الإشاعة.. تبدأ بكلمة وقد تنتهي بدمار المجتمع وتفتيت لحمته
الإشاعة.. تبدأ بكلمة وقد تنتهي بدمار المجتمع وتفتيت لحمته
الحروب والأزمات مناخ صالح لرواجها
بغداد ـ ماجد موجد
ذكر عالم الآثار الشرعي " مايكل ترمبل"المشرف على فريق نبش وفحص القبور الجماعية أن اغلب ضحايا حملة الانفال لاسيما النساء منهم كانوا قد خبأوا هويات الاحوال المدنية الخاصة بهم في طبقات ثيابهم الداخلية بعد ان لفوها بقطع من القماش وكأنها جزء من تلك الثياب ، علامة على انهم كانوا يعرفون بان مصيرهم سيكون الموت والدفن بهذه الطريقة البشعة التي وجدوا بها، ولذلك ارادوا ان يبقوا دليلا للتعرف عليهم بعد ذلك.
أما السبب الذي جعل أولئك المواطنين " الضحايا" يعلمون مصيرهم المحتوم ، فهو الاشاعة التي تسربت بينهم حينذاك ومفادها: ان عددا من العوائل قد اعتقلت وكانت النية تهجيرها وتوطينها في اماكن بعيدة ، ألا انه تم قتلها ودفنها، الاشاعة "الحقيقة" في هذا الشأن اسهمت في اضافة دليل مادي على الوحشية التي كان النظام السابق يمارسها ضد شعبه دون اي واعز من ضمير.
تعرف الاشاعة على انها أمر يذاع بين أوساط الناس ولا يكون له أصل في اغلب الاحيان، والهدف يكون لاثارة البلبلة و الفتن والقلاقل ، أو تحقيق غايات معينة، أو التأثير على معنويات الناس، ونظراً لخطورتها، وعميق تأثيرها فقد كانت الاشاعة وما زالت وسيلة كبرى من وسائل الحرب النفسية التي تقوم بها دول أو جماعات لتكون لهم عوناً في حربهم وهذا يشمل جميع الاصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية فعلى الصعيد الاخير نجد ان الاشاعة لعبة ذات تأثير كبير في الحقل التجاري تقوم بها الشركات المتنافسة والتجار فمن الممكن ان تتجمد بضاعة ما في الاسواق دون ان يكون هناك اي طلب عليها اذا مااشيع عنها انها غير صالحة او ان مصادرها مشكوك فيها.
وتشير تقارير كثيرة الى أن اكثر الشعوب تقبلا وتأثرا بالاشاعة هي تلك التي تخضع لمهيمنات آيديولوجية منحصرة بالوثوق بكل ماهو ميتافيزيقي، أي الايمان بالخطاب والفكر المغرق بالغيبيات والتكهنات، تلك التي لا تولي اهتماما اكيدا وراسخا بما هو منطقي وعلمي وبديهي على الرغم من مفاصل كثيرة من الكتب السماوية اكدت على نبذ الشائعات والاخبار التي لم توثق مصادرها،فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).
الاشاعة والاعلام والحكومة
لعبت الشائعة دورا مهما في تحديد العلاقة بين الـمجتمعات وانظمتها، فالشعوب التي تعاني من انظمة مستبدة عمدت في بعض اساليب كفاحها الى الاشاعة المختلقة او المهَّولة عن حدث ما قامت به تلك الانظمة لكي تزيد من تشويه صورتها انـتـقاما من سياساتها الطاغية الجائرة واسهاما في تسريع سقوطها، في الوقت نفسه نرى ان الانظمة هي الأخرى اتخذت الاشاعة وسيلة في المجابهة وتمرير ماتريد فعله دون رقيب فكل ماكانت تفعله مؤسسات الاعلام ابان حكم صدام هو الحافظ على مصلحة الرئيس وعائلته وحاشيته وافراد عشيرته، والدعاية الى انجازاته وتبرير خروقاته وحروبه، وجعله احد اولياء الله وخلفاءه في الارض وانه يمتلك اسماءً بعدد اسماء الله الحسنى، من خلال عدة منظومات واجرءات منها، شعبة الحرب النفسية التابعة لمخابرات الدولة، وقد أعتمدت هذه الشعبة مادة الاشاعة لتمرير صفقة او التخفيف من اهمية حدث داخل وخارج البلد او اي اجراء اخر يحتاج الى مشاغلة العقل الجمعي عن طريق الاشاعة. وهناك امثلة كثيرة لما قام به النظام السابق باستخدامه الاشاعة لادامة دكتاتوريته لاسيما في المناطق الفقيرة وغير المتعلمة ـ وهو ماكانت عليه اغلب مناطق العراق ومازالت ـ فمثلا اشيع مطلع الثمانينات ان مخابرات صدام وضعت اجهزة تنصت في المنازل لتلتقط كل مامن شأنه ان يسيء الى "الحزب والثورة" ماجعل الناس لاتنبس ببنت شفة عن كل ماكان يفعله النظام ورأسه، او من مثل عصابة "ابو طبر" وغيرها لتصفية الخصوم، ومن ذلك ايضا الادعاء بافشال محاولة لتفجير مرقد الامام الحسين -ع- قام به عملاء لايران كي يتم في خلال ذلك تهجير الآلاف من الشيعة العرب والاكراد الى ايران بحجة اصولهم التي تنتمي لهذا البلد.
