لك وستنعمين بالسكينة ، تعالي معي يا عزيزتي
- وشعبي الذي يعيش في الأغلال ؟
- لا تقلقي يا أميرة ، سيتحرر الإنسان يوما وينال حريته وكرامته المهدورة، ذاك عهد الله ولن يخلف الرب وعده ، تعالي معي إلى حيث النور الذي لا يخفوا أبدا
.. تمسك بيديه ، تلقي النظرة الأخيرة على بلادها، وتحلق في الفضاء متوجهة إلى عالم الجمال والسناء والحقيقة الخالدة ..