يرى احد اساتذة الاعلام في جامعة بغداد، ان الاعلام العراقي قد استخدم وعلى مدى اكثر من ثلاثين عاماً فقط من اجل تحسين صورة رأس النظام من خلال بث الاشاعات عن حسن خلقه وشجاعته ونزاهته وتهويل الافعال والاعمال التي يقوم بها بما يصب في صالح بقائه مدة أطول فضلا عن منع المواطنين التعاطي مع اية جهات اعلامية اخرى وذلك من خلال المراقبة المستمرة التي لاتسمح بدخول اية صحيفة او مجلة الى البلد وكذلك منع استخدام اجهزة الستلايت او غلق اغلب المواقع على الانترنيت من تلك التي تفضح سياسات ذلك النظام وللامانة ان هذا التطور في وسائل الاعلام المقروءة منها اوالمسموعة او المرئية، و توسعها الهائل قد تسبب بنشر الشائعات على نطاق واسع، مثلما استخدمت وسائل أخرى لتفشي المعلومات، كالمنشورات والملصقات او عن طريق جهاز الموبايل، ليس فقط لحشو ادمغة المتلقين بالافكار والمعلومات المراد استخدامها لصالح أهداف سياسية فحسب، بل من خلال تحييد مواقف الناس لجهة عدم الاعتراض او رفض الافكار والمفاهيم المروجة، أو نرى العكس لان بعض وسائل الاعلام الحيادية التي تتمتع بنوع من الاستقلالية، تلعب دورا بالغ الاهمية في حياة بعض المجتمعات، من خلال نزع فتيل النزاعات العدائية وتبديلها بصراعات مدنية وحضارية. كما تلعب وسائل الاعلام التقليدية في الغالب دورا تثقيفيا وتعبويا في بعض المجتمعات، فوعي المجتمع يلعب دوره البارز في التأثير المباشر على الإعلام، والعكس صحيح أيضاً.
الاشاعة في المنظور العلمي
يعرف الدكتور احمد علي استاذ علم النفس الشائعة بقوله: انها قول او كلام او رأي يقدم عن طريق الكلمة الشفهية او المسموعة او المكتوبة لكي يصدق دون ان يرفق ذلك بأي دليل او برهان. ولقد مرت الشائعات بمراحل عدة كانت بعد الحرب العالمية الثانية تنقل شفاهية من الفم للاذن عن طريق الكلمة المسموعة، لتصبح في القرن الواحد والعشرين تنقل عن طريق الصحف، وللشائعة خصائص تسهم في ظهورها وانتشارها واهمها، وجود الازمات والكوارث حيث تظهر وتتكاثر الشائعات في اوقات الحرب والكوارث اكثر من اوقات السلم، فلكي تظهر الشائعة يجب ان يكون هناك اهتمام من قبل الجمهور اي ان تحمل شيئا من الاهمية وثمة شائعات تتأثر بها جهة بعينها ولا تهم جميع المجتمع فضلا عن ان الوقائع الحقيقية التي تكون على جانب من الغموض وهو عادة ينشأ من عدم الثقة بالاخبار الواردة او انعدامها وفي هذه الحالة تكون الاجواء خصبة لظهورالشائعة.
وعن الاثر الايجابي الذي من الممكن ان تحققه الشائعة قال الدكتور احمد: كما قلت الشائعة امر لااصل له ولذا فان اثرها الايجابي يصب في مصلحة مصدرها الاساس والغاية التي اطلقها من اجلها، ومهما كان مضمونها سيكون دورها سلبيا وقد تكون مؤذية حتى ولو كانت على شكل نكتة او مزحة او بسبب دوافع شخصية عدوانية, وكثير من عائلات مجتمعنا تضررت من شائعات كانت على سبيل الثرثرة او المزاح لاسيما ان مجتمعنا قابل للاشاعة اذ يقال مثلا ان النساء هن أكثر من يتناقل الأخبار والاشاعات وقيل أن سبب ذلك هو حبهن للثرثرة وأنهن يجدن الكثير من وقت الفراغ وليس هناك ما يسده سوى تتبع الأخبار ونقلها بعد تحميلها بما هو مدهش ومثير لكي يشددن الانتباه، وانا هنا اتحدث عن الاشاعة السلبية فلو ان فتاة ولكثرة خروجها من البيت أشاع احدهم عنها انها فتاة سيئة ستبقى هذه السمعة تدور حولها مهما غيرت من تصرفها وقس على ذلك الكثير من الامور التي تظهر في المجتمع.أما الدكتور سالم حبيب قسم الاجتماع فيرى ان الاشاعة مقولة قد تكون ايجابية او سلبية تقوم على نصف الحقيقة، فعندما نقول على سبيل الاشاعة مثلاً الفنانة فلانة تزوجت فنصف الحقيقة هنا هو وجود فنانة والنصف الاخر غير الحقيقي هو زواجها، ويمكن ان تجيب الشائعة عن استفسارات الناس او عن رغباتهم التي يأملون بهذه الطريقة تحقيقها مثل شائعة زيادة الرواتب التي تشكل رغبة وهاجساً عندهم والى ذلك من الاشاعات التي نكاد نمل من سماعها يوميا. ويضيف: ان الاشاعة مرتبطة بالناس واهتماماتهم ومادام الناس في تجدد فاهتماماتهم متجددة ولأنهم مصدر الاشاعات فالحب والتعامل الخلاق يحد من الاشاعات التي تسيء للآخرين ,كما ان هناك اجهزة متخصصة في معالجتها وعلماً جديداً متخصصاً هو ادارة الازمات يتصدى لتلك الحالات وفي كل الاحوال تعد الشفافية والموضوعية والصدق والمواثيق التي تدعو للاخلاق تسهم في الحد من عدم انتشارها.
وتنتشر الشائعة اذا توافر لها شرطان هما الاهمية والغموض، لذا نجد ان الحكومات والدول تجند علماءها وباحثيها للكشف عن العوامل المختلفة التي تساعد على ترويجها بل توجه سياسات البحوث فيها الى دراسة آثار الشائعات من الناحية السلبية، ومن الناحية الايجابية، ويقصد بالاخيرة استخدام الشائعة ضد العدو ولمصلحة الوطن، اما من الناحية السلبية فيقصد فيها تأثير شائعات العدو على انخفاض الروح المعنوية الوطنية وهزها وتخلخلها بسبب سرعة انتشارها وتأثيرها فيها وتصنف الشائعات كالآتي: /الشائعة الحابية -الاندفاعية وهذه تمارس في أوقات الكوارث والحروب والشائعة الغاطسة- اي شائعات الأحلام والأماني- شائعات الخوف- شائعات الكراهية-الخ.
سبل تجنب الاشاعة
يشير احد التقارير الى ان من المهام التي يجب ان تضطلع بها منظمات المجتمع المدني التركيز على حماية العقل الجمعي من الاشاعة والحرب النفسية التي تحاول أطلاقها جهات وميليشيات اومؤسسات اخرى- ربما لها شكل مؤسسات المجتمع المدني - لها اغراض معادية او عابثة في النسيج الاجتماعي، عن طريق التصدي لتلك الاشاعات وكشف اغراضها والقائمين على تنفيذها وعلى سبيل المثال يفترض الان بمؤسسات المجتمع المدني العراقية في الداخل والخارج اقامة ندوات ومؤتمرات وابحاث حول الضرر المحدق في مجتمعنا والوقوف على أسبابه ومن الذي له مصلحة في اشعاله وماهي القوى المحلية والاقليمية والعالمية التي لها مصالح تتناغم مع الارهاب والتفتيت للنسيج الاجتماعي العراقي وما الى ذلك..
اذ يؤكد التقرير بأن احداث مروعة شهدها العراق لاسيما في السنوات الثلاثة الاخيرة كانت وراءها الاشاعة فحادثة جسر الائمة التي راح ضحيتها مئات الشهداء والجرحى كانت نتيجة لاشاعة، فضلا عن اشاعات تتردد على مسامعنا يومياً وتنتشر في ازقتنا واحيائنا المراد منها تحقيق مرام واهداف لصالح جماعات لاتريد الخير لبلدنا واهلنا.
